من مقامات النبوة - (7) مقام التربية

منذ 2018-03-05

من أحضَان المدرسَة المحمدية تخرّجَ أبو بكر الذي يخيَّر يوم القيامة من أبواب الجنـَّة الثمانية أيها شاء، وعمر فارُوق هذه الأمة الذي لو رآه الشَّيطان سالكاً فجَّاً لسلك فجاً غير فجِّه، وسعْد بن معَاذ الذي اهتَز لموته عرشُ الرحمن.

قبل أن تتصفح هذا المقَام، وقبل أن تبحر في كلمَاته ومقاصِده، أجِل فكرك واسبَح بخاطِرك، واسترجع ذكرياتِك وذاكرتك وحياتك، ثم استخرج من ذلك الكم الهائل، والعَدد الضَّخم من البشر الذين جمعتك بهم وموافقات الحياة وأيام الدُّنيا!! ثم عليك بعد هذا أن تصَفي تلك الوجوه وتنتقي منها أبرز شَخص ورجُل جمعك به لقَاء في هذه الحياة، وعش لحظَات في سر إعجابك به في أخلاقه وسُمُو روحه، وفي عذوبة منطقه!! جُل بذاكرتك جميع المحاضن والمدارس والمجمَّعات والدورات التَّربوية، والصُّروح التي تشَاد من أجل إعداد الأجيال وتهذيبهم وتربيتهم، فلن تجد من خلال تلك الأعداد التي استخلصْت منها ذلك الرجل مع كثرتها ووفرتها رجلاً جمع خصَال الحمْد، ومزايا الخُلُق، وعذوبة المنطق، وفصَاحة اللسَان، ولين الجانب، وبسَاطة التواضُع، وسمُو الرُّوح، ونبل الغَاية، وإخلاص العمَل، كما اجتمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم..!!

 

هو أمَّة الأخْلاق شيدت فيه من *** كَرَم ولُطْفٍ للإلَه حبَاه  

 

ولن تَجد في تلك المحَاضِن والمدارس منهَج تعَلم، وخطَّة عمَل، وسَلامة منهَج، وكمَال تنظِيم، وجَلالَة هدَف، وصدْق انتمَاء، كما كان في المدرسَة المحمَّدية التي خرَّجت الأبْطال الفاتحين، والقَادة الميَامين، والدعاة المخْلصِين، والأسخيَاء الباذلين، والأعْلام الصَّادقين، فقد كانت بحقٍّ تصفية روح، وتهذيب خُلق، وتريبة نفْس، وتنمية مهَارة في كل ما يخدم هذا الدين ويرضي رب العالمين. وإذا علمت بأن المعلِّم هو محمَّد صلى الله عليه وسلم، والمسَاعد هو أبو بكر، والمدرِّب عمر، وصاحب الخزينة بلاَل، وكامن السر حُذيفة، والدَّاعم عثمان، والفِدائي علي، والتلاميذ سعْد وطلْحة ومصْعب والزُّبير وأُسَيد وأنس، والمكان والمدرسة في مسجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقرر للمنْهج والدَّرس هو "اللَّـه"-جل جَلاله-، ومبلغ المنهج للمعَلم "جبريـْل" مع كوْكبة من الملائكة يحفُّون تلك المدرسة ويلفونها بأجنحَتهم..!!

 

لقد بنيت على تقوى من الله ورضْوان، فلو اجتمعت جامعَات الدنيا وأسَاتذة العصر وعباقرة العالم، على أن يخرّجُوا مثل تلك القيَم وتلك المبادئ، وذلك السُّمو، لما استطاعوا أن يقاربوه أو يُدانوه لا أن يصلوا إليه، وتأمل كيف أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  من رعاة الغَنم قادةً للأمم، ومن عبدة الأوثان وسدَنة الأصنام دُعاةً للإسلام، ومشاعل للإيمان، حتى تربعوا على قصور كسْرى وقيصَر، وهيمنوا على ملكهم.

 

ولتعرف شيئاً من نسِيم تلك التربية، وتشم شيئاً من عبيرها مُدَّ بصرك في بعض رياض تلك المُثل، وانظر قبل كل شيء إلى الميْزان والمعيار الذي كان يربيهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  في معرفة الرجال وقدرهم.

 

ففي أحَد الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  جالسَاً وعنده رجل من أصحابه فمر بهم رجُل يلوح عليه شارة الغنى، وعلامة الثراء، قد لبس من أجمل الثياب وتعطر بأعتق الطيب، فسأل رسولُ الله الرجلَ الذي بجانبه فقال:  ما تقُول في هذا الرَّجل؟ - يقصد الرجل الثري - فقال: يا رسول الله هذا رجل من أشراف الناس حري إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفّع، وإن قال أن يُسمع، فسكت عليه الصلاة والسلام وجلس قليلاً فمر رجل آخر، رثُّ الحال، متواضع الهيئة، قد ظهرت عليه آثار الفقْر وقلة ذات اليد، فقال صلى الله عليه وسلم  للرجل الذي سأله قبل قليل: ما تقول في هذا الرَّجل؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من أوسَاط الناس، حَري إن خطب ألا يُنكح، وإن قال ألا يُسمع لقوله، وإن شفع ألا يُشفّع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم  - وهو يرسم ميزان الرجَال ومقياسهم في الإسلام -: هذا خَير من ملئ الأرض من مثْل ذاك!![1] هكذا هو معيار الإسلام فلا مظَاهر، ولا أشكال، ولا بطر، وإنما هو ما يقوم في القلب من تعظيم الله وحرماته، وما تصدقه الجوارِح بعد ذلك.

 

وفي إحْدى رحلات النبي صلى الله عليه وسلم  مع أصحابه مرّوا ببستَان فصعد عبدالله بن مسعود على نخلة ليخْتَرف منها، وكان الصحابة تحت النخلة فنظروا إلى دقة ساقيه وحَمَشهما وسوَادهما وكان دقيق الجسْم أسْود اللوْن، فضحكوا من دقتهمَا وسوادهمَا، فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجَبون من دقَّة ساقيه؟! والله لهما أثقَل في الميزان من جبَل أحُد!![2] فكم من رجل جميل اللَّون، حسن الجسم، ولكنه مقطوع الصلة بربه سبحانه، فهذا ليس له في الآخرة من خَلاق، كما في الصحيح: "يؤتى بالرجل العظيم السَّمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جنَاح بعوضَة"[3]

 

وماينفع الفتْيان حُسْن وجوههم *** إذا كانَت الأخْلاق غَير حسَـان

 

وفي موقف ومقام آخَر يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم  الغاية والهدف من هذا الوجوْد، ويربطهم بالآخرة حين تغريهم زهْرة الحياة الدُّنيا.

 

أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم  حلة من حرير، فأخذها بعضُ الصَّحابة – رضي الله عنهم – وجعلوا يقلبونها ويعجبون من لينها ونعومتهَا، وكانت غايةً في الحسْن والجمَال والنعومة، فنظر إليهم المربي في تلك الحال فقال: أتعجبون من ليْن هذه؟ لمنَاديل سعد في الجنَّة ألين منها!![4] فزهدت فيها نفوسهم، وارتفَعت هممهم، وسمَت أهدافهم، وهم يرون أن مناديل سعد فقط ألين من هذا الحرير، فكيف يكون لبَاسه! وكيف سريره وفراشه وهندامه!

 

ولم يعرف اليأس إليه طريقاً عند الشدائد، ولا عرف التنَازل عن مبَادئه، بل كانت الشِّدة تزيده عزماً ومضياً وتفاؤلاً، وكان يبعث هذه الروح في أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم عليها، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجُلان أحَدهما يشكو العَيلة، والآخَر يشكو قَطع السَّبيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسَلم: " أما قَطع السَّبيل: فإنه لا يأتي عَليك إلا قليل، حتى تخرج العِير إلى مكة بغَير خفِير، وأما العَيلة: فإن السَّاعة لا تقوم، حتى يطوف أحدكم بصدقته، لا يجد من يقبَلها منه"[5].

 

وفي إحدى المحن الكبرى التي حوصرت فيها المدينة وطوقت بلفيف المشركين، تعرض صَخرة في مكان من الخَندق، لا تأخذ فيها المعَاول، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فوضع ثَوبه ثم هبَط إلى الصَّخرة، فأخذ المِعول فقال: "بسم الله " فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا". ثم قال: "بسم الله" وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا" ثم قال: "بسم الله" وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا"[6]. فما أسمى هذا التفاؤل الفذ في أحرج الأوقات وأصعبها.

 

وإن أردت أن ترى موقفاً أعْمَق وأكمَل، ومقاماً أسمَى وأجمل، فعِشْ في أكنَاف هذا اللقاء الذي تخرس أمام فصَاحته مصاقع الخطَباء، وتشْدَه أمام أدبه ولطْفه أبصار المربين والمعلميْن، ذاك أنه لما انتهت غزْوة حنين وأظفَر الله فيها المسلمين بهوازن بعد ما كانت الصَّولة في بادئ الأمر لعدوهم، وكان الجيش قد فر أكثره وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم  في قلَّـة من أصحابه فأمر العبَّاس وكان جهوري الصوت فنادى أصْحاب بيعة الرضْوان فأسرعوا إليه كما تسرع الأمهات إلى أولادها، ثم خص الأنصار بالدعاء، فأقبلوا ملبين النداء فأبلوا بلاءً حسناً، فلما انتهت المعركَة وجُمِعت الغنائم فإذا أودية الإبل، وإذا الشعاب قد غصَّت بالغنم والشاء، فجاء أبو سفيان فقال: أعطني يا رسول الله من الغنائم، فقال: خذ مائة ناقَة، فقال صفوان: وأنا؟ فقال: ولك مائة، فعند ذلك قال حكيم بن حزام: وأنا يا رسول الله!! فقال: ولك مائة. فقال الأقْرَع بن حَابِس وعُيَيْنة بن حِصْن وهم يرون هذه الأعطيَات: ونحن يا رسول الله!! فقال: ولكُما مائة. فاجتمع عليه العرب وكل يقول: أعطني يا محمد، حتى اضطروه إلى سمرة فخُطفت رداؤه فوقف –عليه الصلاة والسلام – وقال: " أعطوني ردائي فو الله لو كان لي بعَدد هذه العِظَاه نعَما لقسَمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً " فللَّه دره! ما هذا الكرم؟ وهذه العظمة؟ وهذه الشجَاعة؟ قبل ساعات يصمُد أمام الجيش ويهزم عشرين ألفاً، ويحثو في وجوههم التراب، ويدوْس الكتائب أمامه، والآن يقسم لهم الغنائم ولا يبقي لنفسه شيئاً.

 

وفي هذه اللَّحظات ورسول الله يقسم الغنائم، ويعطي رؤوس قريش وسادة القَبائل. مئَات الإبل، على مرأى الأنصَار الذين وجه لهم النداء قبل قليل في المعركة، والذين آووه ونصَروه وآزروه فلم يعطهم شيئاً، فوجدوا ذلك في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقيَ والله رسول الله قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فأخبره فقال: اجمع لي هذا الحَي من الأنصار في الحظيْرة، فجمعهم ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأتى فدخل عليهم، فحَمد الله وأثنى عليه ثم قال:" يا معْشَر الأنصَار، ما مقَالة بلغَتني عنكم، وجِدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهَداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً  فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى الله ورسُوله أمَن وأفضَل. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصَار؟ فقالوا: بماذا نجيبُك يا رسُول الله؟. فقال: أما والله لو شئتُم لقلْتم فلصَدَقتم، أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصَرناك، وطَرِيداً فآوينَاك، وعائلاً فآسينَاك، أوجدتم يا معشر الأنصَار في أنفسكم في لعَاعَة من الدُّنيا، تألفتُ بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامِكم؟ ألا ترضَون يا معشر الأنصَار أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحَالكم؟ فوالذي نفس محمَّد بيده، لولا الهِجرة لكنت امْرَءاً من الأنصَار، ولو سَلَك النَّاس شعباً وسَلَكت الأنصَار شعباً لسَلَكت شعب الأنصَار، اللهم ارحم الأنصَار، وأبناء الأنصَار، وأبناء أبنَاء الأنصَار، الأنصَار شعَار والناس دثَار، سوف تلقون أثرة بعدي فاصْبروا حتى تلقَوني على الحَوض " فبكى القَوم حتى أخضَلوا لحَاهم، وقالوا: رضينا برسُول الله قسَماً وحَظاً..![7]

 

في هذا المقَام تظهَر روعَة الأخْلاق، وسُمُو الرُّوح، وعظَمة هذا النبي، وكمَال تلك الإنسَانية التي يحملها في قلبه، فيا للجَلال! ويا للجَمَال! ويا للكَمَال!  فهل سمعت بأرَق من هذا العِتَاب، أو قَرَأت ألطف من هذا الخطَاب، وكيف كان يربيهم – عليه الصَّلاة والسلام –على رسُوخ الإيمان، والصدْق في الغَاية، والاعتراف بالفضل، والنظر في العقبى والآخرة، وعَدم الاغتِرار والركون لحُطام الدنيا وزخْرفهَا، فقارن بين ناقة وجمَل وشاة تأوي بها إلى رحْلك، وبين أن تصحب خيرة الله من خلقه، وأمينُه على وحيه، وكذلك هو الحال في أتباع هديه وسنته، فإذا انصرف الناس لمتاعهم ودينارهم، فليكن همك هو تحصيل سنة رسول الله والنَّهل من سلسَالها والرشْف من رحيقِهَا.

 

تحدَّث ولا تخرُج بكل عجيبَة *** عن البَحر أو تلك الخِلال الزَّواهِر

ولا عيْب في أخلاقِه غير أنهَا *** فرَائد در ما لهَا من نظَائر

يُقِر لها بالفضْل كل منَازع *** إذا قيل يوم الجَمع هل من مفَاخر

 

وتأمل كيف كان يتعامل مع الخطأ، ويحوره لأن ينقلب إبداعاً وتميزاً، في بحث عن زوايا الخير والإبدَاع لدى المخطئ، فلندع القلم لأبي محذورة رضي الله عنه ليحدثنا عن مجريات هذا الخبر قائلاً:

 

قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنين، فلقينا ببَعض الطريق، فأذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسَمعنا صوت المؤذن، ونحن متَنكبون فصرَخنا نحكيْه، ونسَتهزئ به، فسمع رسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنَا بين يديه، فقال: " أيكم الذي سمعت صَوته قد ارتفَع؟ " فأشَار القوم كلهم إلي، وصدقوا فأرسَلهم كلهم، وحبسَني، فقال: " قم فأذن بالصلاة " فقُمت، ولا شيء أكره إلي من رسُول الله صلى الله عليه وسَلم، ولا مما يأمُرني به، فقُمت بين يدي رسُول الله صلى الله عليه وسَلم، فألقَى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التَّأذين هو نفسه، ثم دعَاني حين قضيت التأذين، فأعطَاني صُرة فيها شيء من فضَّة، ثم وضع يده على ناصيَة أبي محذُورة، ثم أمارها على وجهه مرتين، ثم مر بين يديه، ثم على كَبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرة أبي محذُورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله فيك "، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال: " قد أمَرتك به "، وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعَاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم[8].

 

ولم يكن _عليه الصَّلاة والسَّلام_ يحصُر مواهبهم وقدُراتهم في مجال واحد، بل كان يوظِّف كل واحد بالمكان الذي يناسبه، فبلال بن رباح وابن أم مكتوم في الأذان، وحذيفة بن اليمان أمين للسر، وخَالد بن الوليد على مقدمَة الجيش وقيادة السرَايا، ومعاذ بن جبل للقضاء وتعليم الناس في اليمن، وأبو هُريرة لروايـَة الحديث، وأنَس بن مالك في الخدمَة وقضَاء الحاجَة، وفي وصيَّة لأبي ذَر: "إني أراك ضعيفا، وإني أحِب لك ما أحب لنفْسي، لا تأمرَن على اثنَين، ولا تولين مَال يتِيم"[9].

 

 وفي ظِلال هذه التَّربية، ومن أحضَان المدرسَة المحمدية تخرّجَ أبو بكر الذي يخيَّر يوم القيامة من أبواب الجنـَّة الثمانية أيها شاء، وعمر فارُوق هذه الأمة الذي لو رآه الشَّيطان سالكاً فجَّاً لسلك فجاً غير فجِّه، وسعْد بن معَاذ الذي اهتَز لموته عرشُ الرحمن، وسعْد بن أبي وقاص الذي كبّر في القادسيَّة، وركب البحر بالخيل هو وجيشه فما غطَّى الماء الخيل إلا إلى الركب، وفي هذا يقول إقبال:

 

من ذا الذي رفع السُّيوف ليَرْفع اسمَك *** فوق هامَات النجُوم منَارَا

كنا جبَالاٍ في الجبَال وربما *** سرْنا على موج البحَار بحَارا

بمعابد الإفرنْج كان أذاننَا *** قبل الكتَائب يفتَح الأمصَارا

ندعُو جهاراً لا إله سوى الذي *** خلَق الوجُود وقدَّر الأقْدَارا

 

ومنها تخرج العَلاء بن الحضْرمي الذي لو أقسَم على الله لأبَره، وعبد الله بن عمرو بن حَرام كليم الرحمَن بلا ترجمَان، وغيرهم ممن يتألَّق في سماء العظَمة، ومنابر العز، وهامَات المجـْد. فما بال أمتنا لم تعد تخرج مثل ذلك الطِّراز، وعلى ذلك النسَق، وعلى غرار تلك المثُل!!

 

يا أمتي كنَّا شعَاع هدايَة *** للنَّاس في الدنيَا لها أنْوار

كنا على الأيَّام صوْت مؤذن *** فرحَت به الأمصار والأسْحَار

كنا هطِيل الغيْث ما سقيَت بنا *** أرض فماتَت بعدَها الأزهَار

سلْ كل أرض قَد وطئْنا سهلَهَا *** ستُجيبُك الأمجَاد والآثَار

ما عدْت  أجزِم أننَا من أمَّة *** تاهت بها الأمجَاد والأقمَار

يا رب إنا قد أتينا نشتَكي *** ظلما وأنْت الوَاحِد القَهَّار

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] أخرجه البخاري (4803).

[2] أخرجه أحمد (7 / 99)، وصححه ابن جرير الطبري في مسند علي (رقم 163).

[3] أخرجه البخاري (4452) مسلم (2785).

[4] أخرجه البخاري (3076).

[5] أخرجه البخاري (2 / 109).

[6] أخرجه أحمد (30 / 626)، وحسنه ابن حجر، وضعفه ابن كثير بميمون أبو عبدالله، وهو الأظهر فالأكثر على تضعيفه. ينظر: فتح الباري (7/397)، البداية والنهاية (4/102).

[7] أخرجه البخاري (6818) مسلم (1061).

[8] أخرجه أحمد (24 / 98). قال البوصيري: إسناده صحيح. مصباح الزجاجة (1 / 89).

[9] أخرجه مسلم (3 / 1457).

المقال السابق
(6) العناية الإلهية
المقال التالي
(8) وللحب مداد