الاضطراب العقدي والسياسي وضياع الطريق إلى القدس
الأمة تحتاج إلى بديل كامل وقوي يستند إلى قوة الشعوب ويواجه بها حجمًا هائلًا من الفساد والمظالم واللصوصية
لمحة عابرة ومثال عابر من الاضطراب العقدي والسياسي وضياع الطريق إلى القدس
استوقف بعض الكرام القول في المقال السابق أن من كان عنده اضطراب عقدي أو سياسي، أو هما معًا، ممن ضيع الطريق أو ضاع منه، فضاع الطريق إلى القدس.. وسأل عن معنى هذه الجملة.
والمقصود بهذا القول هو أن من كان تصوره للواقع والمجتمع أن الشرعية الإسلامية موجودة في الأنظمة العلمانية قبل الثورة وكذلك بعد الانقلاب، وأن المفاهيم الشرعية والعقدية للإسلام متوفرة في المجتمع بصورة كافية؛ فمثل هذا التصور يدفع صاحبه ليكون عمله ودوره هو (استكمال نقص وتصحيح انحراف) طارئ، كعمل روتيني في أي مجتمع بشري، ومثل هذا فتصوره للأنظمة العلمانية هي أنها امتداد لانحراف بدأ منذ يزيد بن معاوية أو عبد الملك بن مروان، في باب المظالم السياسية وتوريث الملك، ويرى أن الأمر سياق واحد.
وهذا التصور يغفل صاحبه عن الانقلاب الهائل الذي حدث أول القرن العشرين بإسقاط حاكمية الشريعة والشكل السياسي الموحد للأمة وبروز الأنظمة والقوانين العلمانية وبروز الدولة القومية القائمة على تنحية الإسلام من الهوية. فكان هذا الحدث الهائل يوجب تصحيح الخلل العقدي الذي سمح بسقوط الأمة وتنحية الشريعة والشرعية وتنحية الهوية الإسلامية.
فإن كان عنده غفلة عن الواقع مع صدقه، فهذا يتبين له الأمر مع الأحداث لو صدق، لأن العلمانيين والملاحدة والإباحيين يُظهرون ما عندهم من عداء للإسلام ويُظهرون المسافة الكبيرة بينهم وبين دين الله، ويُظهرون المسافة الكبيرة التي يريدون أن يقطعها المجتمع وأجياله القادمة مبتعدين فيها عن دين الله تعالى. لكن لو كان عنده خلل في المفهوم الشرعي العقدي، للتوحيد والإيمان فالأمر سيكون أصعب ولا تزيده الأحداث وتداعياتها إلا خبالًا.
كل هذا سينتج مواقف خطأ أو قاصرة أو ليست على قدر الصراع ومستواه. ومن كان تصوره أن القرار لهذه البلاد هو أمر محلي، وغفل عن دور القوى التي تسير البلاد في فلكها، ولم يدرك أن الاستعمار ما زال باقيًا ولم يدرك طرق الهمينة الكثيرة على بلادنا، ومن لم يدرك إرث أجهزة الاستبداد ونفسيتها وعقيدتها وتبعيتها، ومن لم يدرك تصورها أن تسليمها البلاد لمدني يعتبر خيانة! ومن لم يدرك -بدون الاحتياج لتجربة مريرة- (حجم) الفساد وتغلغله وسطوته وأجهزته والتوافق عليه! ولم يدرك (مجالات) الفساد سواء في المؤسسات السياسية أو الإدارية أو الدينية، أو غيرها من المؤسسات التي تبدو شريفة للوهلة الأولى، أو يفترض فيها ذلك، أو من لم يدرك إرث وأطماع العسكر ونظرتهم بأحقية امتلاك البلاد وثرواتها ، ولم يدرك دورهم المنوط بهم من الغرب، وتربيتهم الخارجية؛ وأثر الدورات الخارجية المتلاحقة على تصورهم لبلادهم وأمنهم وعقيدتهم.. كل هذا وأضعافه من الحقائق الغائبة وموازين القوى مع غياب القدرة على تصرفات كثيرة تتراوح بين الحسم حينًا والمرونة أخرى، ومعرفة أن الأمة تحتاج إلى بديل كامل وقوي يستند إلى قوة الشعوب ويواجه بها حجمًا هائلًا من الفساد والمظالم واللصوصية، ويواجه بها حجمًا هائلًا من التزوير والتزييف ويعرف أن ثمة مراحل طويلة وأشواطًا تحتاج الأمة إلى قطعها للعودة.
غياب هذا وغيره من الحقائق الكثيرة التي يطول شرحها سينتج مواقف خطأ وهزيلة أو ضعفًا أو تخليًا عن الزخم الثوري في حينه أو الاطمئنان إلى ما لا يُطمأن إليه، أو غير ذلك من التفاصيل التي بمجموعها تضيع الفرصة ونفقد الطريق.
وفي المقابل من كان تصوره للأمة أنها كفرت عن بكرة أبيها! ولم يدرك أوضاع الاستضعاف، ورأى أن من واجبه أن يكون منصفًا فيكفر صاحب الراية الإسلامية المستضعَف الذي يحاول الخروج من الاستضعاف والعلمانية إلى الإسلام، أسوة بالعلماني الذي يرسخ العلمانية ويخرج بالأمة مما تبقى لها من دينها إلى ما هو أبعد من أشواط من سبقه، فمثل هذا قد تخلى عن مشروعٍ كان يجب مساندته، واستغله عدوه حتى أسقط به أخاه، ثم أسقطهما معًا؛ بل وحشده عدوه ليقف ضد راية الإسلام نفسها، توهمًا وخداعًا، حتى استغفله وأسقط به أمله الوحيد، ثم عاد يبكي أنه لم يجد من يحنو عليه! فتشابه موقف الاضطراب تفريطًا وغلوًا.
هناك الكثير من الحقائق والبيان لكن ما سطرته هنا قد يكون كافيًا للإشارة إلى نوعية الاضطراب.. والله تعالى العاصم!
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: