سنن الله قي التغيير المستفادة من سورة الكهف (2)

منذ 2017-09-28

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله
سبق وأن تكلمت عن صفات لابد من التحلي بها في المقال السابق للتغيير من وضع الاستضعاف الذي أظل بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

ولكن هنا أحب أن أاتناول هذه الصفات بشيء من التفصيل لأهميتها البالغة للمغير الجاد وللنهوض بالأمة إلى سابق مجدها المشرق ، وأيضاً سأذكر صفات أخرى مهمة جديدة كما يأتي قريبا..

ولقد ذكرت مع التوكل على الله وحده والاستعانة بالله وحده والصبر لله وحده الاكتفاء بالرب وحده جل جلاله وتفويض الأمور إليه فما هو إذا الاكتفاء المطلوب في الشرع وما حكمه وما ملابساته وما خطورته؟.

أقول: اعلم أن هذه المسألة مع خطورتها قليل من فصَّلها افي كتاب مفرد إلا إني وجدت في الدرر السنية حوالي صفحتين فقط. أو ثلاثة.

والحمد لله قد أسهبت الحديث فيها في بحث مفرد أسميته شرح حسبنا الله ونعم الوكيل، ولكن سآخذ منه بعض المقتطفات كما يلي:

الم أن معنى حسبنا الله أي كافينا الله والحسب معناه الاكتفاء ، وكذلك قوله تعالى {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي من يتوكل على الله فهو كافيه.

أما علاقة الحسب بالتوكل فظاهرة وهي أن المتوكِّل لا يُوكِّل أموره إلا لمن يقدر علىه بحيث يسطيع أن يكفيه وأن يقوم مقامه، كما يلزم أن يكون له مثلا قوة كافية وعلم وأمانة وعدالة كامله فيما يوكل إليه من الأعمال.

والله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتخذه وحده وكيلا ويقول لنا {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}.

فقوله تعالى مثلاً {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فيه إشارة إلى قوته الواسعة كما تدل لفظة " رب " على رحمته وإنعامه الواسعتان وقد قال تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ }.

أما حكم الإكتفاء بالله وحده فاعلم أنه من العبادات الخاصة بالله وحقوقه الخاصة به سبحانه التي لا تجوز أن يصرف إلا له والدليل على ذلك قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ }.

فقد حصر الله في هذه الآية كما ترى الحسب والكفاية بالله وحده كما حصر أيضا لنفسه سبحانه الرغبة به وحده بينما لم يحصر الإيتاء بالله وحده بل عطف معه رسوله صلى الله عليه وسلم فعُلم بذلك أن ذلك حق لله خاصة كما أن الرغبة إلى الله حق خاص لله وحده..

قال بعض العارفين: " من عرف الله اكتفى به من خلقه " قلت: والمصيبة أن كثيرا من الناس ممن ينتسبون إلى الإسلام في هذا الزمان لم يعرفوا ربهم حق المعرفة فاشتغلوا بخلقه منه سبحانه بل واكتفوا بالمخلوفات الضعيفة العاجزة فوكَّلهم الله بما أارادوا فخذلهم وأخزاهم في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.

إذن فمن صرف هذه الكفاية أو الحسب لغير الله أو اتخذ من دون الله وكيلا أو كافيا وظن مثلاً أن قوته ودولته أو قبيلته أو ماله كافيه من دون الله ولو لم ينطق ذلك بلسانه فقد أشرك بالله ، بل هو الشرك المحذور في كتاب الله بعينه.

أما تفويض الأمور إليه وحده فمعناه الاستسلام الكامل لله وحده وترك أدنى حول وقوة لك مع التوكل الكامل لله وحده والاعتصام به وحده.

قال تعالى {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}
ويدخل في ذلك ضمناً الالتجاء إلى الله وحده والاستجارة به وحده والاستعاذة به وحده، لهذا كان أول الدعاء في القرآن وأفضله { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كما كان آخر الدعاء ما جاء في المعوذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}

بممنى ذلك هو هداية الله على الصراط المستقيم ومن ثمرات ذلك أن يغفر الله للعبد المؤمن ذنبه وأن يدخله جنته وأن يحييه الله في هذه الدنيا بعيش الرغد والنعيم الهنيء وأن يسقيه ماء غدقا كما قال تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا }.

فإذا اتضافت هذه النعمة نعمة الحفظ وأن يكون للعبد المؤمن معاذا من رب كريم يستعيذ به فيعيذه في أي وقت يريده وهو في أمس الحاجة إليه بأكمل وجهها. فاعلم أنه قد كملت نعمه وآلآءه.

إذن فإنك ترى أن القرآن لما جعل الله في أوله دعاء وآخره دعاءه كان ذلك إشارة إلى أن يحعل الإنسان المؤمن مركبه وسفينته التي ينجوا بها من بحر الشرور التي يعيشه في هذه الدنيا الدعاء بأن يفوض أموره إليه خصوصاً في هاتين الدعاءين المشار إليهما آنفا ألا وهما طلب الهداية على الصراط المستقيم وطلب الحفظ من الله والاستعاذة به إذ بهما تكمل نعمة العبد المؤمن في دنياه وأخراه وبه المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهكذا لابد من التقوى إذ هي المخرج الأكيد للعبد المؤمن من المآزق والنكبا ت بصفة خاصة وبصفةعامة.

خصوصا وإن كانت مقرونه بالصبر العظيم فاعلم أن ذلك من عزم الأمور وأن كيد الكفار لا يضر بشيء أبدا لوعد الله لنا ذلك كما قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ومن ذلك اليقين الذي هو من نتاج تحقيق التوكل والتقوى والتوحيد بصفة عامة فهذا إذن أمر عظيم.

وما من شكٍ أن الله سبحانه لا يخذل عباده المتقين الصابرين له في الملمات المتوكلين عليه والمتيقنين لوعده الحق والواثقين به والمعتمدين عليه في إنجاح حوائجهم ومىآربهم.

كلا لن يخزيهم الله أبدا خصوصاً وهم سالكون في سنن التغيير المشرو عة في خلقه كأخذ الأسباب المستطاعة والصبر في الابتلاء والتقوى والسرية التامة وتوسيع دائرة فكرهم مع حمل الهموم والأعباء وهم مع ذلك كله جادون لا يردهم شيء من السلو ك في هذا الدرب مهما رموهم أعداءهم من قوسٍ واحد أو استخدموا ضدهم أفتك الأسلحة لكونهم يعلمون أن وعد الله لا يتخلف وسيكفيهم الله من القتال بما يشاء من جنوده وقوته التي لا يُقهر كما نصر عباده المتقين الصابرين المتيقنين لوعده الحق في الأحزاب وغيره من المشاهد المعروفة في التاريخ..

وإن أدال عليهم وتلك أيضا من سننه التي لا تتبدل فيصبرون على ذلك وقد قال تعالى {وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} وقد علَّق الله سبحانه الصبر والثبات للجهاد بدخول الجنة بعد هذه الآية كما قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} فكيف إذا لا يصبرون ولا يثبتون ولو يحصل لهم ما يحصل مع في ذلك من الفوائد كالتمحيص لئلا يختفي في صفهم منافق لكونه يظهر في حالات الهزائم أو قد يكون في ذلك مراجعة لأنفسهم وما وقع منهم من الذنوب أو الأخطاء ليتوبوا منه وليصححوا أخطاءهم وإلا فالأصل الغالب أن ينصر الله عباده المؤمنين وإن قلَّ عددهم أو عدتهم إذا نصروا دينه الحق وتمسَّكوا بالأسباب المستطاعة وهو الواقع المشاهد من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة..

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إذا في مثل حالات الاستضعاف المشار إأليها التي هي من الابتلاء العظيم لعباده المؤمنين لا ينجح قيها إلا الصابرون التقاة حق تقاتهم المتوكلون على ربهم حق التوكل المتيقنون بوعود ربهم عزَّ وجلَّ حق التيقن.

فعن حذيفة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال احصوا لي كم يلفظ الإسلام قال فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى سبعمائة قال إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله بألفاظ متقاربة.

وقد حصل الابتلاء كما ترى في هذا الحديث إلى هذه الدرجة حتى ابتلوا ولم يستطع المسلمون وهم في هذه الأعداد أن يعبدوا ربهم إلا سرا إذن فلا ينبغي الاستعجال لإنجاح التمكين في فترة زمنية وجيزة أو بأعداد معينة بل لابد من الصبر الجميل والصفح مع الكف عن كل فعل من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على أفراد المسلمين المستضعين خصوصا في أوقات الفتن...

ولابد أيضا مع ذلك السعي الحثيث للدعوة إلى الله سرا كما كان كذلك حال رسول صلى الله عليه وسلم في أول أمره حتى أُمر بالصدع بالحق في قوله تعالى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} حتى يتسنى للمسلمين النهوض بدينهم والقيام به أتم القيام ولكن لابد أن يتم ذلك بعد أن يكون للمسلمين فوة وشكوكة ومنعة لا يمكن أن يستهان بها.

ومن ضعف الفقه والتصور والحكمة أن يقاس بصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في دار الاستضعاف إذ كان مؤيداً من قبل الله ومعصوماً بعصمة الله وكثيراً من الصحابة كذلك كانوا ممنوعين بقبائلهم وذويهم إلا قليلا ممن ليس لهم نصير من الصحابة المعذبين كأبي وأمعمار وعمار وبلال وصهيب وأمثالهم.

والله أعلم.


الكاتب: عبد الفتاح بن آدم دمشقية