شهر للجهاد بالقرآن

منذ 2018-05-30

لنتذكر أن هذا الجهاد بالقرآن الكريم هو نفسه عبادة من أعظم العبادات، وأنه ربما كان أبلغ في شهر الصيام والقرآن.

رمضان الكريم هو الشهر الذي أنزل الله -تعالى- فيه كتابه الحكيم؛ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

والقرآن الكريم هو أساس الجهاد الكبير المستمر؛ الجهاد بالكلمة؛ حيث أمر الله -تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بأن يجاهدوا الكفار بالقرآن الكريم جهاداً كبيراً؛ أمرهم بذلك وهم مضطهَدون بمكة منهيون عن القتال بالسيف، مأمورون بأن يكفُّوا أيديهم ويقيموا الصلاة.

أنزل الله -تعالى- على رسوله قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]؛ فأَمَرَه بأمرين مهمين؛ علينا أن نتذكرهما ونعمل بهما ولا سيما في هذا الشهر العظيم:

أمره أولاً: بأن لا يطيع الكافرين؛ لا يطيعهم في أي أمر فيه مخالفة لِما أنزل الله -تعالى- عليه في أمور الإيمان والعبادات والأخلاق والدعوة ومحاولتهم توهين أمره.

وأمره ثانياً: بأن لا يقف عند حدود هذا الموقف السلبي مع عِظَم أهميته، بل أن يخطو خطوة أخرى: هي جهاد الكفار بالقرآن الكريم جهاداً كبيراً.

والجهاد الكبير كما تقول كتب التفسير: هو الجهاد الجامع لكل مجاهَدة. ونحن؛ إذ نتحدث في هذا المقال عن الجهاد بالقرآن لا نعني نفي الجهاد بالسيف؛ فقد كانت معركة الإسلام الكبرى في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في رمضان، وإنما الذي نريد تأكيده هو أنه: إذا كان الجهاد بالسيف قد ينقطع لبعض الوقت ولبعض الأسباب؛ فإن الجهاد بالكلمة؛ كلمة الله -تعالى- جهاد مستمر وقد يكون شاقاً، لكنه جهاد لا بد منه؛ كان قبل القتال ويكون أثناءه وبعده.

إنه جهاد لا بد منه؛ لأنه جهاد لا تعلو كلمة الله -تعالى- إلا به.

 

أريد في هذا المقال أن أُذكِّر الإخوة الصائمين بأمور تتعلق بالجهاد بالقرآن:

أريد أولاً: أن أدعو من كان منهم قادراً على تدبُّر القرآن الكريم وهو يتلوه في هذا الشهر، أن ينظر في الآيات الكريمة التي يرى فيها إبطالاً لما يراه جديداً من شبهات الكفار والمنافقين وسائر أهل الزيغ والضلال، ولما يراه فيها من كشفٍ لدوافعهم الخبيثة، وبيانٍ لطُرُقهم في نشر باطلهم، وتحذير للمؤمنين من التأثر بها؛ أريد لهذا القارئ الكريم أن ينظر في مثل هذه الآيات، ثم يتسلح بها في مواجهته لأولئك الضالين، مستعيناً بما كتبه عنها من سبقه من علماء الأمة الفضلاء، ثم يخوض معركته بالوسائل المهيأة له؛ فإن كان من أهل الكتابة كتب، وإن كان من أهل الحديث تحدث، وإن كان من أصحاب الحوار حاور، وإن أكرمه الله؛ فكان من أهل ذلك كله فليجعله كله طريقاً لإعلاء كلمة الله وقمعاً لمن يسعون لإطفاء نور الله، وليحرص ما أمكنه الحرص على أن ينتشر هذا الحق بكل الوسائل الحديثة المشروعة حتى يطَّلع عليه الناس؛ فإذا لم يطلع عليه اطلاعاً مباشراً من كان الكلام رداً عليه، فربما اطلع غيره فبلَّغه إليه.

وأريد ثانياً: أن أُذكِّر من لم يكن مؤهَّلاً لشيء من ذلك أنه ما زالت أمامه أبواب أخرى للجهاد بالقرآن الكريم؛ من ذلك أن بعض الجماعات والمؤسسات في البلاد الغربية قررت أن تقوم بحملات لتوزيع ترجمات القرآن الكريم، وهي تطلب المساعدة على ذلك؛ فإن استطاع أن يساعدها مساعدة مباشرة، فليفعل، وإلا فليحُثَّ على مساعدتها من يراه قادراً على ذلك.

وإذا كانت هذه الحملات قد حدثت في البلاد الغربية فربما كانت أمثالها حادثة في غيرها من البلاد؛ في الصين واليابان والهند وإفريقيا، وغيرها من أرض الله التي لا يستطيع أهلها الاطلاع المباشر على كتاب الله في لغته العربية التي أنزله الله -تعالى- بها.

هذا عمل جليل؛ لأن ما يسمى بالمعركة الثقافية؛ لكسب قلوب الناس ما تزال تزداد احتداماً في عصرنا؛ فالغرب يستعمل كل ما لديه من وسائل إعلامية؛ لنشر ثقافته وما يسميه بـ:قِيَمِه، والمسلمون يتأثرون بهذه الثقافات في معتقداتهم وأفكارهم وأزيائهم وسائر أنواع سلوكهم، لكن المسلمين أيضاً يؤثِّرون في الغرب وسائر البلاد غير الإسلامية تأثيراً عميقاً مرتكِزاً أساساً على دينهم، وآية ذلك أن الكثيرين منهم إذا عرفوا الحق لم يأبهوا لما يرونه من دعايات رسمية وغير رسمية ضد الإسلام، بل آمنوا به كله؛ فصاروا يُصلُّون ويصومون ويزكُّون ويحجون؛ فعلى المسلم أن يدخل هذه المعركة إن لم يكن قد دخلها من قَبْل، وعليه أن يزيد من جهده في شهر الصيام إن كان ممن شرَّفهم الله -تعالى- بدخولها.

إن المسلم الصادق العارف بما يدور في عالمه لا يمكنه أن يقف متفرجاً في هذه المعركة الثقافية التي تدور رحاها بين المسلمين وخصومهم وأعدائهم؛ لا يمكنه أن يظل متفرجاً وهو يرى أولئك الخصوم لا يكتفون بنشر أباطيلهم؛ بل يتعدون ذلك إلى تشويه الإسلام تشويهاً نرى آثاره على كثير من الناس في بلادنا وبلادهم.

خذ على سبيل المثال ما قاله صاحب كتاب نُشِر حديثاً بعنوان: (سوء الفهم القاتل) ألَّفَه عضو في الكونغرس الأمريكي وقدَّم له (بان كي مون) الأمين العام للأمم المتحدة، يقول مؤلف الكتاب: إنه دخل عالم واشنطن قبل خمسة وعشرين عاماً (الكتاب صدر في عام 2008م) باعتباره جمهورياً محافظاً ونصرانياً إنجيلياً، ويقول: "كنت في ذلك الوقت أعتقد أن الإسلام دين عنف، وأن القرآن يدعو إلى إبادة كل من ليس مسلماً، وأن القرآن والإسلام أمور شريرة، وأنها أمور إلحادية؛ مثلها في ذلك مثل الشيوعية التي كان العمل على هزيمتها هو هدف السياسة الخاريجية الأمريكية".

إن ما يطلبه الكفار الآن من المسلمين هو عكس ما يأمرهم به دينهم؛ إنهم يطلبون منهم أن لا يدافعوا عن أراضيهم حتى لو غُزوا في عِقر دارهم، وإلا كانوا إرهابيين مجرمين، بل صاروا يقرنون بين الجهاد والإرهاب؛ فيُسمُّون الكثيرين ممن يصفونهم بالإرهابيين جهاديين، وصاروا يطلبون من المسلمين أن لا يدافعوا عن دينهم أو يردوا على الكافرين به حتى بالكلمة، وإلا كانوا متطرفين مفرِّقين للناس غير راضين بالتعايش السلمي معهم، لكن ديننا يعلِّمنا أن هنالك فَرقاً بين أن تسالم أعداء دينك، وأن تعترف لهم بباطلهم؛ فالمطلوب من المسلمين أن يعيشوا في سلام مع من كل من يريد أن يعيش معهم في سلام، لكن المطلوب منهم في الوقت نفسه أن يقوموا بتبليغ رسالة نبيهم، وأن يبلِّغوها بالتي هي أحسن.

ولا تَضَاد بين هذا وذاك؛ إذ إن هنالك فَرقاً بين المسالمة والمداهنة.

ثم لنتذكر أن هذا الجهاد بالقرآن الكريم هو نفسه عبادة من أعظم العبادات، وأنه ربما كان أبلغ في شهر الصيام والقرآن؛ حين تصفو النفوس -بإذن الله- وتكون أكثر إخلاصاً، وأشدَّ حباً للحق، وأكثر كراهية للباطل، وأقدر على تدبُّر القرآن الكريم؛ إنه جهاد يبتغي به المؤمن المخلص إعلاء كلمة الله، ويعمله ابتغاء رضوانه -سبحانه-.

إن العمل الجهادي لا يذهب هباءً أبداً، بل إما أن يهتدي به بعض الضالين؛ فيكون قد زاد من الخير، ويكون ذلك خيراً له من حُمْر النَّعَم، وإما أن يكون فيه قمع لأهل الباطل وتقليل من شرهم، وإما أن يجتمع الأمران كلاهما؛ فيكون خيراً على خير.

والمؤمن وإن كان يعلم هذا، لا يُعلِّق عمله على رؤية هذه النتائج، بل يكِل أمرها إلى الله -تعالى- كما قال الله -سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:46].

 

الكاتب: أ.د. جعفر شيـخ إدريـس.