(2) لماذا يكذب ديوانت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

منذ 2018-02-27

لا نواجه شبهات حقيقية، وإنما نواجه عقولًا فاسدة لا تريد الإسلام وتتعمد تشويهه، سواءً الذين كتبوا كديورانت، أو أصحاب السلطة والأدوات، أولئك الذين مكنوا لديورانت وأمثاله من التحدث للجميع.

بسم الله الرحمن الرحيم..

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

في مقال سابق وقفنا حول أشهر الأسماء في كتابة التاريخ المعاصر، وهو الأمريكي وول ديورانت، نبين أن السبب الرئيسي في الشهرة هي الأدوات لا مَن اشتهر، شخصًا كان أم منتجًا، وأن كثيرًا من الناس يتلقون ما اشتهر دون نقدٍ؛ واستحضرنا وول ديورانت نموذجًا على ذلك، نقول: اشتهر لأنه لسان حال المنظومة الغربية التي تمتلك أدوات النشر والدعاية، واشتهر لأن كثيرًا ممن قرأ له لم يمارس النقد الفكري على ما قدم. وفي هذا السياق استحضرنا بعض أكاذيبه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونكمل اليوم بعض أكاذيب ديورانت ثم نعلق عليها بما يخدم السياق الذي نتحدث فيه.

 

الكذبة الحادية عشر: ادعى أن النبي- صلى الله عليه وسلم-  لجأ للغارة على القوافل لتوفير طعام للمسلمين. وكأن الجهاد كان غارات سلب ونهب!!

 

إن الملمح الرئيس في غزوات الرسول-صلى الله عليه وسلم- هو الحرص على هداية الناس، يظهر هذا من وصيته للمقاتلين قبل المعركة بعدم التعرض لمن لم يقاتل، ويظهر من قلة عدد من قتل في الغزوات، ومن التعامل مع الأسرى بعد الحرب برحمةٍ وعفوٍ، ومن التعامل مع الحكام إن هم أسلموا ولم يقاتلوا بإبقائهم على حكمهم، ومن التعامل مع أهل الأرض بعد فتحها بتمكينهم من العمل والانتاج مقابل أقل ما يدفع لسلطة.

 

وكان الأبرز في سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم هو العفو، حتى عوتب في العفو (أواخر سورة الأنفال، وفي سورة التوبة في أكثر من موضع...). وهذا يقول: كان يعيش من السلب والنهب. ألا لعنة الله على الكاذبين.

 

الكذبة الثانية عشر:

ادعى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- استعطف عدوه بالزواج، ويضرب مثالًا بالسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان. ويستدعي تعليق أبيها على زواج النبي-صلى الله عليه وسلم- من ابنته (هو الفحل لا يقرع أنفه).

 

وقد كان تودد النبي-صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لا لأعدائه، يصاهر خاصته، ويتزوج من يرفضها غيره؛ وأمنا أم حبيبة بنت سفيان كانت في الحبشة بعيدة كل البعد عن أبيها ومات زوجها وهي في الغربة فأرسل إليها يواسيها بأفضل ما تواسى به أرملة؛ وكانت مسلمة تناصب أباها العداء، ورفضت أن تُجلس أباها على وسادةٍ جلس عليها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فلم يكن إرضاؤها إرضاء لأبيها أو غيره من الكافرين.

 

الكذبة الثالثة عشر:

ادعى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يقتل النساء، والشعراء. ويستدعي قصة الصحابي الأعمى الذي تطاولت زوجته على شخص رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فلم يصبر فقام إليها- وهي أحب الناس إليه، وهو أعمى أحوج ما يكون إليها- وقتلها غيرةً على عرض رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حال جميع المؤمنين الذين قال الله فيهم {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، وكأن هذا الحدث الفردي الذي له ما يبرره كان سياقًا عامًا!!

 

وقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقرب الشعراء ويستحثهم ويستدعي الجيد من شعر الجاهلية ويثني عليه كشعر أمية بن أبي صلت. ولم يقتل إلا عديم المروءة ذاك الذي تجرأ بالكذب على الأعراض، وكان الشعر يومها كمحطات التلفاز اليوم. فهل الدفاع عن الأعراض قتل لأصحاب المواهب؟، هل يُترك الدني البذيء يتعرض لطيبين والطيبات؟!!

 

 

وبعد:

هذه بعض أكاذيب أكبر مؤرخي العلمانية المعاصرة، وأحاول عرض بعض الملاحظات المهمة عليها لمزيدِ بيان حول السياق الذي نتحدث فيه، وهو بيان أن السلطة تنشيء معرفةً ما تفيد منها في توطين سلطتها والهيمنة على غيرها، وأن كثيرًا مما اشتهر فاسد لا يصلح ومع ذلك يستقبله الناس فقط لأنه مشهور:

 

أولًا: كيف تكونت هذه الأكاذيب؟

تكونت بأحد أمرين أو كلاهما: الأول: فساد مصدر الاستدلال، والثاني: فساد منهجية الاستدلال.

 

بخصوص مصدر الاستدال، فإن النصارى من يوحنا الدمشقي (ت132هـ) والذين من بعده، كتبوا وجهة نظرهم عن الإسلام ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم تخرج عن أكاذيب قريش وأكاذيب كل قومٍ بعث فيهم رسول من عند الله {كذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}..

 

وحين ظهر العلمانيون على أنقاض النصرانية في أوروبا عمدوا إلى قراءة الشريعة الإسلامية كاملة وأخرجوا شيئًا يتناسب مع عداوتهم للدين والمتدينين من حيث العموم، فيما عرف بالاستشراق..

 

ثم قاموا بنقل مخرجات هذه القراءة في اتجاهين: الأول: قومهم هم، فأعطوهم صورة مغلوطة عن الإسلام.

 

والثاني: إلى قومنا حين تواصلوا معنا ثقافيًا وخاصة بعد الاحتلال، فتأثر بهم قوم منا، وظهرت مفاهيم الاستشراق على ألسنة بعض المسلمين حتى صار كثير مما يقال ويكتب ويهتم به عمومًا مستحدث لم تعرفه الأمة من قبل.

 

فلم تتجادل الأمة قبل القرن العشرين في ستر المرأة نفسها بالجدران ثم بالثياب إن اضطرت للخروج، ولم تتجادل الأمة في تحكيم الشريعة، ولم تتجادل الأمة في وجود إمامة عامة يتفق عليها أهل الحل والعقد.

 

بعد أن نبتت مفاهيم المستشرقين في صدور وعقول بعض المسلمين راح المستشرقون يستدلون بما كتب المسلمون، والذي هو من بضاعتهم أصلًا. يقولون: هذا ما يقوله المسلمون عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولذا حين تتبع شبهات المنصرين والتي رددها وول ديورانت في كتابة عن التاريخ لا تجد لها أصلا في تراثنا الفكري، وإنما تجد أن جميعها مصدره ما كتبوه هم بأيدهم عن الدين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم.

 

وبخصوص منهج الاستدلال، فإن ديورانت وأمثاله يعمدون لنصٍ شرعي أو حدثٍ في السيرة ويقطعونه من سياقه ثم يفسرونه من عند أنفسهم، كما فعل في قصة أم المؤمنين بنت أبي سفيان، وقصة ورقة بن نوفل، وقتل من تطاول على الأعراض..

 

ثانيًا: فكرة التأطير:

يستهدف ديورانت وضع إطار آخر غير الرسالة لشخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو إطار الشخصية القوية التي سيطرت على من حولها بقوة روحية وقوة مادية. مع أنك حين تدور حول كتابات المستشرقين تجد أن أكثر ما يؤرقهم هو التغير المفاجئ لشخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، والجزيرة العربية ثم الفرس والروم، وأن هذا لم يكن ليحدث إلا بشيء من خارج سياق الزمان والمكان ولم يحدث بتطور طبيعي في الأفكار والمجتمعات، وإنما جاء بوحي من السماء، بمعنى أن المواجهة بين الله والمؤمنين به وبرسوله (حزب الله) وأتباع الشيطان.. الكافرين بربهم.. المكذبين لرسله.. المحاربين لأوليائه {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

 

ثالثًا:

لا نواجه شبهات حقيقية، وإنما نواجه عقولًا فاسدة لا تريد الإسلام وتتعمد تشويهه، سواءً الذين كتبوا كديورانت، أو أصحاب السلطة والأدوات، أولئك الذين مكنوا لديورانت وأمثاله من التحدث للجميع.

 

ونواجه فئة من الغافلين أو الجاهلين أو مرضى القلوب الذين أنصتوا للغرب ونقلوا عنهم دون تدبر للسياق الذي تتحرك فيه العلمانية من أجل القضاء على التدين بجميع أشكاله وفرض نمط ملحد يدعي أن الحياة تتحرك للأمام في اتجاه اللادين.