سر عدم وضوح الترابط بين فقرات القرآن؟
كان الله يمكنه أن يجعل الترابط واضحا جدا, لكن في هذا الغموض الظاهري استفزاز لفكر من يقدر كلام الله حق قدره ويوقن أنه لابد أن الكلام مترابط ترابط أوثق من ترابط الكلام العادي في كتب البشر.
قارئ القرآن يجد عادة أن القرآن ينتقل من موضوع إلى موضوع آخر يبدو - في كثير من الأحيان - منقطع الصلة بالموضوع الأول, لكن من يقدر الله حق قدره يعلم يقينا أن عدم الترابط الظاهر هذا وهم, وأنه لابد من ترابط قوي بين كل آية والتي تليها. وأغلب الناس لا يتوقف عند العلة من هذا, إذ ان الله يستطيع أن يجعل الترابط بين فقرات سورة القرآن واضحة وذلك كأي كتاب عادي, لكن لابد أن لله في ذلك حكمة جليلة, إلا أننا قليلا ما نتوقف عندها! وأرى أن هذه الحكمة تحتمل أن تكون لاستفزاز التفكير حتى يتوقف القارئ عند هذه النقلات فيبذل جهدا ذهنيا فيها فتثبت في ذهنه ثباتا لم يكن ليحصل لو أن الترابط واضحا بين الفقرات القرآنية! وأن هذا الترابط القوي - لكن الغير واضح - هو في حقيقته أقوى من الترابط الموجود في كتب البشر, وهو من الأمور التي تميز كتاب الله عن كتب البشر وتجعل من الاستحالة أن يأتي بشر بمثله!
مثال:
قال تعالى في سورة الفرقان: {فلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا. وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:52-54].
من أول وهلة لا يدري القارئ ما الارتباط بين مجاهدة الكافرين بالقرآن, وبين ذكر الله لآية من آيات خلقه وهي وجود الماء العذب والماء المِلح في نفس المكان دون أن يؤثر الماء الملح على عذوبة الماء العذب.
آلا يذكرنا هذا بأنه لو تركت الأمور على سجيتها - دون مجاهدة - لانتقلت السخونة من الساخن إلى البارد, ولانتقل الملح من الماء المِلح إلى الماء العذب, ولسقطت الماء من المكان العالي للمكان المنخفض,وأنه كي يحدث العكس فيحافظ - مثلا - الجسم الساخن على سخونته وسط الأجواء الباردة يجب بذل طاقة (مجاهدة)؟! وأن هذا ما يحدث بالفعل نتيجة تيارات الماء عند البرازخ الموجودة بين المناطق المِلحة والمناطق العذبة, فهذه التيارات تبذل جهدا يحول بين انتقال الملح إلى الماء العذب؟!
فيجوز أن الآية تتحدث عن الأقلية المسلمة وسط مجتمع يعج بالكفر والشهوات والشبهات, هذه الأقلية لو لم تبذل جهدا - بالقرآن - في أن تحافظ على إسلامها ستفقد حرارة الإيمان كما تفقد الأجسام الساخنة حرارتها وسط الأجواء الباردة, وكما يفقد الماء العذب عذوبته وسط الأجواء الملحة!
ثم ينتقل الله تعالى لللآية الثالثة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} وكأنه يقول, ولأنك أيها المسلم بشر, ولأن البشر مخلوق من الماء, وحيث أني أعطيتك مثلا من الكون الذي تحيا فيه أن الماء العذب يمكنه المحافظة على عذوبته وسط الأجواء الملحة إن لم يُترَك على سجيته وإن كانت هناك جهود دائمة للمحافظة على عذوبته, فكما أن الماء العذب يمكنه الصمود وسط الماء الملح فأنتم أيها الأقلية المسلمة يمكنكم الصمود والحفاظ على إيمانكم وسط المجتمعات غير المؤمنة عن طريق الاستمساك بالقرآن الكريم وتعاليمه.
هل لاحظتم كيفية ترابط الآيات - الغير مترابطة في ظاهرها إن نُظِرَ إليها سطحيًا - بعضها ببعض؟! إنه بالتأمُّل وإعمال ملكة التدبر يتضح بحول الله وقوته نور القرآن الكريم.. كلام الله عز وجل شأنه الذي لا يشبهه كلام!
وكان الله يمكنه أن يجعل الترابط واضحا جدا, لكن في هذا الغموض الظاهري استفزاز لفكر من يقدر كلام الله حق قدره ويوقن أنه لابد أن الكلام مترابط ترابط أوثق من ترابط الكلام العادي في كتب البشر, ثم تثبيت لفهمه للقرآن بعدما أعمل فكره في تدبره, لكننا لا نتدبر القرآن إلا قليلا.
والله أعلم.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: