يعمهون

منذ 2018-01-23

وفي كل آية حديث عن الكبير المتعال، الجميل الوهاب، ربنا سبحانه وتعالى، وأنه خالقك وآمرك وناهيك، وأنه قادر عليك، وأنك إليه لا محالة، ومحاسب لا محالة.. تجد هذا في كل آية بخاتمتها، حيث تختم باسم أو اسمين من أسماء الله، أو تستقل الآية بهذا المعنى كلية.

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
رفع قيمة الفرد هدف رئيسي لكثيرٍ من المشهورين في الساحة الدعوية والفكرية، وهدف لعامة المشاريع الكبرى.. تلك التي تستهدف نهضة الأمة وتبدأ ببناء الفرد، وهدفٌ للآباء والأمهات الذين يريدون لأبنائهم حضورًا أكثر في حياة الناس، طلبًا للأجر من الله، أو طلبًا لعارضٍ من عوارض الدنيا. والسؤال: بم يتحقق رفع قيمة الفرد؟
الأفراد –بوعي أو بدون وعي- يبحثون عن السعادة، وهي الراحة والطمأنينة.. انشراح الصدر وسكون النفس، وهي غير اللذة وغير النجاح، والأمة تبحث عن حضور قواعدها الكلية (العقيدة) واقعًا في حياة الناس. وبالتالي علينا أن نعيد صياغة السؤال مرةً ثانية: هل ما يطرحه أرباب "التنمية البشرية" والمتجمعون تحت مسمى "النهضة" يحقق غاية الفرد (السعادة) وغاية الأمة(الحضارة)؟
شهر كامل وأنا أحاول تقديم إجابة  تناسب مقالًا، على هذا السؤال، وكلما كتبت مسحت، وكلما جئت للمقال قمت ولم أضف شيئًا، ثم استقر الأمر على عرض الفكرة من خلال الطرب. نعم الطرب: بم يتحقق الطرب؟
الإنسان .. هذا الذي يتحرك أمام عينيك ثلاثي التركيب: جسد وروح ونفس، وكل واحدةٍ منهن غير الأخرى في ماهيتها (والتفاصيل في كتاب ماهية النفس لأحمد كرار الشنقيطي)، والروح من أمر ربي لا نعرف عنها شيئًا، والنفس تحتاج الطرب، وتطلبه، وثمة منظومتان للطرب، منظومة إسلامية من وحي الله، ومنظومة أخرى من وحي الشيطان  {وإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ} [ الأنعام: 121] .
في الإسلام الطرب بالترتيل: بالغُنَّة التي تشبه عصر الأعصاب، وبالمد الذي يشبه الرفع المفاجئى ثم الخفض فجأة على الهمزة الساكنة، والإخفاء الذي يشبه الرَّج، وبين الثلاثة (المد والإخفاء والغن) مسافات زمنية محسوبة؛ والطرب بسجعٍ ينتظم ثم ينقطع ليقطع الملل ويوقظ الحس ويؤكد على التنوع؛ والطرب بالمشاهد الحية التي يعرضها القرآن أمام ناظريك، فحين تقرأ متأنيًا وتفكر في المعاني .. حين تتدبر ما تتلوا فكأنك تشاهد. بل كأنك تحس، كما يقول الأستاذ سيد قطب في (التصوير الفني)، تقرأ (وحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) فكأنك تشاهد الجبال تقلع وترفع ثم تدفع بقوة لأسفل فتتهشم وتستحيل ترابًا، ويجول خاطرك في هذه القوة التي تفعل بالرواسي الشامخات هكذا، وكيف أنها شيء من قوة ربك وسيدك، آمرك وناهيك، المهيمن الجبار. وتقرأ قول الله تعالى عن المتقين في الجنان {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ  وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:51-52] ، مشهد حي مما نحب ونشتهي.  وتقرأ قول الله تعالى عن المجرمين وهم في طريقهم للجحيم {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}  فكأنما هم بين عينيك تشاهدهم مقيدين في مكانٍ ضيقٍ يرون العذاب ويُدَعُّون إليه دعًا، ويصطرخون، ويدعون على أنفسهم بالهلاك، ولا مجيب، فتطيب نفسك وتشفى من سقمها وخاصة إن كانوا قيدوك في الدنيا بحديدهم ودفعوك بأيدهم وأرجلهم وعصيهم، مشهد بمشهد وما عند الله أشد وأبقى.
وفي كل آية حديث عن الكبير المتعال، الجميل الوهاب، ربنا سبحانه وتعالى، وأنه خالقك وآمرك وناهيك، وأنه قادر عليك، وأنك إليه لا محالة، ومحاسب لا محالة.. تجد هذا في كل آية بخاتمتها، حيث تختم باسم أو اسمين من أسماء الله، أو تستقل الآية بهذا المعنى كلية. 
وحال الطرب بالترتيل، وحال الحديث عن الله وأمره ونهيه، تُعرض قصص الأولين: كيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين في الدنيا قبل الآخرة، تثبيتًا للمؤمنين ووعيدًا للكافرين.
منظومة متكاملة متعددة الأشكال، وكلها في أي مقطعٍ تقرأه من كتاب الله، فلا يستلزم الأمر قراءة الكثير، فمهما صغر وردك تجد كل هذا فيه.  {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] .
بهذه التركيبة الربانية يتحقق ليس فقط الطرب. بل ورفع قيمة الفرد، وتحقيق هدفه هو، ومن ثم غاية الأمة بعد ذلك (التمكين في الأرض). فالترتيل والذكر يورثه راحةً وطمأنينة.. يعطيه غايته الأولى: السعادة.. انشراح الصدر. والله حاضر في حسه شهيدٌ رقيب معين. ولذا سمي الله كتابه مأدبة، وسمى الصالحون ما تتلوه كل يومٍ وردًا، فكأنْ لابد لك من ورود مأدبة الرحمن كل يومٍ وإلا فسدت. جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن.. أهل الله وخاصته.
ولم ينزل الله على رسوله-صلى الله عليه وآله وسلم- أكثر من هذا، فهذا كل ما في كتاب الله.. ضبط للفرد عن طري إجابة لسؤال النشأة الأولى في الدنيا (لماذا خلقنا الله؟)، والنشأة الآخرة للحساب، وتعريفه بخالقه، ثم يتحرك الفرد من نفسه إلى ما يحسن أو إلى ما يحب أو إلى سد الثغور في المجتمع من باب القيام بفروض الكفايات. يطلب بحركته الأجر من الله ليفوز بالنعيم وينجو من العذاب الأليم، وبالتالي يتكون مجتمع نشيط منضبط بلا خلل.  حالة من الجد الهادئ المستكين مرهف الحس، حسن القول والفعل.
ولسنا نتحدث عن فلسفات ونظريات كلية لا يمكن تطبيقها. بل تم التطبيق على بشرٍ مثلنا. رسول ربنا-صلى الله عليه وسلم- وصحابته- رضوان الله عليهم-.
المقصود أن الشريعة الإسلامية تحقق غاية الفرد (السعادة) ورفع قيمته في المجتمع، وبالتالي غاية الأمة كلها(النهضة.. الحضارة) بطريقة خاصة، سهلة وميسرة، ويستطيعها الجميع، ترتكز على معرفة الله وما أعده للطائعين وما توعد به العاصين، وهذا يكفي للحصول على فردٍ صالحٍ مصلحٍ ومجتمع كالمجتمع الأول الذي أضاء الدنيا  في أعوامٍ قليلة. 
وبعيد تمامًا يتقافز المتحدثون عن (التنمية البشرية) والمشاريع النهضوية للأمة  انطلاقًا من (رفع قيمة الفرد). السؤال: هل يحقق هؤلاء هدفهم المعلن (رفع قيمة الفرد) و (نهضة الأمة)؟
دعونا نعود للطرب كمثالٍ نبين به المعنى ونتمدد من خلاله لرفع قيمة الفرد وتحقيق النهضة للأمة: الطرب في غير القرآن والسنة بموسيقى وكلماتٍ تثير غرائز شهوانية في الغالب، فالعلاقة العاطفية لا تكفي لاستمرار الأسرة (على فرض أن الطرب لتحريك مشاعر الزوجين تجاه بعضهما) فالعاطفة تتقلب والشهوة ملولة لا تستقر، وإنما يستقر الزوجان بشيء آخر.. بمشروع حياة.. بتعاونٍ على البر والتقوى.
وما يقدمه هؤلاء لإسعاد الفرد ورفع قيمته يتمحور حول (بناء الذات)، والذاتية/ الفردية هي صلب الإلحاد وقاعدته، فالمعنى المرادف للذاتية هو عبادة الفرد نفسه، يحل ويحرم ما يشتهي، ويقبل على ما يراه هو صوابًا نافعًا ويعرض عما يراه هو خطأً ضارًا، فهو إله نفسه {أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23]   وبعضهم يستدعي الوحي بشكل جزئي، يقطع نصًا من سياقه ويستدل به في سياق مختلف على قضية مختلفة، بمعنى يشرعن الباطل.
نحن أمام منظومتين: منظومة الإسلام التي تحقق غاية الفرد وغاية الأمة من أقصر طريق وبأقل تكلفة، ومنظومات أخرى، تأخذ الأفراد في تيهٍ صخبٍ قلقٍ، وتتركه حيران لا يصل لشيء. يقول الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71] .
الطريق لغاية الأفراد والأمة سهل ميسر ويبدأ من كتاب الله ومشروح عمليًا في جيل الصحابة والتابعين.
سأعود –إن شاء الله- وأحاول الاقتراب من مدخلٍ آخر حتى يتضح للذين ينصتون للمناهج الغربية والمناهج العلمانية وأدعياء (بناء الذات) أنهم في التيه يعمهون.
محمد جلال القصاص
اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.