لا سبيل للنهضة بدون التضحية

منذ 2011-04-30

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْت . وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ . عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}


في كثير من أروقة الفنادق ذات الرفاهيَّة العالية، واللقاءات الإعلاميَّة التي تلتقي بها بعض الشخصيات الذين يقدِّمون محاضرات وندوات في قاعات كبرى تصلح لإقامة مؤتمرات عالميَّة، أو ندوات ضخمة ...

وبعد ذلك تكون وجبة العشاء الفاخر مِمَّا يُسمَّى (البوفيه المفتوح)، وتتفتَّح الشهيَّة مما لذَّ وطاب من الأكل المختلف بألوانه وأشكاله، ثمَّ يهرع الجميع إلى البيت، ويتحدثون عن أدبيات النهضة وسلوكياتها، ثمَّ يغطَّون في نوم عميق.


تلك حالة مُشاهدة في واقعنا النهضوي الذي يتحدث بعض رُوَّاده عن هموم النهضة وأدبياتها، ولكنَّ كثيراً منهم ما كانوا إلاَّ عبئاً على أمَّتهم، فصاروا يطلبون النهضة بالدورات التدريبيَّة، واللقاءات الشهريَّة بالأجور الفادحة لحضور محاضرة أو دورة حول هذه القضيَّة، وصارت النهضة المقصودة هي نهضة جلب الأموال إلى الجيوب.

بالتأكيد فإنَّ هذا المقال سيُسبِّب للكثيرين (صدمة) حينما يقرأه بعض أنصار هذه المجموعة النهضويَّة، والذين يظنون أنَّ النهضة مجرد نقاشات في غرف مغلقة و(ورش) عمل، سرعان ما تنتهي إلى أنَّ كلَّ ما دار (مجرَّد كلام)!

وبالطبع فليس كل من ناقش جوانب النهضة والتنمية والإصلاح، كان مع مثل هذه المجموعات (الأرائكيَّة)، والتي تجيد فنون الكلام والحديث عن النهضة على (الأرائك)، فلست من أصحاب سياسة حرق الأوراق، بل منهم من قدَّم لدينه ووطنه في شتَّى الجوانب فكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، لكنّي على يقين أنَّ هنالك من منتسبي فكر النهضة من يشعرون أنَّ الحديث عنها بات ثروة كلاميَّة، ومتعة لفظيَّة، والسعي لتطبيقها من بعضهم صار شيئاًَ نادراً!!

ولكي لا أُفهم خطأً فإنَّني في هذه الأكتوبة المقتضبة لا أعني أنَّ كل قول نظري أو فكري مُدَانٌ؛ لأنَّ صاحبه لا يقف ليتظاهر في الشارع ـ مثلا ـ أو ليس مناضلاً، أو بطلاً مغواراً ! لكنَّها محاولة للنصح لمن مشى في هذا الدرب، والتذكير لمن سار على هذا الطريق، { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].


• لن تقوم النهضة إلاَّ من رحم المعاناة:

قد قيل في الشعر العربي الأصيل:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها *** تنال إلاَّ على جسر من التعب

ومن يقرأ تاريخ النهضة الإسلاميَّة، وكذا النهضة الأوربيَّة فلن يجدها تقوم إلاَّ من قلب المحنة التي تنقلب بإذن الله تعالى إلى منحة، ومن حضن الآلام التي تتضاءل بصبر أصحابها فتصير آمالاً، ولهذا قيل: من لم يُعانِ لم يدرك المعاني!

سأذكر بعض العبارات التي يرددها دعاة النهضة الكلاميَّة ويذكرونها في كتبهم ودوراتهم، وهي وإن كانت قد خرجت من غير مسلمين، إلاَّ أنَّ معانيها صحيحة، والحكمة ضالة المؤمن، فهذا هيلين كيلر يقول: "إننا لا نستطيع أن نتعلم الشجاعة والصبر إذا كان كل شيء من حولنا مرحاً" .

وهذا صحيح فمن يريد أن يتعلَّم الشجاعة والصبر، فعليه أن يواجه الحياة والواقع المعاصر الذي كان قدر المسلمين فيه أن يكونوا أذلاء بعد عزّ، وقد ذاقوا من السَّمُوم والحميم وظلٍّ من يحموم الاحتلال ما لاقوا، فكان عليهم أن يستنطقوا معلوماتهم التي حفظوها وكرَّروها في أوقات التعلم والتعليم، وهذا أرسطو يقول: "التعليم زينة في الرخاء ، وملاذ عند المحن"، فهو ملاذ عند المحن لكي يقوم المرء بخدمة أمَّته ودينه من خلال ما تعلَّمه في سنوات غابرة، وعقود منصرمة، لكي يُحقق الموقف الذي يتوازى مع المعرفة العمليَّة؛ فالموقف والمعرفة يرفعان أقدار الرجال، كما يقول أحد المفكرين الإسلاميين.


إنَّ اللهج بالألفاظ الرنَّانة والجميلة من قبيل (النهضة)، (التنمية)، (الإصلاح)،(التقدم) (التغيير) لا بد أن يتوازى ذلك مع شيء يُحققه المرء في حياته، ليكون ذائداً عن حياض أمَّته، ومن خير ما يقوم المرء بعد سنوات من التلقي والمعرفة، والتدريس والخبرة، أن يكون له نوع من وخز الضمير، ومحاسبة النفس، ومراقبة الذات، وسؤال المرء لنفسه:

ماذا أراد بعلمه في شئون النهضة والإصلاح؟

وهل أراد بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة؟

وهل حقَّق ما تعلَّمه؟

وهل هو قادر على تطبيق ما يقوله؟!

وهل دروب النهضة واضحة ظاهرة لديه؟

وهل خطَّط لها، وقام بدراسة مسبقة لها؟

أم أنَّها مجرد أمانٍ وأحلام يقظة فقط: كما قيل:

مُنًى تُعاودني في كل آونةٍ *** إذا دفعتُ منًى عادتْ عليّ منى

وهل هدفي في الحقيقة هو القيام بنهضة حقيقيَّة في واقع الأمَّة المسلمة المؤلم، أم أنَّ النهضة المقصودة هي نهضتي بالأموال والفنادق والسيارات الفارهة التي تقلني يميناً وشمالاً.


وعلى المرء أن يراقب كل حركات الاحتجاج والمعارضة لمن يتدخل في شئون البلاد المسلمة، وجميع الثورات الإسلامية، والنضالات الجهادية، والحركات التي قامت ضدّ غزو المحتل، فلن يجدها مطلقاً إلاَّ في الصدارة من تقديم التضحيات والإدراك بأنَّ نهضتهم سبيل إلى حتميَّة المواجهة، مع من لا يريدهم أن يكونوا قائمين بها، ومدركين لأبعاد نهضتهم الرامية إلى رسوخ المنهج الإسلامي وتطبيقه في أرض الواقع ودنيا الناس.

والمشكل أنَّ الكثيرين مِمَّن يتحدّثون عن النهضة والتقدم، والتنمية والحضارة، يظنون أنَّ قصارى ما في الأمر مجرد فقاعات من الكلام البارد في الأبنية الشاهقة والمرموقة، وحينما يُطلب منهم أن يقوموا بشيء لخدمة بلدهم ونهضة أمَّتهم يضربون الأخماس بالأسداس ويقولون: إن فعلنا ذلك الشيء ذهب عن الأمَّة الخير الذي نسوقه لهم!!

وأي خير وأي دين فيمن يدرس جوانب النهضة وطرق التغيير والإصلاح، ولا يقوم بنهضة ولا بتغيير ولا إصلاح، وإنمَّا قصارى ما يفعله تدريس لمواد تتحدث عن ذلك، وبطريقة باهتة وفي قوالب جامدة، ولو كان معه ألف دورة في فنون الإلقاء والإقناع!


لقد قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69]، فصلاح هذا الأمَّة التي اغتُصبت كامل حقوقها من طواغيت العجم، أو أمراء السوء من العرب، هي بالنهضة الجهادية في جميع شئون الحياة، ولا يُفهم من الجهاد فقط أنّه الجهاد العسكري، بل هو بجميع أنواع جهاد المبادئ، سواء أكان جهاداً إعلامياً، أو اقتصادياً، أو حقوقياً، وقانونياً، أو تنموياً، وحضارياً، وأشرفه ولا شكَّ جهاد الحجَّة والبيان « فأفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر ». رواه وابن ماجه وأبو داود في سننهما،وصححه الألباني . وجهاد السيف والسنان وهو كما جاء في الحديث « ذروة سنام الإسلام » رواه أحمد في مسنده وضعفه الألباني .

هكذا إذاً ... هو جهاد حضاري نهضوي؛ لكي تنال الأمَّة المسلمة حريَّتها ومجدها واستقلاليتها:
 

ذروة الدين جهاد في الصميم *** فلنجاهد أو لتلفظنا الحياة


إنَّني أفهم أنَّ النهضة الحقيقية وليست من إرث ثقافة (الكلام لوجيا) هي ما يُحققه المرء في حياته لخدمة أمَّته ودينه، وبكل قوَّة وعزيمة وإصرار، (فالحقوق التي أُخذت اغتصاباً لا تُسترجع إلاَّ غلاباً) كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي في آثاره (1 / 35).

وحينما سُئل الإمام الشافعي أيمكّن للعبد أم يُبتلى؟

قال: لا يُمكَّن حتَّى يُبتلى!


والابتلاء لا بدَّ له من صبر على الأذى، ويقين بوعد الله ونصره للمسلم، وحينها فسينال الإمامة والتمكين، وقد قال الإمام سفيان الثوري: بالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين، واحتجَّ على حديثه بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة :24]، ومثل هذا قال الإمام الغزالي: (جاهِد تُشاهِد) وصدق! فمن ذاق عرف، ومن عرف اغترف.

من رام نيل العز فليصطبر على*** لقاء المنايا واقتحام المضايقِ

فإن تكن الأيام رنقن مشربي *** وثلمن حدي بالخطوب الطوارقِ

فما غيرتني محنةٌ عن خليقتي *** ولا حولتني خدعةٌ عن طرائقي

لكنني باقٍ على ما يسرني *** ويغضب أعدائي ويرضي أصادقي


إنَّ أكبر مشكلة يواجهها إنسان النهضة أو من يسعى إلى النهضة أن يكون لديه من المعرفة الكثير، ولكنَّه لا يستطيع أن يصبَّها في واقع الحياة، بل لو جاء أحد الناس ليصنع النهضة تلك، وذهب ليستشير خبير النهضة لربما انتفض وخاف وتلجلج في مكانه، فما أبأسها من حالة يجمع المرء فيها معلومات طوال سني عمره، وحينما يحتاجها الناس: يجبن ويخاف، ولقد قال الفيلسوف (هيرودوت) : (إنَّ أكثر أنواع الألم مرارة عند المرء هو أن يملك الكثير من المعرفة، لكنَّه لا يملك شيئاً من القوَّة).

إنَّها حقيقة سبقه بها النص القرآني الكريم حينما أثنى الله على رسله الكرام بأنَّهم أهل بصيرة (علم) وقوَّة، فقال: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } [ص:45-47].


لقد كانوا يجمعون القوَّة والمعرفة، ولهذا أثنى تعالى عليهم، فلقد كانوا أولي الأيدي والأبصار.

وكذلك نجد في كتاب الله تعالى ثناء أحد الأنبياء على طالوت، وأنَّ لديه القوة العلمية والقوة العملية؛ حيث يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة247]، والعِلْمُ من الصّفات المكتسبة، والجسم من الصِّفات الذاتيَّة، وهذا يعني القدرة على القيام بهذه المهمة من الناحية الفنيَّة، ومن ناحية الأمانة والخلق فيكفي اختيار الله له.

فعندما يكون المرء قوياً دون معرفة؛ فإَّن قوَّته تسبّب له الطيش والتهور، وإن كان معه علم ومعرفة بدون قوَّة وجرأة، فهو أشبه بإنسان الشلل؛ لأنَّ لديه طباعًا نفسيَّة سيئة من قبيل الضعف النفسي والجبن، وما كان الرسل إلاَّ أهل معرفة وقوة، صلى الله عليهم وسلم.


إنّ من يريد النهضة فعليه أن يكون: (مؤمنا ، تقياً، شجاعاً، صامداً، قوياًً).

وسيكون لهذه النهضة ثمن، وهو (الابتلاء والإيذاء، التضحية، الصبر) وبعدها إمَّا نصر يسُرّ الصديق، وإمَّا ممات يغيظ العدى.

إنَّ في قصَّة الغلام المؤمن خيرَ مثال على أنَّ من أكبر عوامل النهضة: التضحية بالنفس على أن يحيا الناس، فلقد قال الملك الطاغية: « إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ !». ( أخرجه مسلم في صحيحه ).


إنَّ النهضة تحتاج لعرق جبين، وتشمير عن سواعد الجد، وخفقان القلوب واضطراب النفوس أحياناً، ومواجهة العدو المتربص، إنّها ستكون، ولكن بثمنها المعروف ثمن التضحية والصمود، وليس هدوء الجبناء ونهضة الركود!!

وما نيل المطالب بالتمنِّي * ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وقد صدق الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش إذ كتب في كتابه "هروبي إلى الحرية" يقول: "لم يُغنِّ الشعب للذكاء، وإنما غنَّى للشجاعة... لأنها الأكثر ندرة"!!!

ـــــــــــــــــ

• باحث وداعية فلسطيني
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام