الغرق في التفاصيل: عباس العقاد نموذجًا
لم يكن العقاد بدعًا، بل كان نموذجًا لكثيرٍ ممن كتبوا في الفكر الإسلامي والعربي في العصر الحديث: غرقوا في التفاصيل، فاستخدمهم الآخر وأفاد منهم.
لتقديم رؤية نقدية للظواهر الاجتماعية، أو الرموز الفكرية عليك أن تحشد ما تستطيع من معلومات وتعيد النظر فيها مرة بعد مرة. تتأمل في السياق وتتأمل في الشخص/الظاهرة، وتتأمل في تفاصيل ما يُقال وما يفعل؛ وتحاول أن تبحث عن العلاقة (التأثير والتأثر) بين الثلاثة: الفعل والفاعل والسياق، مَن المستقل (المؤثر)؟، ومن التابع (المتأثر)؟، ومن الوسيط الذي يمرر التفاعلات الاجتماعية من غيره إلى غيره دون أن يتأثر هو؟!
بهذه الطريقة يسر الله لي تقديم عددٍ من القراءات النقدية، كان أبرزها: قراءة نقدية لزكريا بطرس (نشرت 2007)، وعباس العقاد (2009)، وعمرو خالد (2011)، والسلفيين (2017). وأحاول-بما يسمح به مقال- تقديم أهم ما خرجت به من النظرة الكلية لعبَّاس العقاد بعد أن قرأت له وعنه قرابة سبعة آلاف صفحة.
تبرز ملاحظتان رئيسيتان فيما قدم العقَّاد؛ الأولى: أنه يجنح دائمًا للشاذ والغريب، وهذا هو مفتاح شخصيته، وقد شرحته في مقالٍ مستقلٍ هنا بعنوان (مفتاح شخصية عباس العقاد). والملاحظة الثانية: الغرق في التفاصيل وعدم الوعي للسياق الكلي، وهو موضوع هذا المقال.
مع أن الفكر يُعنى بالكليات.. السياسات(الاتجاهات) العامة، إلا أن الملحوظة الأهم أن التفاصيل سيطرت على عامة المنتسبين للفكر الإسلامي والعربي، ومنهم عباس العقاد. سواءً على مستوى القضايا أو على مستوى الأدوات التي استخدمها في الرصد والتحليل، وهذه بعض المشاهد من عند عباس العقاد كشواهد:
في السياسة:
إلى أن بلغ الخمسين من عمره كان في تفاصيل السياسة.. بداخل حزب سياسي، يصارع أحزابًا انتصارًا لحزب: تفاصيل التفاصيل ومعارك شرسة لا مغنم من ورائها، بل استُخدمت لتفتيت الأمة واستنزاف طاقاتها. فمن أمة إلى أوطان، إلى أحزاب وجماعات، وعباس-وهو المفكر الكبير زعموا- في تفاصيل التفاصيل يُساق مع غيره حيث يشاء الأعداء.
في الأدب:
وحين نزل ساحة الأدب دخل في التفاصيل- أيضًا-. قاتل أمير الشعراء أحمد شوقي (الديوان)، ومن أجل الانتصار في معركة جانبية على شوقي اصطف-بقصدٍ أو بدون قصد- مع الرؤية الغربية في الأدب، وانتهى الأمر بتحقيق انتصار جزئي على شوقي وفي ذات الوقت المساهمة في تحقيق أهداف كلية لصالح التمدد الغربي الثقافي في الساحة الإسلامية. بمعنى أن العقاد انتظم -من حيث يشعر أو لا يشعر- ضمن قطار النصارى والعلمانيين الموصول بالثقافة الغربية. بمعنى أنه تم توظيفه واستُخدم كقنطرة مرّ عليها الغربيون لحصوننا الفكرية، ولم يُغنِ عن العقاد إعلان انزعاجه بما حدث من تطور في الأدب بعد ذلك ومهاجمته للأشكال الجديدة للأدب الحديث. لم يستوعب بشكلٍ جيد أن الغرق في التفاصيل والبحث عن الذات أدى إلى توظيفه لصالح الأعداء!!
أدوات التحليل:
النظريات نوعان: نظريات كلية تتعلق بالفلسفات والأطر العام، أو المنظور الكلي. ونظريات تفسيرية تستخدم لفهم الظواهر والأحداث الجزئية. ومع أن عبَّاس معدود كمفكر إلا أنه استخدم النظريات الجزئية، مثل: العبقريات، وحتمية العامل الوراثي والظرف البيئي، والتطور. وكلها من الرؤية الوضعية للحياة Positivism وتعني قراءة الواقع المشاهد على ما هو عليه. والوضعية متكئ العلمانية الملحدة ومنطلقها (باستثناء المدارس النقدية التي نشأت وتطورت حديثًا في نهاية القرن العشرين كالبنياوية والفرانكفونية النقدية)، وقد بيّنتُ بعض ذلك في مقالٍ هنا بعنوان (قنطرة الإلحاد عباس العقاد وعلي الوردي نموذجًا).
تقليد ابن خلدون:
لم أقف على إشارة واضحة من عبَّاس لابن خلدون إلا أنه ظهر لي بوضوح تام أن عباس استخدم أدوات ابن خلدون في الرصد والتحليل؛ من ذلك الربط بين البيئة ومن يعيشون فيها. استعمل عباس هذه الأداة فيما سماه (تاريخ الأديان)، فحاول الربط بين البيئة والنبوة، يقول: هذه البيئة يصلح لها الكهان، وهذه البيئة يصلح لها الأنبياء. يجعل النبوة والكهانة قسمان لشيءٍ واحد (إصلاح حياة الناس). ويقول: المدن لها شأن مع النبوة والبادية لها شأن آخر. وكله من خياله، وكله يتعارض مع صريح الصحيح من الكتاب والسنة!!
وأخذ عبَّاس من ابن خلدون قراءة الواقع على ما هو عليه، وهي آفة علم الاجتماع عمومًا، وتضخمت هذه الآفة عند العقَّاد، حتى أنه ليقرأ كل قوم بما يقولون، ووصل الأمر لتأييد ما يقول النصارى عن كتابهم وعن بولس (شاؤول) وعن الصلب والفداء؛ ووصل الأمر إلى الحماسة الشديدة لعبد البقرة غاندي للدرجة التي جعلته يدعي أن غاندي نبي مكتمل النبوة آمن به الهنود وبعض الغربيين. وكذا فعل مع عددٍ من عباقرته!!
ويمثل الواقع نقطة انطلاق للتشخيص.. للتعرف على المناط، كي نأتي له بالحكم الصحيح إذا كان المقام افتاء، أو نبحث له عن الدواء إذا كان المقام دعوة وإصلاح، ولكن الواقع لا يكون مصدرًا للقيم الحاكمة ولا يُقرأ كما هو بل: يختلف تشخيص الواقع تبعًا لمقولات الإدراك التي تشكل عقلية من يقرأ.
وأخذ من ابن خلدون فكرة الوعي الكوني. وهي فكرة أساسية عند عباس العقاد، يفسر بها الإيمان ويفسر بها النبوات. يقول: تصفو النفس وتتطور في الصفاء من الإيمان إلى العلم عن الله بدون وحي، فسبب الإيمان عنده هو هذا الوعي الكوني لا خطاب الوحي ودعوة الأنبياء وأتباعهم، والنبوة عنده حالة من الارتقاء في الوعي الكوني. والفكرة من عند ابن خلدون إذ أنه أطال في مقدمته في بيان علاقة صفاء النفس بتلقي الوحي والعلم عن الله. وتمادى العقاد في تطوير الفكرة، فسلك الصوفية والكهان والسحرة والمشعوذين والأنبياء في طريقٍ واحد متدرج من (الوعي الكوني)/ (صفاء النفس) واصطف مع الذين يقولون بأنها أرضية لا سماوية!!
وفي القرآن الكريم أن النبوة اصطفاء من الله لخلقه {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ} [الحج من الآية:75]، {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ} [الأنعام من الآية:124]، {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس:16].
نعم هكذا: الغرق في التفاصيل يؤدي إلى الدخول في سياقات أخرى تُوظِّف هذا الذي غَرَق في التفاصيل وتُفيد منه، وهو حال عباس العقاد، فقد نصر الثقافة الغربية بمدرسةالديوان، وساعد الآخر في تقديم قراءة للسيرة النبوية بأدوات غربية (العبقرية) إذ أن العبقرية تعني أن التاريخ صنعه أفراد. والحق أن التاريخ صراع بين الحق والباطل: بين منظومتين من القيم: سماوية نزلت من عند الله على رسله، وأرضية خرجت من رأس شياطين الإنس والجن {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام من الآية:121] . والقيم تصنع الأفراد خلقًا آخر. فمن يؤمن ليس كمن يكفر وإن كانا في بيئة واحدة، وإن كانا في بيت واحدٍ ومن ذات الأبٍ والأمٍ؛ وساهم في توطين الرؤية الوضعية التي امتطت أفكار ابن خلدون.
ولم يكن العقاد بدعًا، بل كان نموذجًا لكثيرٍ ممن كتبوا في الفكر الإسلامي والعربي في العصر الحديث: غرقوا في التفاصيل، فاستخدمهم الآخر وأفاد منهم، ولم يُقدّموا أكثر من النقل عن الآخر.. نقلًا حرفيًا، أو نقلًا للمفاهيم والمصطلحات، أو تفسيرًا وشرحًا للواقع بأدوات الغرب المعرفية؛ فالصف الأبرز للفكر العربي في العصر الحديث هي النقل عن الغرب. وأهم أسباب هذه الورطة هو الغرق في التفاصيل.
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام.
- التصنيف: