فكتابك لم يغلق بعد!

منذ 2018-01-26

«فإنه إذا مات أحدكم انقطع عمله» .. نعم انقطع العمل بالموت! أغلق كتابك! فلا حسنات تضاف ولا خطايا تمحى! هذا الأمر إن كان وقعه على النفس صادمًا، ولكن يحمل في طياته أملًا، أملًا به تشحذ الهمم.. يدفعك للحركة الدائمة!

(1)

ها هو يوم جديد!
أغلق بيده متكاسلًا منبه الساعة التي بجانبه..
نظر لعقارب الساعة التي تتحرك للأمام باستمرار.. كان يتمنى أنه يستطيع أن يوقف من حركتها قليلًا.. فحركتها تصدر صوت يعذب ضميره!

كلما تحركت للأمام.. يتغير معها الوقت، دقائق تمر فساعات فأيام! وها هو يومه كما هو منذ أعوام.. رتيب كما هو! لا يحدث فيه جديد.. عبد لآلة العمل التي تتحرك.. فإن لم تتحرك معها، تركتك ومضت هي أيضًا غير مكترثة بك.. حياة مادية تسلب منه روحه.. دائرة لا يكاد أن يخرج منها! كلما تحرك معها زادت تطلعاته، وزاد احتياجه.. فبدلًا من أن يزيده المال غنى.. زاده فاقة وفقرًا.. فقرًا لما ليس عنده! فالغنى هو أن تستطيع أن تتخلى عن الأشياء لا أن تسعى لامتلاكها!

فكر لوهلة.. ما الهدف من تلك الحياة التي يحياها.. هل الحل في تمني الموت؟!

(2)

كم منا رأى هذا النموذج السابق يتكرر أمامه؟ معه أو مع من حوله..

يستطيع الإنسان المقاومة أحيانًا، وأحيانًا أخرى يسقط فريسة للاكتئاب واليأس.. وعاء روحه لا تستطيع المادية أن تملأه ولو حتى أمتلك كل أسبابها.. ولكن ما السبيل للخروج من هذا الأمر؟!

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» (أخرجه مسلم [2682]).

هذا الحديث، كلما مررت به، كنت أتوقف عن حكم النهي به.. ولكن هذا الحديث به علاج للأوجاع التي نحياها، وبه تصويب للأفهام!

علة عدم تمني الموت
العلة في عدم تمني الموت كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:
«فإنه إذا مات أحدكم انقطع عمله» .. نعم انقطع العمل بالموت! أغلق كتابك! فلا حسنات تضاف ولا خطايا تمحى! هذا الأمر إن كان وقعه على النفس صادمًا، ولكن يحمل في طياته أملًا، أملًا به تشحذ الهمم.. يدفعك للحركة الدائمة!

فما دمت حيًا، فكتابك لم يغلق بعد! وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم «وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» !

مهما كان تقصيرك.. تحمل ذنبًا أثقلك، فباب التوبة لم يغلق بعد! فالله تواب رحيم، يحب التوابيين، فبالتوبة يمحو الله الخطايا والذنوب وإن قرنتها بعمل صالح يبدلها لك حسنات! قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70].. فكيف بعد ذلك نجد لليأس مكانًا في القلب؟ وللسكون وعدم الحركة سبيلًا؟ تريد تغير حقيقي فها هو السبيل إليه..

ما دمت حيًا، أبواب الخير كلها مفتحة أمامك.. فاختر منها ما استطعت! هي أبواب شتى، أطرق منها ما تحب، تزيد بها حسناتك، ويرق بها قلبك، وتجدد بها إيمانك..

الأمر يحتاج منك ابتداءً بعضًا من التركيز لضبط نيتك، فمهما كنت مشغولًا، ستجد لنفسك وقتًا تراجع نفسك فيه، تقرأ وردك من القرآن، تدعو الله فيه، تقرأ أذكارك، تتفكر في خلقه.. لتتبسم لمن تراه أمامك، تميط أذى عن طريق، تؤثر غيرك على نفسك.. تطعم مسكينًا، وغيرها من أفكار لا تأخذ وقتًا أو مجهودًا إن كانت المشكلة لديك وقت وتفرغ..

ما دمت حيًا، مازالت فرصتك لدخول الجنة من أي باب من أبوابها أمامك! لم تفتك بعد..
فللجنة عدة أبواب.. هل فكرت يومًا من أي باب تريد أن تدخل؟

عندما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة وأبوابها ومن يدعى ليدخل من أي باب من أبوابها، فكان سؤال الصديق رضي الله عنه: "فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟"، فكان رد النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» (صحيح البخاري [1897])، هذه كانت همة الصديق رضي الله عنه، فمن كان إيمانه يعدل إيمان الأمة، فلا عجب أن تكون هذه همته، ولكن هل تأملت يومًا في كلمة النبي صلى الله عليه وسلم «أن تكون (منهم)» ؟ فهناك من أمة النبي صلى الله عليه وسلم من سيدعون للدخول من كل الأبواب.. فلم لا تكون أنت (منهم)! الأمر يحتاج لتركيز منك وخطة..

وحتى بعد موتك، إن عملت على حسنات جارية لك الآن في الدينا، فتركت عملًا صالحًا ترك أثرًا، وولدًا صالحًا يدعو لك.. فحسناتك ستستمر إذا! فإي دين رحمة هو ديننا.. فعجبًا لمن هلك بعد كل هذا!

ولكن انتبه لأمر مهم، هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَتمنَّينَّ أحدُكمُ الموتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإن كانَ لا بدَّ فاعِلًا، فليقُلْ اللَّهُمَّ أحيِني ما كانتِ الحياةُ خَيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي» (صحيح البخاري [5671]).

فالابتلاء في الدنيا جزء من اختبارنا فيها، وعليك أن تهيئ نفسك على وجوده حولك.. تهيئهالتعرف كيف تتعامل معه، وكيف تخرج منه..
فالابتلاء إن حملته على أنه شر لك، فجزعت، تملك اليأس قلبك، فاليأس يقتات على الرجاء.. حتى إن ملك القلب، ذهب الرجاء منه.. وإن ذهب الرجاء فكيف لهذا القلب أن يبصر نورًا أو أملًا.. أو يستشعر رحمة أو يجد للصبر مسلكًا؟

وإن حملته على أن قدر الله هو الخير.. فتعاملت مع الأمر بصبر وفكرت في رسالة الله لك من هذا الابتلاء.. كنت ممن قال الله فيهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر من الآية:10]، فالله يوفي لك أجر هذا الصبر يوم القيامة بكرمه ورحمته.. فإن تعاملت مع الابتلاء بهذا الفكر، وتذكرت حين ينزل البلاء هذا الأجر، فيكن الصبر بدل من الجزع، والرضا بدلًا من السخط، والأمل بدلًا من اليأس.. حينها تستطيع أن تفكر بشكل إيجابي في كيفية الخروج من هذا الابتلاء أو التعامل معه.. بدلًا من الاستسلام واليأس..

فالأمر إذا أن نفهم مراد الله منا، وفهمه بأن نتعلم ما يريد الله منا.. ما هي غاية خلقنا؟ فنحن خلقنا لنعبد الله عزوجل، والعبد يحيا كما يريد له ربه، لا كما يمليه عليه هوى نفسه..

فتكون هذه الحياة الدنيا – وما بها من ابتلاءات – سبيلًا للجنة، لحياة الخلود حيث لا نصب ولا وصب.. حيث لا خوف ولا حزن.. لا نفقد في خضام أحداثها البوصلة الحقيقية..

وكما قال ابن القيم في وصف الجنة:

وأقدم ولا تقنع بعيش منغص *** فما فاز باللذات من ليس يقدم

وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها *** ولم يك فيها منزل لك يعلم

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبى العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

سارة خليفة

طبيبة مصرية، تخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة، وتعمل في أسرة التحرير بموقع طريق الإسلام.