بعض ضوابط الفتوى

منذ 2017-11-07

الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائدِ والأحوال، وذلك كلُّه من دين الله، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائِهم.

مراعاة الحال، والزمان، والمكان:

إنَّ لكل عصرٍ مشكلاتِهِ وواقِعَهُ وحاجاتِهِ المتجددةَ التي تتجدَّد مع مرورِ الأيَّام، وفي عصرنا وُجِدَ الكثيرُ من المستجدات والأحداث والوقائع التي لم يكن لها وجودٌ في زمن السابقين، ولم يكونوا يعرفونها؛ مما يستدعي علاجَ هذه المستجدات باجتهادات وفتاوى تُبين حكمَ اللهِ في ذلك، وهذا أمرٌ ضروريٌّ لحياتنا الإسلامية، وعلاج لمشكلاتنا المعاصرة.

ومن ضوابطِ الفتوى مراعاتُها للحال، والزمان، والمكان؛ إذ قد تتغيَّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيًّا على عُرفِ بلدٍ، ثم تغيَّر هذاالعرفُ إلى عرفٍ جديد ليس مخالفًا لنص شرعي.

وقد راعى الشارع أمر الزمان والمكان، ألا ترى أن حدَّ السرقة هو قطعُ يدِ السارق، إلا أنها لو وقعت أثناء غزو الأعداء وفي بلادهم فإنها لا تقطع هناك، بل يلزم تأجيل إقامة الحد؛ لئلا يداخِلَ صاحبَهَا حميَّةُ الشيطان فيلحقَ بالكفار؛ والدليلُ على عدم القطع في الغزو ما وَرَدَ عن بسر بن أرطاة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» [1]، وعلى ذلك إجماعُ الصَّحابة.

فالمنكرُ إذا ترتَّب على إنكارِهِ ما هو أنْكَرُ منه، فلا يسوغُ إنكارُه، وما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومَكِ حديثو عهدٍ بجاهلية لهدمتُ الكعبة، ولجعلتُ لها بابين».[2]

والفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائدِ والأحوال، وذلك كلُّه من دين الله، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائِهم.

عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل:

إذا كان في المسألة تفصيلٌ، فليس للمفتي إطلاقُ الجواب؛ بل عليه أن يستفصلَ السَّائلَ حتى يعطيَه الجوابَ الموافقَ لمسألته؛ لأن إجمالَ الفتوى في مثلِ هذه الحالة تجعل الحكمَ واحدًا لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها، فيجيب بغير الصواب، ويَهلك ويُهلك، وما ذلك إلا لعدم التبين، يدلُّ على ذلك أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد على غلامٍ نَحَله ابنَه، فاستفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: « أكلَّ ولدك نحلته كذلك؟» فقال: لا، فأبى أن يشهد. ويفهم من هذا أن الأولاد إذا اشتركوا في النحل صحَّ ذلك، وإذ لم يشتركوا فيه لم يصح، أما إذا لم تَدْعُ الحاجة إلى الاستفصال، فيحسن بالمفتي عند ذلك الإجمال.

التجرُّد من الهوى في المفتي والمستفتي:

إنَّ مِن أهم الضوابطِ لسلامة الفتوى تجرُّدَها من الأهواء، سواء كان مبعثها المستفتي أو المفتي.

أما المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع فَيُزينُ الباطل بألفاظٍ حسنة ليغرر بالمفتي حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل، ولهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظًا حتى لا تغلب عليه الغفلة والسهو، عالمـًا بِحِيَلِ الناس ودسائسِهِم حتى لا يغلبوه بمكرهم، فيستخرجوا منه الفتاوى حسب أهوائهم. قال ابن عابدين: "وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن، ولهم مهارة في الحيل والتزوير وقلْبِ الكلام، وتصويرِ الباطل بصورة الحق؛ فغفلة المفتي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان"[3].

وقال ابن القيم: "ينبغي للمفتي أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا، فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ"[4].

وأما المفتي فإنَّ تجرُّدَه من الهوى أشدُّ لزومًا من المستفتي؛ لأنه مخبِرٌ عن الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقةً لغرضه أو غرضِ مَنْ يحابيه، كان مفتريًا على الله؛ لقول الله تعالى: {وَلَاتَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَام ٌلِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].

جماعية الفتوى:

ويُقصد بجماعية الفتوى أن تَصدرَ الفتوى بعد تشاورِ أهلِ العلمِ وتدارسهم للواقعةِ المعروضةِ وحكمها؛ لتكونَ الفتوى بذلك معبرةً عما ينتهون إليه من رأي قائم على تدبُّر وفهمٍ للكتابِ والسُّنةِ وقواعدِ الشريعة، وفهمٍ تامٍّ واستيعابٍ كاملٍ لطبيعةِ المسألةِ التي يُفتون فيها، وتتأكد ضرورة الفتوى الجماعية في القضايا المستجدة، وخصوصًا تلك التي لها طابع العموم، وتتعلق بمصير الناس.

وقد اقتفى أَثَرَ الصَّحابةَ في ذلك المنهج الجماعي عمرُ بن عبد العزيز رضي االله عنه، حيث أنشأ مجلسًا من فقهاء المدينة وصلحائها؛ ليستعين بهم في استنباطِ الأحكام والاستفادة برأيهم، وذلك عندما كان واليًا على المدينة قبلَ أنْ يَصِيرَ خليفة[5].

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

فضيلةالشيخ/ذو الكفل محمد البكري

المفتي الفيدرالي لدولة ماليزيا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- أخرجه الترمذي، الحديث 1370، والدارمي الحديث 2381.
[2]-
حديث صحيح، أخرجه النسائي والترمذي عن عائشة، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته، الحديث 5326.
[3]-
انظر: رد المحتار، 4/302 بتصرُّف يسير.
[4]-
انظر:إعلام الموقعين، 4/229.
[5]-
أصول التشريع الإسلامي، لعلي حسب الله، ص١٢٨.