عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - (9) معرفة كيفية تحصيل حلاوة الطاعات
ودومًا يكون الإلحاحُ على علوِّ الهمة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في أيِّ سعي عظيم، وأي سعيٍ أعظم من سعي الآخرة؟! {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
القاعدة التاسعة: معرفة كيفيَّة تحصيل حلاوة الطَّاعات:
أمَّا كون الطاعة ذاتَ حلاوة، فيدلُّ له قولُه -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد ومسلم: «ذاق طعْمَ الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم – رسولاً»، وقولُه -صلى الله عليه وسلم- في "الصحيحين": «ثلاثةٌ من كُنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذْ أنقذَه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النَّار».
ولما نَهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه عن الوِصال، قالوا: إنَّك تُواصل؟ قال: «إنِّي لَسْت كهيئتِكم، إنِّي أُطعَم وأُسقَى»؛ رواه البخاريُّ ومسلم، وفي لفظٍ في "الصحيحين" أيضًا: «إنِّي أظَلُّ عند ربِّي يُطعمني ويسقيني»، وفي لفظٍ عند البخاري وأبي داود: «إنَّ لي مُطعمًا وساقيًا يسقيني»،قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقد غلُظَ حجابُ من ظنَّ أن هذا طعامٌ وشراب حسِّي للفم"، ثم قال: "والمقصود أنَّ ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمرٌ يَجِده القلب، تكون نسبتُه إليه كنسبة ذوق حلاوة الطَّعام إلى الفم".
واعلم أوَّلاً أيُّها السَّالك في مرضاة إلهك: أنَّ كلمات القوم في هذا الباب رُسوم، وإرشاداتِهم في هذا الباب عموم، ولا تبقى إلاَّ الحقيقة الثابتة في نفسها، وهذه لا يَنالها إلاَّ من أناله الله -تعالى- إيَّاها، ومن ذاق عرَف، فكُن مِن هذا على ذُكْر؛ لأنَّني سأسوق إليك كلامًا لا يفهمه غليظُ الحجاب، كثيف الرَّيْن، فإن استعصى عليك الفهم فلن أُبادر إلى اتِّهام صلتك بالله، بل أَتْممنَّ قراءة هذه السُّطور، ونفِّذ ما سأوصيك به، ثم أعِد القراءة، فإن وجَدْت الأمر كما وصَفْت، فاحمد الله الذي أذاقك طعم الإيمان وحلاوة الطاعة.
بدءًا يجب أن تَعْلم أنَّ الفكر لا يُحدُّ، واللِّسان لا يَصْمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تَشْغلها بالعظائم شُغلت بالصَّغائر، وإن لم تُعملها في الخير عملت في الشرِّ، إنَّ في النفوس ركونًا إلى اللَّذيذ والهيِّن، ونفورًا عن المكروه والشاقِّ، فارفع نفسك ما استطعتَ إلى النافع الشاقِّ، وروِّضها وسُسْها على المكروه الأحسن، حتَّى تألف جلائل الأمور، وتطمح إلى معاليها، وحتَّى تنفر عن كلِّ دنِيَّة، وتربأ عن كلِّ صغيرة، علِّمها التحليق تَكرَه الإسفاف، عرِّفها العزَّة تنفِرْ من الذُّل، أذِقْها اللذَّات الرُّوحيةَ العظيمة تحقِّر اللذَّاتِ الحسِّيةَ الصغيرة.
ودومًا يكون الإلحاحُ على علوِّ الهمة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في أيِّ سعي عظيم، وأي سعيٍ أعظم من سعي الآخرة؟! {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
ثُمَّ اعلم - علمت كلَّ خير - أنَّ حلاوة الطاعة مِلاكُها في جمع القلب والهمِّ والسر على الله -تعالى- ويفسِّرُه ابن القيِّم قائلاً: هو عكوف القلب بِكُليَّتِه على الله، لا يلتفت عنه يَمْنة ولا يسرة، فإذا ذاقت الهِمَّة طعم هذا الجمع، اتَّصل اشتياقُ صاحبها، وتأجَّجَت نيرانُ المَحبَّة والطلب في قلبه، ثم يقول: فللَّه هِمَّةُ نفسٍ قطعت جميع الأكوان، وسارت فما ألقَتْ عصا السَّير إلاَّ بين يدي الرحمن - تبارك وتعالى - فسجدَتْ بين يديه سجدة الشُّكر على الوصول إليه، فلم تزَل ساجدةً حتَّى قيل لها: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]، فسبحان من فاوَت بين الخلق في هِمَمهم حتى ترى بين الهِمَّتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين، بل أبعد مِمَّا بين أسفل سافلين وأعلى علِّيين، وتلك مواهب العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
ثم يقول: "وهكذا يجد لذَّةً غامرة عند مناجاة ربِّه، وأنسًا به، وقربًا منه، حتى يصير كأنه يُخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارةً، ويتملَّقه تارة، ويُثْنِي عليه تارة حتى يبقى القلب ناطقًا بقوله: "أنت الله الذي لا إله إلا أنت" من غير تكلُّفٍ له بذلك، بل يبقى هذا حالاً ومقامًا، كما قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «الإحسان أن تَعْبد الله كأنَّك تراه»، وهكذا مخاطبته ومناجاته له، كأنَّه بين يدَيْ ربِّه، فيسكن جأشه، ويطمئنّ قلبه، فيزداد لهجًا بالدعاء والسؤال، تذللاً لله الغني - سبحانه - وإظهارًا لفقر العبوديَّة بين يدي عزِّ الربوبية.
فإن الربَّ يحبُّ مِن عبْدِه أن يسأله ويرغب إليه؛ لأنَّ وصول بِرِّه وإحسانه إليه موقوفٌ على سؤاله، بل هو المتفضِّل به ابتداءً بلا سببٍ من العبد، ثم أمره بسؤاله والطَّلب منه؛ إظهارًا لمرتبة العبوديَّة والفقر والحاجة، واعترافًا بعز الربوبيَّة وكمال غنى الربِّ، وتفرُّده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غِنى له عن فضله طرفةَ عين، فيأتي بالطَّلب والسؤال إتيانَ مَن يعلم أنه لا يستحقُّ بطلبه وسؤاله شيئًا، ولكن ربَّه -تعالى- يحب أن يُسأل ويُرغب إليه ويُطلب منه".
ثم قال: "فإذا تَمَّ هذا البذل للعبد، تم له العلم بأنَّ فضل ربِّه سبق له ابتداءً قبل أن يخلقه، مع علم الله -تعالى- به وتقصيره، وأنَّ الله -تعالى- لم يمنعه عِلمُه بتقصير عبدِه أن يقدِّر له الفضل والإحسان، فإذا شاهد العبدُ ذلك اشتدَّ سرورُه بربِّه، وبِمَواقع فضله وإحسانه، وهذا فرح محمودٌ غير مذموم؛ قال -تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وهذا كلام راقٍ يحتاج إلى تردادٍ لفهمه، وتجوالٍ في حنايا نظمِه:
فَأَدِمْ جَرَّ الْحِبَالِ *** تَقْطَعِ الصَّخْرَ الثَّخِينَا
ولكنَّني لا أدعك للرُّسوم والإشارات، وعموم تلك العبارات، بل ألِجُ بك - بإذن الله - إلى واقعٍ عمَلي تُكابد به حقائق الخدمة، وتتجلَّى لك من ورائه دقائقُ علم السُّلوك، فتستغني - أيُّها النابه العابد - بالمثال الواحد عن ألف شاهد، فهاك جملةً من الطاعات التي يؤدِّيها كلُّ الناس، أَذْكرها لك الآن إجمالاً، وأُرْجئك إلى مكانِها في الوسائل لِتَنظر كيف يجب أن تُؤدَّى وتُقام:
ذِكْر الله -تعالى- ووسائِلُ تحصيل لذَّتِه.
وسائل تحصيل لذَّة الصِّيام.
وسائل تحصيل لذة الصَّلاة.
وسائل تحصيل لذة التِّلاوة وقراءة القرآن.
وسائل تحصيل ثمرة الدُّعاء.
الكاتب: محمود العشري
محمود العشري
كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية
- التصنيف: