من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (23)

منذ 2017-09-11

سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).

قرار الإفراج:

ككلّ يوم، في يومي السادس للاعتقال، صعدت مع إطلالة الفجر مقيدة الأيدي والأرجل إلى البوسطة، نظرتُ لعيني سحر فأدركت عمق التعب الذي نال منها في التحقيقات الأخيرة التي كانت تنتهي قبيل الفجر يحاولون أخذ اعتراف منها ضدي ليجرّموني به.

لهج لساني بدعاءٍ لها أن يعجّل الله لها الإفراج، بينما كانت هي بجانبي تدعو وتقول: "يا رب حكم القاضي إلك إفراج!" كانت تحدثني بلهفة الكون أنها تخشى على أبنائي، تخشى عليّ البرد، يشقّ عليها تعرضي للتحقيقات والإهانة طوال اليوم ناسيةً نفسها متغاضيةً عنها!

تجاذبنا أطراف الحديث وتشاركنا أمنياتنا لبعضنا بالإفراج بينما يقوم جنود الاحتلال بإجراءاتهم الروتينية في تنقلنا بين البوسطات بشكلٍ منظم، ففي المرحلة الأولى نصعد للبوسطات بشكل عشوائي، ثم يتم فصل السجناء لقضايا أمنية وجنائية رجالاً ونساءً، ثم فصل الرجال عن النساء، لتستمر تنقلاتنا هذه لما يقارب الثلاث ساعات والقيد ينخر عظمنا نخراً.

وصلنا للمحكمة فمددوا اعتقال سحر، وأمروا لها باتصال مع عائلتها وإحضار ملابس لها فأدركتُ أنها ستنقل لسجنٍ للإقامة فيه بمدةٍ ليست هينة، أما أنا فحُكمت بالإفراج خلال ساعات في حال لم تثبت عليّ تهمةٌ تستدعي تمديد اعتقالي.

التقيتُ في البوسطة بسحر مجدداً وأنا أكتم دموعي حرقةً عليها، وأرى السعادة تطلّ من عينيها وكأنّ حكم الإفراج كان لها وهي تقول: الحمد لله أنا هيك ارتحت!

انطلقنا برحلة العذاب مجدداً لسجن الرملة ليأتي أهلي لاصطحابي للبيت من هناك زيادةً في إذلالنا وتعذيبنا، مع أن بإمكانهم وضعي بسجن المسكوبية في غرف انتظاره حتى تتم إجراءات الإفراج، ولكنهم يتفنّنون في خلق المتاعب والمصاعب لنا!

حين وصلنا، أدركتُ أنه تمّ نقلنا لسجن "الهشارون"، أي سجن للمبيت وأيقنتُ أنهم استطاعوا إلباسي تهمةً جديدة تُبيتني في السجن ليلة أخرى، أخذتُ نفساً عميقاً وأنا أمضي في ساحة السجن لأدخل إليه وأشعر أن ألم القيد في قدميّ زاد عن الحدّ كثيراً، فقد كانوا يتعمدون تقييدي بقيود للأطفال لزيادة إذلالي وعذابي، حتى شعرت أن القيد احتكّ في العظم وخدشه.

مشيتُ وأنا أقاوم الألم في قدميّ اللتان تورّمتا، ولكني وقعت!
هتفت سحر بحرقةٍ ولهفة وهي تحاول مساعدتي للقيام مجدداً، في حين قهقه الجنديّ الذي كان يصحبنا بسخرية شامتاً بي وبألمي وضعفي، سعيداً أنه سيلقي بهذا الجسد المتهالك في زنزانةٍ حقيرة.
رفعتُ نظري للسماء وأنا أدافعُ دموعي كي لا تنهمر قهراً وألماً وهتفت: يا رب! يقيني بكَ أن تفرّج هذا الكرب قريباً، يا رب أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين!

التقيتُ وسحر بأختٍ سجينة حدثتنا بقصتها فأحرقت قلوبنا عليها، وخففت عنا بها مصابنا، فهي أمٌ لخمسة أطفال ترعاهم أختهم التي لم تتجاوز الثالثة عشر وتعتني بهم ومن بينهم طفلٌ لم يكمل سنته الأولى!

كل هذا، وأنا لا أعلم أنهم قاموا باعتقال زوجي من قاعة المحكمة وأخضعوه لتحقيقٍ مذل شاق في محاولةٍ لنزع اعتراف منه يجرّمني، أو يستفزونه استفزازاً ليثنيني عما أنا فيه حتى ضاق بهم ذرعاً وقال:" زوجتي مسؤولة عن تصرفاتها، وأنا ما رح أمنعها عن شيء أو أتدخل فيها، وإذا لقيتوا عليها تهمة جرموها فيها"!
فانسلّت كلماتٍ مستفزة خبيثة من فم الضابط وهو يقول له: مسمي حالك مسلم؟ روح ع أي دولة مش إسلامية إنت مش رجل مسلم، إنتَ رجل كرسي!

مضى الوقت ثقيلاً بطيئاً قبل أن يطل علينا وجه ذلك الجنديّ الذي سخر مني وهو ينادي: هنادي الحلواني معلوماتك؟ أعطيته معلوماتي قبل أن يرمقني بنظرةٍ باردة ندّت عن إحباط وفرحةٍ لم تكتمل وهو يقول: إفراج!

ما إن نزعوا القيد عني حتى ركض زوجي وإخوتي إليّ أتنقل بين أحضانهم المشتاقة وهم يحدثوني كم بحثوا عني بين السجون، فتارةً يقولون لهم أني بقيت في سجن المسكوبية، ثم يقولون أني نُقلت للرملة، و يقولون: لعلها في سجن الهشارون، وهم يبحثون ويسألون ويتنقلون حتى وجدوني!

ولجتُ السيارة وأنا أنظر لسور السجن وأفكر: هل يعلم الاحتلال أنهم حين يحبسوننا كأنما أدخلونا مدرسةً مجانيّة بالغة الأثر؟
حتى المنديل الورقيّ خلف هذا السور له وزنه الثقيل، حتى كأس البلاستيك الذي نشتريه لاستعمال واحد قبل الإلقاء به بسلة المهملات كنا نحرم من شرب الماء لو لم نحتفظ به وننقله معنا حيث ذهبنا.

كلّ شيء خلف هذا السور يبدو قاسياً، وحين تقتحمه تجده كمصنع الحديد، ولا يصقل الحديد إلا النار الكاوية!

يتبع...

المقال السابق
مذكرات مرابطة (22)
المقال التالي
مذكرات مرابطة (24)