المخرج من الفتن - (4) تجنب موجبات الفُرقة

منذ 2018-01-03

إِنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ وَقْتَ الْفِتَنِ خَاصَّةً: دَلِيلُ كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ الإِسْلاَمِ، وَفِيهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعَطَبِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ، فَالْحَدِيثُ عَنِ الآخَرِينَ وَتَتَبُّعُ سَقَطَاتِهِمْ وَإِشَاعَتُهَا.

بسم الله الرحمن الرحيم..

إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: "تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ"  ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: "فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ" [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]

 

مما يحفظ من الفتن:

· تجنب موجبات الفرقة ما أمكن ذلك، فالمسلم الصادق حريص كل الحرص على اجتماع كلمة المسلمين وائتلاف قلوبهم، واتحاد صفهم على طاعة الله، وامتثال أوامره -جلّ وعلا- ومن الدعوات المأثورة العظيمة: "اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سُبُل السلام".. إن من الأهمية بمكان الحرص على اجتماع الكلمة، والبعد كل البُعد عن الأمور التي توقع في الفرقة، وتسبِّب الشقاق، والاختلاف وتفرق الكلمة.

 

كما أن التشبث بجماعة المسلمين من أهل السنة يندرج تحت هذا الأصل، فعن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ [يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرًا خالصًا بل فيه كدر] قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ. [البخاري].

 

قال الإمام الطبري: "وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحد في الفرقة ويعتزل الجميع خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها".

 

وعن حذيفة أيضا، قال -صلى الله عليه وسلم-: (تكون هدنة على دخن ثم تكون دعاة الضلالة، فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه، وإن نهك جسمك وأخذ مالك، وإن لم تره فاضرب في الأرض، ولو أن تموت وأنت عاض على جذل شجرة). [أحمد].

 

وروى البخاري عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان –رضي الله عنه– وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم".

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك) [مسلم وغيره] وفي رواية: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) [أحمد].

 

· قول الخير أو الصمت، ولاسيما أهل الإيمان ومن يقتدى بهم من رؤوس وأكابر الناس، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) [متفق عليه]، وهذا إنما يكون إذا وقع النطق في مكانه والسكوت في مكانه.

 

قال القرطبي: معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثواباً أو خيراً فيغنم أو يسكت عن شيء فيجلب له عقاباً أو شراً فيسلم.

 

يقول الشيخ عبد الله الجار الله: "إِنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ وَقْتَ الْفِتَنِ خَاصَّةً: دَلِيلُ كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ الإِسْلاَمِ، وَفِيهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعَطَبِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ، فَالْحَدِيثُ عَنِ الآخَرِينَ وَتَتَبُّعُ سَقَطَاتِهِمْ وَإِشَاعَتُهَا، وَالْفَرَحُ بِهَا مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي أَثَراً، وَأَكْثَرِهَا إِثْماً، وَلاَ يَمُوتُ مُقْتَرِفُهَا حَتَّى يُبْلَى بِهَا، (وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَسَائِلَ خِلاَفٍ بِلاَ هُدىً، وَنَوَازِعَ طَيْشٍ عَلَى هَوىً، وَحُبَّ غَلَبَةٍ وَرَغْبَةَ اسْتِعْلاَءٍ، وَإِرَادَةَ خَفْضٍ لِلآخَرِينَ؟! فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ غِيبَةً لأَهْلِ الْخَيْرِ، وَتَحْرِيشًا خَفِيًّا أَوْ جَلِيًّا بِالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الصَّلاَحِ، وَتَصْنِيفًا ظَالِماً بَلاَ بُرْهَانٍ وَلاَ بَيِّنَةٍ، وَغَمْزًا، وَلَمْزًا، وَسُخْرِيَّةً، وَاتِّهَاماً لِلْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ؟! قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ].

 

روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطِع هذا البلعوم". يعني أنه لم يبثه خشية الفتنة.

 

وروى البخاري –أيضاً– أنه جاء رجل من أهل مصر حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: مَنْ هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمَنْ الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أُحد؟ قال: نعم!

قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم!

قال: تعلم أنه تغيّب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم!

قال: الله أكبر!

قال ابن عمر: تعال أُبيّن لك.

 

أما فراره يوم أُحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت مريضة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال هذه لعثمان. فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.

 

وروى مسلم عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس، قال فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه، وقال ابن عباس: والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ولا نُعمة عين.

 

وقال فيروز بن يزدجرد: "مَن أوقد نار الفتنة كان وقودًا لها".

وقال كعب: "ما أثار قوم فتنة إلا كانوا لها جزرًا [الناقة المجزورة]".

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

المقال السابق
(3) مما يحفظ من الفتن
المقال التالي
(5) الكف عن الخوض باللسان