منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال على مسائل العقيدة

منذ 2018-09-04

المعيار لمن أراد صحة الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة، والسير على دربهم، والاقتداء بهديهم: أن يتبع منهجهم، سواء في أصول الاعتقاد، أو أصول الاستدلال، ولا يخرج عن نهجهم بأصول في الاعتقاد مبتدعة، أو أصول في الاستدلال منحرفة.

منهج أهل السنة والجماعة:

في الاستدلال على مسائل العقيدة [1]:

 

إنَّ الحمد لله نحمدُه، وستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.

 

إنَّ من نِعَمِ الله على هذه الأمة أنْ أكمل لها دينها، وأتمَّ عليها نعمته، ورضي لها الإسلام دينًا، وما قُبِضَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد تركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ، وما ترك خيرًا يقرِّبها إلى الجنة ويبعدها عن النار، إلا ودلَّها عليه، ولا شرًّا إلا وحذَّرها منه؛ ليهلك مَن هلك عن بيِّنة، ويحيى مَن حيَّ عن بينة.

 

فسار سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين، ومن سلك نهجهم، وخطا خطاهم، على نهج نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم- وقد أمرَنَا الله - عز وجل - أن نتَّبع سبيل المؤمنين، وحذَّر من اتِّباع السُّبُل التي تَفرَّق بأصحابها عن الصراط المستقيم؛ فقال:  هَذَ {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153]، ويقول - سبحانه -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: 115].

 

ولما أظلمتِ السُّبل، وكثرتِ الفتن، وظهرتِ الفِرَق، واتُّخذت الأدلة مركبًا للأهواء والبدع، كانت راية أهل السُّنة والجماعة خفاقةً، يتناولها قرن بعد قرن، ينفُون عنها تحريف الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين.

 

يتميزون عن غيرهم بمنهج في التلقِّي والاستدلال له قواعده المحكمة، فكانت كالسراج لمن جاء بعدهم، واهتدى بهديهم، وسلك سبيلهم، وقد ذكرها كثير من أهل العلم بين مُطيل ومختصر، ومجمِل ومفصِّل، وقد أردتُ جمعها بعبارة وجيزة توفي بالمقصود، من غير إخلال ولا إملال، في ثماني قواعد، لمن أراد التبيان، وهي:

 

• القاعدة الأولى:

اقتصارهم في مصدر التلقِّي على الوحي كتابًا وسنة:

 

فأهل السُّنة يؤمنون بجميع نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فالحُجَّة في كلام الله -تعالى- في إثبات ما أثبته الله، ونفي ما نفاه، وفيما صح من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهما يكفيان لجميع متطلبات الحياة في جميع شؤونها وجوانبها إلى قيام الساعة.

 

وقد تمثلت هذه القاعدة في عدة ركائز:

أ- أن هذا الدِّينَ كاملٌ، لا يحتاج معه إلى غيره من مناهج البشر؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].

 

يقول ابن تيمية: "ومِثلُ هذا في القرآن كثيرٌ، مما يبيِّن الله فيه أن كتابَه مبينٌ للدِّين كله، موضحٌ لسبيل الهدى، كافٍ لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتِّباعُه دون اتباع غيره من السُّبل"[2].

 

ب- الاعتقاد الجازم أنه لا يتحقَّق رضا الله، والفوزُ بجنته، والنجاةُ من عذابه، إلا بالإيمان بنصوص الكتاب والسنة، والعمل بما جاءا به، وما يترتَّب على هذا من وجوب أن يعيش المسلم حياته كلها - اعتقادًا، وعملاً، وسلوكًا - مستمسكًا ومعتصمًا بهما، لا يزيغ عنهما، ولا يتعدَّى حدودهما، ومن مستلزمات هذا أن يتحاكم إليهما عند التنازع والاختلاف، فنصوصُ الكتاب والسنة هي الأصل والميزان والحكم عند النزاع، وبها تُوزَن الأقوال والآراء؛ كما قال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59].

 

يقول ابن تيمية: "فدِينُ المسلمين مبنيٌّ على اتِّباع كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما اتَّفقتْ عليه الأمةُ، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة"[3].

 

ج- وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهُّم التعارض، وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يمكن أن يتعارض النقلُ الصحيح مع العقل الصريح.

 

يقول ابن تيمية: "إن الأدلة العقلية الصريحة تُوافِق ما جاءتْ به الرسلُ، وإن صريح المعقول لا يناقض صحيحَ المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه"[4].

 

د- الأدب مع نصوص الكتاب والسنة وذلك بأن تُراعى ألفاظها عند بيان العقيدة، وألاَّ تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية.

 

يقول ابن تيمية: "إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث، فيما يثبتونه وينفونه في الله وصفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدَثٍ مبتدَع في النفي والإثبات؛ بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول"[5].

 

ويقول - رحمه الله -: "ومما ينبغي أن يُعلَم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عُرِف تفسيرُها، وما أُريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتجْ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة، ولا غيرهم"[6].

 

• القاعدة الثانية:

عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة:

 

وقد تجلَّى هذا في منهج السلف من خلال عدة أمور:

أ- حرص السلف على العِلم النافع مع العمل الصالح؛ فالعلم علمان: علم نافع، يولِّد عملاً، وينفع صاحبَه في الدنيا والآخرة، وعلمٌ غير نافع، لا ينفع صاحبَه في الدنيا ولا في الآخرة.

 

قال معروف الكرخي: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًّا، أغلق عنه باب العمل، وفتح له باب الجدل"[7].

 

يقول ابن رجب: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبطُ نصوص الكتاب والسنة، وفهمُ معانيها، والتقيدُ في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقَل، وشغلٌ لمن بالعلم النافع عُني واشتغل"[8].

 

ب- نهي السلف عن سائر البدع، ومن ذلك الخوض في علم الكلام:

قال الشافعي: "لأنْ يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنبٍ ما خلا الشركَ، أحبُّ إليَّ من أن يلقاه بشيء من الأهواء"[9].

 

وقال - رحمه الله -: "حُكمي في أهل الكلام: أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبَلَ على الكلام"[10].

 

فإذا كان هذا حُكمَه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟!

 

وكذلك قال أبو يوسف القاضي: "من طلب الدِّينَ بالكلام تزندق"[11]،وقال أحمد بن حنبل: "ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح"، وقال: "علماء الكلام زنادقة"[12].

 

ج- الرد على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، فالسلف - رحمهم الله - لما حذروا من المنطق ومن علم الكلام، لم يكتفوا بهذا؛ بل ردُّوا على أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنيَّة على الكتاب والسنة، فالسلف لم ينهوا عن جنس النظر والاستدلال؛ ولكن معارضتهم لها تركزت على الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة.

 

• القاعدة الثالثة:

حجية السنة في العقيدة، ومن ذلك خبر الآحاد:

 

وهذه من القواعد الكبرى في منهج السلف - رحمهم الله - تميَّزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع.

يقول ابن تيمية: "أهل الحق والسنة لا يكون متبوعُهم إلا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي يجب تصديقُه في كل ما أخبر، وطاعتُه في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة"[13].

 

وقد كان اعتمادهم على السنة، وتعظيمهم لها، مبنيًّا على أمور، منها:

أ- أن من مقتضيات شهادة أن محمدًا رسول الله، التي لا يتم الإيمانُ إلا بها: وجوبَ تصديقِه فيما أخبر، سواء كان عن الله، أو صفاته، أو مخلوقاته، أو ما يستقبل من أمور الآخرة، وغيرها من الغيبيات.

 

ب- أن أعرف العباد بما يصلح لهم هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أرحم بهم من أنفسهم.

 

ج- أن الرسول بلَّغ جميعَ ما أُنزل إليه من ربه، لم يكتم شيئًا من ذلك، وأنه - عليه الصلاة والسلام - قد بلَّغ ذلك أتمَّ بلاغٍ وأبيَنَه، حتى ترك أمَّتَه على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فما من خير إلا ودلَّ أمتَه عليه، وما من شر إلا وحذَّرها منه.

 

وقد تمثَّلت هذه الأمورُ السابقة في موقف السلف من السنة، وتعظيمهم لها، وذلك بكونها وحيًا من الله -تعالى- وبكونه -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وبدا هذا واضحًا من خلال:

 

1- الخضوع لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا صحَّ، وتعظيمه، وعدم الاعتراض عليه بأي نوع من أنواع الاعتراض، فلا تحلُّ معارضتُه بذوقٍ، أو وجْدٍ، أو رأي، أو قياس، ونحوه.

 

يقول الشافعي - رحمه الله -: "لم أسمع أحدًا نسبه الناسُ - أو نسب نفسه - إلى علمٍ يخالف في أن فرض الله - عز وجل - اتِّباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتسليم لحكمه، بأن الله - عز وجل - لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال، إلا بكتاب الله، أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأن ما سواهما تبعٌ لهما، وأنَّ فرْضَ الله -تعالى- علينا، وعلى من بعدنا وقبلنا، في قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحد"[14].

 

2- اعتمادهم على الأحاديث الصحيحة، ونبذ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فأوجبوا التحقق من الأحاديث قبل الاحتجاج بها؛ حتى لا يُنسب إلى دين الله ما ليس منه.

 

3- حجية خبر الآحاد في العقيدة، إذا صحَّ وتلقتْه الأمة بالقبول[15]، وهذا من المعالم الرئيسة لمنهج السلف - رضوان الله عليهم - والقول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم، ومن ثَم فلا يُحتَجُّ بها في العقيدة، بدعةٌ أحدثتْها المعتزلةُ، وتلقَّفها بعض العلماء من المنتسبين إلى السنة - دون بحث أو تمحيص لمآلات هذه المقالة - وخاصة في كتبهم في أصول الفقه في مباحث أدلة الأحكام، بينما لو تتبعنا نصوص السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لوجدنا شبه إجماع منهم على عدم التفريق في أخبار الآحاد بين الأحكام والعقائد.

 

يقول ابن تيمية: "فالخبر الذي تلقَّاه الأئمةُ بالقبول، تصديقًا له، أو عملاً بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى المتواتر"[16].

 

يقول ابن أبي العز: "وخبر الواحد إذا تلقتْه الأمة بالقبول، عملاً به، وتصديقًا له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاعٌ"[17].

 

يقول صديق حسن خان: "والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظنَّ أو العلم تقيّد بما إذا لم يُضمَّ إليه ما يقويه، أما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا، أو مستفيضًا، فلا يجري فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماعُ على العمل بمقتضاه، فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيَّره من المعلوم صدقُه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، فكانوا بين عامل به، ومتأول له، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم"[18].

 

فلم يكن السلف الصالح يفرِّقون بين خبرٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآخرَ، بدعوى أنه آحاديّ، أو متكاثر الورود، تفريقًا يؤثِّر في العمل والعلم والاعتقاد، واستمرَّ هذا في أهل السنة والجماعة، أهل الحديث والأثر، إلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله، يدلُّ على هذا تخريج أئمة أهل السنة كمالك وأحمد، والبخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي، والنسائي والدارمي، وغيرهم، للأحاديث المثبِتة للعقائد في مدوناتهم، فمتى صح الحديث، وتُلُقِّي بالقبول، وجب العملُ والاعتقاد به ولزم.

 

• القاعدة الرابعة:

الاعتماد على فهم الصحابة والتابعين للعقيدة:

 

فالصحابة أعلم الناس بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعقيدة؛ لذلك فأقوالُهم وتفاسيرهم للنصوص حجةٌ؛ لأنهم قد اكتمل فيهم الفهمُ والمعرفة لأصول الدِّين التي دل عليها كتاب الله المنزل، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- المطهرة.

 

قال أحمد بن حنبل: "أصول السنة عندنا: التمسكُ بما عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-والاقتداءُ بهم، وتركُ البدع، وكل بدعة فهي ضلالة"[19].

 

قال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة، وقِفْ حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفُّوا عنه، واسلُكْ سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم"[20].

 

قال ابن رجب: "فمَن عرَف قدر السلف، عرف أن سكوتهم عمَّا سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرةِ الجدل والخصام، والزيادةِ في البيان على مقدار الحاجة، لم يكن عيًّا، ولا جهلاً، ولا قصورًا؛ وإنما كان ورعًا، وخشية لله، واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع"[21].

 

ولقد تميَّز الصحابة في العقيدة وفهمها بعدة مميزات، أهمها:

أ- أنهم شاهَدُوا التنزيل، وعاشوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتلقَّى هذا الوحي من ربِّه، الذي ينزل عليه مفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث.

 

ب- أنهم أكثرُ الناس فهمًا لرسالته -صلى الله عليه وسلم- وما يتعلَّق بها من أحكام، سواء في العقيدة أو الشريعة، فهم العارفون بدقائقها، المدركون لحقائقها، وهم أكمل الناس علمًا وعملاً.

 

ج- لم يكن بينهم خلاف في أصول الاعتقاد التي تلقَّوها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما الأمور اليسيرة التي اختلفوا فيها في هذا الباب، فهي من سنن الاعتقاد؛ كرؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربَّه ليلةَ الإسراء والمعراج، هل كانت بقلبه أو بعينه؟ وهي لا تؤثِّر في هذه القاعدة العامة؛ لأن الخلاف فيها لا يعود على أصلٍ بالإبطال، وكان لها أسباب، منها أن يكون لبعض الصحابة من العِلم ما ليس عند الآخر؛ لكنهم - رضي الله عنهم - إذا جاءهم الدليل، خضعوا له بلا تردُّدٍ.

 

د- كان الصحابة يَسألون عما يُشْكِل عليهم، وهذا مشهور عنهم - رضي الله عنهم - فأمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - روي عنها أنها "كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه، إلا راجعتْ فيه؛ حتى تعرفه"[22].

 

• القاعدة الخامسة:

التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي:

 

وذلك بعدم الخوض في الأمور الغيبيَّة التي لا مجال للعقل في معرفتها، فنحن لا ننكر دور العقل؛ فهو مناط التكليف، ولكن نضعه من المكانة حيث وضَعَه الشرعُ.

 

فهو - كما قال ابن تيمية عنه -: "شرطٌ في معرفة العلوم، وكمالِ وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلاًّ بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإنِ اتَّصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجِز وحده عن دركها، وإن عُزل بالكلية، كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق، كما قد يحصل للبهيمة، فالأحوالُ الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يَعجِز العقلُ عن دركه، لم تأتِ بما يُعلم بالعقل امتناعُه"[23].

 

• القاعدة السادسة:

عدم تقديم مقالات مبتدعة، ومقدمات عقلية، وجعلها حاكمة على النص:

 

لم يكن السلف يتلقَّون النصوص ومعهم مقدماتٌ عقلية يحاكمون النصوصَ إليها، كما فعلت المعتزلة وغيرهم، الذين وضعوا مقالاتٍ مبتدعةً، ووصفوها بأنها أصول عقلية، ثم جاؤوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، فما وجدوه مخالفًا لشيء من مقالاتهم، أوَّلوه أو أنكروا الاحتجاج به، وقدَّموا عليه مقالاتِهم وأقوالَ أئمتهم، وجعلوا كتابَ الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وراءهم ظِهْرِيًّا.

 

يقول ابن تيمية واصفًا أهلَ السنة والجماعة: "ولا ينصرون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل يجعلون ما بُعث به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والحكمة، هو الأصلَ الذي يعتقدونه ويعتمدونه"[24].

 

ويقول - رحمه الله -: "هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثِرون كلامَ الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدْيَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على هدي كلِّ أحدٍ، ويتَّبعون آثاره -صلى الله عليه وسلم- باطنًا وظاهرًا"[25].

 

• القاعدة السابعة:

الجمع بين أطراف الأدلة:

 

فلا بد من الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معيَّنة وجمعها، وعدم الاقتصار على بعضها، فجمعُ النصوص: يفصِّل المجمَلَ، ويبيِّن المبهَمَ، ويرفع التشابه، ويحكم النص، ويفسر النص على مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا على أهواء البشر وآرائهم.

 

قال أحمد بن حنبل: "الحديث إذا لم تجمع طرقه، لم تفهمه، والحديث يفسر بعضُه بعضًا"[26].

 

يقول الشاطبي: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضمِّ أطرافها بعضها لبعض؛ فإن مأخذَ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو أن تؤخذ الشريعةُ كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها"[27].

 

• القاعدة الثامنة:

ردُّ المتشابه للمحكَم وليس العكس كما هو عادة أهل البدع:

 

اتَّفق أهل السنة والجماعة على: "موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه؛ كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي ردُّ المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسِّر لهم المتشابهَ ويبيِّنُه لهم، فتتفق دلالتهم مع دلالة المحكم، وتوافق النصوصُ بعضُها بعضًا، ويصدِّق بعضُها بعضًا؛ فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله، فلا اختلاف فيه ولا تناقُض؛ وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره"[28].

 

فالمعيار لمن أراد صحة الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة، والسير على دربهم، والاقتداء بهديهم: أن يتبع منهجهم، سواء في أصول الاعتقاد، أو أصول الاستدلال، ولا يخرج عن نهجهم بأصول في الاعتقاد مبتدعة، أو أصول في الاستدلال منحرفة.

 

أسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا معهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الكاتب: أبو مريم محمد الجريتلي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/51 - 71)، و"المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية"، لإبراهيم البريكان (23 - 36)، و"العقيدة في الله"، لعمر سليمان الأشقر (57 - 75)، و"منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة"، أحمد الصويان، و"أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى"، لمحمد عبدالهادي المصري (75 - 79)، "طريق الهداية مبادئ ومقدمات علم التوحيد"، لمحمد يسري (278 - 313)، "الثوابت والمتغيرات"، لصلاح الصاوي (51 - 60)، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد"، لعثمان علي حسن (1/348).

[2] "درء تعارض العقل والنقل" (10/ 304).

[3] "مجموع الفتاوى" (20/164).

[4] "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 231 - 232).

[5] "مجموع الفتاوى"(5/432).

[6] "الإيمان"، لابن تيمية، (ص: 271، 272).

[7] رواه أبو نعيم الأصفهاني في "الحلية" (8/361).

[8] "فضل علم السلف على علم الخلف"، لابن رجب، (ص: 150).

[9] رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/452).

[10] "إحياء علوم الدين" (1/ 164)، و"درء تعارض العقل والنقل" (7/ 147).

[11] "الإحياء" (1/ 164)، و"درء التعارض" (7/ 158)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (145)، و"الحجة في بيان المحجة" (ص: 13).

[12] القولان في "الإحياء" (1/ 164)، وفي "درء التعارض" (7/ 147) القول الأول فقط.

[13] "مجموع الفتاوى" (3/ 346).

[14] "إيقاظ الهمم" (ص: 104) ["الأم" (7/273)].

[15] ولا نناقش دعوى حديث آحاد لم يحتفَّ بالقرائن في باب العقائد؛ لأنها دعوى متوهمة، ليس عليها مثال واحد في هذا الباب.

[16] "مجموع الفتاوى" (18/48).

[17] "شرح العقيدة الطحاوية" (ص: 339، 340).

[18] نقلاً عن "العقيدة في الله"، لعمر سليمان الأشقر (ص: 60).

[19] "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، للالكائي (1/156).

[20] "ذم الكلام"، للهروي، (ص: 315).

[21] "فضل علم السلف على علم الخلف"، لابن رجب، (ص: 58).

[22] رواه البخاري (103، كتاب العلم، باب: من سمع شيئًا فلم يفهمه، فراجع فيه حتى يعرفه).

[23] "مجموع الفتاوى" (3/338، 339).

[24] "مجموع الفتاوى" (3/347).

[25] "مجموع الفتاوى" (3/157).

[26] "الجامع لأخلاق الراوي"، للخطيب البغدادي (2/212).

[27] "الموافقات" (1/245، 246).

[28] "إعلام الموقعين" (2/2944).