مريم عليها السلام

منذ 2018-10-05

واتجهت إلى ربها تناجيه، وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان، فقالت: {رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}

سمى القرآن الكريم سورة برأسها باسم مريم عليها السلام، وضمَّنها حيزاً واسعاً من قصة حملها وولادتها لعيسى عليه السلام، كما جاء الحديث عن مريم عليها السلام في سور: آل عمران، والأنبياء، والتحريم.

 

وقد جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه)، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} } (آل عمران:36)، رواه مسلم.

 

يبدأ حديث القرآن الكريم عن مريم عليها السلام بالإخبار بأنها نأت بنفسها عن أهلها في مكان بعيد، وكأن الله أراد تهيئتها لأمر غير معتاد، { {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا} } (مريم:16)، ثم تمضي القصة لتخبرنا أنه سبحانه أرسل إليها جبريل عليه السلام متمثلاً بصورة رجل كامل الرجولة: { {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} } (مريم:17)، وكان رد فعل الفتاة العذراء على هذا الموقف المفاجئ، أن استعاذت بالله ممن فجأها على غير ميعاد، فخاطبته بقولها: { {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} } (مريم:18)، وكان جواب المَلك لها مطمئناً لقلبها، ومهدئاً من روعها: { {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} } (مريم:19)، فأجابته مريم عليها السلام جواباً فطرياً ناظراً إلى الأسباب، فقالت: { {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} } (مريم:20)، غير أن المَلك أخبرها بأن خالق الأسباب والمسببات لا يعجزه شيء، وأن الأمر بيده قد يُجري الأمر من غير سبب، وأن الغرض من خرق الأسباب أن يبين للناس قدرته سبحانه على كل شيء، وأن يجعل للناس آية يعتبرون بها؛ ليعظموا هذا الخالق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وليقدروه حق قدره، فقال مخاطباً إياها: { {كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} } (مريم:21).

ثم إن المشهد القرآني -وبعيداً عن الدخول في التفاصيل- يخبرنا أن إرادة الله سبحانه وقعت على مريم، وحملت في بطنها جنيناً سيرى النور عما قريب: { {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا} } (مريم:22). وقد ذكر ابن كثير أن غير واحد من علماء السلف ذكروا أن المَلَك -وهو جبريل عليه السلام- نفخ في جيب درعها، فنـزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت ضاقت ذرعاً به، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها، وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم، فقامت إليها فاعتنقتها.

ويمضي المشهد القرآني ليضعنا أمام مشهد مخاض الولادة الذي فاجأ مريم عليها السلام وهي وحيدة فريدة بعيدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء، فهي تتمنى لو أنها كانت قد ماتت قبل أن يحصل لها الذي حصل، وتكون نسياً منسياً! { {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} } (مريم:23). وفي حدِّة الألم، وصعوبة الموقف تقع المفاجأة الكبرى، {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} (مريم:24)، يا لقدرة الله! طفل وُلِدَ اللحظة يناديها من تحتها، يطمئن قلبها، ويصلها بربها. ثم ها هو ذا يرشدها إلى طعامها وشرابها! فيقول لها: { {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} } (مريم:25)، فالله سبحانه لم ينسها، ولم يتركها، بل أجرى لها تحت قدميها جدول ماء عذب، ونخلة تستند إليها، وتأكل منها تمراً شهيًّا، فهذا طعام وذاك شراب. ليس هذا فحسب، بل ويدلها على حجتها وبرهانها! فيقول لها: { {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} } (مريم:25).

وفي مشهد آخر يخبرنا القرآن الكريم أن مريم الفتاة الطاهرة العفيفة المقيدة بمألوف البشر في الحياة، قد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة، واتجهت إلى ربها تناجيه، وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان، فقالت: { {رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} } (آل عمران:47)، وجاءها الجواب يردها إلى الحقيقة البسيطة، التي يغفل عنها البشر؛ لطول إلفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة، ولعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود: { {قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} } (آل عمران:47)، وحين يُرَدُّ الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب، وتهدأ النفس؛ وتعود مريم إلى نفسها تسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب!!

وقد ذكر ابن كثير أنه لما ظهرت مخايل الحمل على مريم عليها السلام، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها، يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم! إني سائلك عن أمر، فلا تعجلي علي، قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حَبٍّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم -فهمت ما أشار إليه- أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر. وأما قولك: وهل خَلْقٌ يكون من غير أب؟ فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلم لها حالها.

ثم ينتقل حديث القرآن عن مريم عليها السلام إلى مشهد جديد، بعد أن وضعت حملها، وهدأت نفسها، إنه مشهد القوم الذين تنتسب إليهم، وهي الآن بينهم، تحمل طفلها، الذي هو فلذة كبدها. لكن ماذا سيقولون لها، وعهدهم بها أنها لم تعرف زوجاً فيما مضى، وأنها حسنة السمعة بينهم، شريفة النسب، { {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} } (مريم:27-28)، بيد أن مريم لم تنبس ببنت شفة، بل أشارت إلى وليدها، وكأن الله ألهمها أن هذا الوليد سوف ينطق بالحقيقة التي تُخرس الألسنة، وتلجمها عن الحديث فيما هو غير مألوف من حياتها، { {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} } (مريم:29)، ثم يصور لنا المشهد القرآني الطفل وهو ينطق بحقيقة ما حدث، وواقع أمره وما جاء به: { {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} } (مريم:30-33)، فهو أولاً وقبل كل شيء عبد لله، ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله، بل قال: { {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} }، إلى أن قال: { {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} } (مريم:36)، فقد أنطق الله الطفل؛ ليبين حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، والغاية من هذا الخلق الإنساني العجيب.

إسلام ويب