مداخلة مع الدكتور عبد الوهاب المسيري ورفاقه
وثار سؤال: لمَ لمْ تستفد الصحوة الإسلامية من الدكتور المسيري بشخصه أو من التيار الفكري الذي يمثله (التيار الناقد للغرب)؟
{بسم الله الرحمن الرحيم }
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
إلى وقتٍ قريب كانت الصورة الذهنية عندي للدكتور عبد الوهاب المسيري سلبية، رغم ما اشتهر به من رفض الظلم والاستبداد والمشاركة في الحركات الثورية في عهد مبارك (كفاية وأخواتها) والانتماء للحالة الإسلامية من حيث العموم؛ والسبب أن أول معرفةٍ لي بالدكتور المسيري كانت في مناظرة له مع سيد القمني، كنت أتتبع سيد القمني فوجدته يناظر الدكتور المسيري في مفهوم العلمانية في برنامج (الاتجاه المعاكس) وانتهت المناظرة بتوافق بين الدكتور المسيري والقمني!!، المسيري يطالب بعلمانية جزئية والقمني يطالب بعلمانية شاملة، فقلت في نفسي: يصطف مع العلمانيين وإن كان أقرب قليلًا وانصرفت.
وانضاف إلى ذلك سبب آخر هو أني أنصت طويلًا للدكتور قدري حفني في مدرجات الدراسة (علم نفس سياسي) وكان يخالف الدكتور المسيري في بعض آرائه عن الصهيونية ويذكر ذلك في المحاضرات.
بقي الدكتور المسيرى في هامش الذاكرة إلى أن احتجت لصوتٍ يقرأ مقالاتي ورحت أستمع لبعض الأصوات لأتعاون معها في قراءة المقالات، وكان أن اخترت مادة صوتية من أطروحات الدكتور المسيري (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر)، وما كدت أبدأ حتى جلست ولم أرحل، أكملت الكتاب وتحركت في جوانبها بحثًا عن ما يخص الدكتور المسيري، فرحًا مسرورًا كأني وقعت على كنز، أجاب على أسئلة كثيرة تتعلق بالمنهجية العلمية ونقد المادية الملحدة وفتح الله به أفاقًا جديدة، وتعمقت أفكار تتكون بداخلي، وثار سؤال: لمَ لمْ تستفد الصحوة الإسلامية من الدكتور المسيري بشخصه أو من التيار الفكري الذي يمثله (التيار الناقد للغرب)؟
والتقيت الدكتورة نادية مصطفى متعلمًا منها في تمهيدي الدكتوراة، وكانت فرصة للاقتراب من مدرسة الإسلام الحضاري وهي من ذات التيار الذي يقف في وسطه عاليًا الدكتور عبد الوهاب المسيري، وأكثر ما لفت نظري في الدكتورة نادية مصطفى وباقي المنتسبين للمدرسة من الأساتذة والزملاء أنهم أتقياء برره وجادون ومحبون لله ورسوله، والله حسيبهم ولا أزكي على الله أحدًا، وعاد السؤال يلح من جديد: لمَ لمْ يستفد الصحويون (إخوان وسلفيون) من تيار الإسلام الحضاري؟!، لم لا يتم تجسير الفجورة بينهما؟!!
أحاول تقديم إجابة من ثلاثة زوايا: مرة بالنظر من ناحية الصحويين، ومرة بالنظر من ناحية الدكتور المسيري والإسلام الحضاري، ومرة من أعلى.. بالنظر إلى المشهد ككل، والله أسأل رشدًا وعزيمة على الرشد.
من ناحية الصحوة:
لم تُعنَ الصحوة الإسلامية بدراسة المخالفين لها والرد عليهم، ويكاد يكون إهمال المخالف وإهمال التحديات الخارجية مضطردًا عند الصحوة الإسلامية، وهذه بعض المشاهد كشواهد:
في مطلع هذا القرن والحالة الصحوية في أزهى حالاتها: مساجد في كل مكان، وفضائيات، ومواقع انترنت، وجماهير تسمع وتردد، وأحداث تقدمها للناس، والحال هكذا تجمَّع النصارى وجاءوا ينشرون الشبهات حول الدين ومقام سيد المرسلين-صلى الله عليه وسلم- بكل الوسائل المتاحة وبأحط وأقذر الألفاظ؛ كانت أطروحاتهم في غاية الاستفزاز؛ وشكَّلوا تحديًا حقيقيًا للحالة الإسلامية في العالم الإسلامي وخاصة مصر والدول العربية الكبرى، بل وأحدثوا نكايةً في المسلمين بتنصير عددٍ منهم وتغيير القوانين المتعلقة بذلك في بعض بلاد المسلمين، ومع ذلك لم تهتم بهم الصحوة. وكان عامة من تصدى لهم من الشباب ممن لا يعرفون بالانتساب للصحوة باستثناء قلة قليلة (أفراد) وجاءوا متأخرين.
وظهر وقتها مفاجئةً أخرى أشد، وهي أن الصحوة الإسلامية رغم أنها اصطدمت بالتنصير عدة مرات: في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وبعد انقضاء ثلث القرن العشرين ثم بعد انقضاء ثلثيه، إلا أنها لم تعن بإنتاج مادة علمية للرد على شبهات النصارى من المستشرقين والمنصرين، واقتصر الأمر على مراسات ومقالات من حالات فردية، اضطر إليها من كتبها كمحمد عبده ورشيد رضا، وتعليق من الشيخ محمد الغزالي على محاضرة مسربة لشنودة الثالث (نشر التعليق في كتابٍ بعنوان الوعد الحق).
وكذلك مع الفكر القادم من الشرق (الشيوعية) والفكر القادم من الغرب (الإمبريالية الرأسمالية الليبرالية)، لم يعنوا بها رغم قوتها ورغم أنها عركتهم في جميع المجالات؛ فلم ينتج الصحويون في هذا المجال إلا جهد قليل من أفراد، مثل: كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي والليبرالية للشيخ عبد الرحيم السلمي، ولم تنجح هذه الجهود في أكثر من صياغة جمل كلية تفيد الرفض المجمل للمخالف، ثم اندثرت ولم تتطور كتيار فكري.
والسبب –كما يبدو لي- أن الصحوة عنيت بترسيخ قيم الوحي ولم تعن بالمخالف، تتكئ على فكرة كلية مفادها أن تحقيق الإيمان في النفوس نظريًا يكفي لتحويل القيم واقعًا عمليًا؛ وهو ملخص ما دندن حوله الأستاذ السيد قطب –رحمه الله- في الظلال والمعالم، وهي قراءة للنموذج الإسلامي الأول، فالدعوة الإسلامية أجابت إجابة خاصة جدًا على أسئلة الفلسفة الكبرى دون أن تعنى بمناقشة تفاصيل المخالف، فعرَّفت الناس: من أين جاءوا (من خالقهم)؟، ولماذا جاءوا لهذه الحياة؟، وماذا ينتظرهم بعد الموت؟بإجابات مصدرها الوحي ومناقشة عامة للمخالفين في سياق بيان الحق، وحين تعرضت لتاريخ البشرية سردته في قالب صراع بين الإيمان والكفر، بين أتباع الأنبياء وأتباع الشيطان، بين من آمنوا ومن كفروا. ولم يهتم النص الشرعي بالسرد التاريخي وإنما راح يكرر القصص وبذات الألفاظ والجمل أحيانًا لترسيخ أنماط محددة من القيم والمفاهيم يشكل بها السلوك. وشخص النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعن بالمخالفين أيضًا إلا بشكلٍ مجمل. لذا أعرضت الصحوة الإسلامية عن المنتوج الفكري لكل من يتحدث عن الخارج بالتفصيل وإن نقدًا كالدكتور المسيري والإسلام الحضاري، وحافظت عل احترام الأشخاص لمواقفهم لا لأطروحاتهم.
وفي التفاصيل أسباب أخرى فرعية تفرعت عن هذا السبب الرئيسي وغيره، مثل: بعد الصحوة عن العلوم الاجتماعية، وغلبة الطابع الذكوري عليها بخلاف مدرسة الإسلام الحضاري، واستخفافها بالشهادات الأكاديمية، ومحاولة إحياء دور التعليم من خلال المسجد على نمط عصور التمكين. وأنها ركزت عل إحياء كتب السلف وإعادة نشرها، ومن كَتَبَ منهم فتجميع وإعادة نشر لمفاهيم منثورة في كتب السلف.
من ناحية الدكتور المسيري:
الدكتور عبد الوهاب المسيري يمثل نموذجًا لتيار الإسلام الحضاري، أو إسلامية المعرفة، وهو تيار مستقل عمليًا، ويقدم نفسه كممثل وحيد لمسيرة التجديد في الأمة الإسلامية. نعم يتعمد هؤلاء الكرام الأفاضل تجاهل هذه الأمواج الهادرة من البشر (رموزًا وأفرادًا) وهذا الحشد الهائل من الأحداث التي صنعهتها الصحوة، ومن بعض الشواهد على ذلك:
- أنتج أحد المراكز البحثية الرئيسية لهؤلاء فيلمًا وثائقيًا عن مسيرة التجديد في العصر الحديث ولم يذكر فيه إلا المنتمين لهذا التيار (إسلامية المعرفة/ الإسلام الحضاري)، ولأنهم أكاديميون، بمعنى أنهم بلا مواقف، قدموا أشخاصًا ومؤهلاتهم فقط، وأهملوا أيام الإسلام في العصر الحديث والتي كلها لأبناء الصحوة الإسلامية. فالواقع أن لـ (إسلامية المعرفة) و (الإسلام الحضاري) ذاكرة تاريخية خاصة، أو يحاولون تكريس هوية خاصة بهم، ويتوغلون في المجالات باستقلالية لا يفهم منها سوى أنهم لا يرون غيرهم أو يتعمدون تجاهل غيرهم وأن التعددية التي يتحدثون عنها تفعل في إطار مع غير المسلمين في إطار إنساني؛ وإن تحدثوا مع الصحويين فمن باب بيان خطأ الصحوة ورموزها ودعوة الصحوة أن تقرأ وتفهم وتتعلم علمهم. فكما قال أحدهم مرةً: أن الصحوة لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم!!
- ومن الشواهد مهاجمتهم لرموز الصحوة كسيد قطب ومحمد محمد حسين، فشخص مثل الدكتور محمد عمارة مع أنه مكثر في التصنيف ويكتب في مجالات عدة ويعلق على الأحداث، ومع أنه يكتب في ذات المجالات التي تعنى بها الصحوة إلا أنه يتعمد إهمال ذكر الصحوة بشكل تام، وحين يذكر أمامه فضيلة الدكتور محمد محمد حسين صاحب كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث) يخرج عن وقاره ويهجم عليه بعنف شديد، فقط لأنه انتقد محمد عبده في صفحتين أو ثلاث وفي سفر يربوا على الألف صفحة كلها انتصارًا للدين ضد العلمانية التي يدعي عمارة أنه يقاتلها بقلمه!!
وحين تمايزت الصفوف في انتخابات 2012 انضم هؤلاء للتيار العلماني ذي النكهة الإسلامية (حزب أبو الفتوح) رفقة حزب النور!!
والسؤال الأهم الذي يبين أن هؤلاء الكرام الأفاضل في وادٍ آخر منعزلين عن التجديد والتغير في الأمة وأنهم يناطحون أو يستعدون لمناطحة الصحوة هو سؤال: من المستفيد من منتوجاتهم الفكرية؟، إلى من يتجه الدكتور عبد الوهاب ورفاقه بخطابهم؟؟
اختصر الإجابة د. علي جمعة في تعليق له على ورقة بحثية تمثل صلب ما قدمه الدكتور عبد الوهاب (كانت عن النماذج كأداة تحليلية)، قال: (ما يقدمه المسيري نقد للمنظومة الغربية من داخل المنظومة الغربية ولصالح المنظومة الغربية).
وما قاله علي جمعة صواب ولكن حين ندقق النظر في السياق والمآلات التي خرج فيها عبد الوهاب والمسيري ورفاقه نجد أمورًا أخرى أكثر أهمية، وأوضح ما عندي في نقاط على النحو التالي:
أولًا: المنظومة الغربية تطور نفسها من خلال النقد، وما قدَّمه دكتور عبد الوهاب هو تيار داخل المنظومة الغربية؛ والسياق العام للنقد عندهم-والذي تشكل فيه وعي المسيري بالمنظومة الغربية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات- هو تفكيك الإلحاد الذي لا يؤمن بالله (الإلحاد الأسود/ المادية الصلبة/ الحداثة/ الوضعية Positivism) لصالح الإلحاد النسبي (الإيمان النسبي/ إدخال القيم كبعد فلسفي في فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية/ ما بعد الحداثة/ النسبية). ويمكن مراقبة هذا التحول من خلال الجدال بين المنظورات الكبرى والذي انتهى إلى النسبية أو استقرار المنظورات ذات الأبعاد القيمية بجوار المنظورات الوضعية. فالدكتور عبد الوهاب واكب فترة انحسار السلوكية (التحليل الإمبريقي) وظهور المنظورات ذات الأبعاد القيمية داخل الغرب (المدرسة الإنجليزية والبنائية وتمدد المدرسة النقدية-الفرانكفونية الألمانية-)، وعامة أفكار المسيري تطوير-أو إعادة تصنيع- لأفكار النقديين من الغربيين كما يذكر هو، ولا أقول بأنه ينقل عنهم كما يدعي بعض من لا يتدبرون بل يطور في أفكارهم ويضع المعلومات في أطر نظرية خاصة به.
المقصود أن نقد المنظومة الغربية شيء طبعي عندهم. بل مفيد لهم، ونقل عنهم، فالنقد عندهم أداة لتطوير الواقع والإفادة منه وليس هدمًا كما نفسره نحن، وما بعد الحداثة (النسبية) ترحب بكل من ينتقد وتفسح له مجالًا حتى ولو كان يتحدث من (منظور حضاري إسلامي) فهي تستوعبه، بل وترحب به وتضعه-مع غيره- في حليها الذي تتزين به لترسم مشهدًا فوضويًا يشارك فيه الجميع ويتحرك لأهداف الماديين!!
وأيضًا ثمة ملاحظة أخرى شديدة الأهمية، خلاصتها أن للنقد عندهم فائدة كبرى تتمثل في الاستجابة لتطور الواقع، بمعنى أن أغلب النقد تفاعل مع الواقع ومحاولة للإفادة من التطورات التي حدثت بالفعل. فحين يتغير الواقع يتجهون لنقد المنظورات القديمة وما انبثق عنها من نظريات تفسيرية وتطبيقات عملية ويستحدثون غيرها مواكبةً للواقع الجديد. فهم ينقدون أنفسهم للتصحيح، أو الهدم وإعادة البناء، ولذا ينخدع كثير من الإسلاميين بما يصدر من بعض المفكرين الغربيين عن خلل في دولةٍ ما أو عن قرب أُفول الحضارة الغربية، فهذه كلها أقوال نقدية تستهدف دلالة السياسيين والتنفيذيين على مواطن الخلل من أجل التصحيح، ولا أريد الاسترسال لأن المقام مقال، فقط أريد الإشارة إلى سذاجة من يستحضر أقول مفكرين الغرب عن أفول الحضارة الغربية ثم يوهم نفسه بأنهم لملموا أغراضهم واستعدوا للرحيل مع أنهم عمليًا يجتاحون العالم وهضموا أمما بأكلمها ومع أن مجتمعاتنا الإسلامية تتطور في اتجاه الانحلال الخلقي والديني كما هو حالهم.
هذا هو سياق المنظومة الغربية كما يبدو لي، وتتحرك بعنف في اتجاه معاكس للإيمان وتدفع الذين بداخلها دفعًا إلى حيث لا يعلمون، ولا يوجد عوائق لهذا التطور المستمر؛ و ذلك أن كليات الغرب (القيم الفلسفية) مرنة وتتطور هي أيضًا؛ ولا يوجد ثابت عندهم غير الكفر بالله وما أنزل على رسله. ولن يتوقف هذا التطور المنفلت إلا بالمؤمنين بالله وما أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ثانيًا: استخدمت بعض المنتوجات الفكرية للدكتور عبد الوهاب ورفاقه في مد الجسور بين العلمانية والصحوة الإسلامية، تحديدًا أطروحة (العلمانية الجزئية). وهذا توضيح بما يناسب مقال:
يستهدف الخطاب العلماني دفع الحالة الصحوية في اتجاه قبول العلمانية، ويسمون هذا النوع من الخطاب بالخطاب الإصلاحي؛ والعقبة الأكبر التي تواجههم هي عدم التفات الصحويين لهذا الخطاب لا بالاطلاع ولا بالنقد والتحليل فضلًا عن القبول، فالحالة الصحوية مغلقة تتمدد فكريًا وعدديًا من الداخل للخارج؛ وحالات التغيير في أطر وتوجهات الصحوة داخلية.. ينصتون لأبنائهم ولمن تخلى عن العلمانية والتزم درب الصحوة كسيد قطب، وأما الذين بالخارج فيرتابون منهم ويهاجمونهم كأشخاص ويعرضون عن بضاعتهم ويتهمون من ينصت إليهم بالابتداع.
وتتعامل الصحوة مع أسئلة العلمانية برجماتيًا، فهي تحاول استخدام أدوات العلمانية من أجل تحقيق أهدافها هي والتي تتمحور حول استئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولا تدخل الإيجابات على أسئلة العلمانية في دائرة الفلسفات، ولذا يظهر ازدواجية في الخطاب فتتحدث عن الديمقراطية بخير في المحافل العامة وتلعنها في بيتها حال حديثها مع أبنائها، وتتحدث عن الوطن والوطنية بخير في المجال العام وبين أبنائها تقول بقول ربها: (أمتكم أمة واحدة) أو تبتدع دليلًا من التاريخ بالقول أن الإسلام عرف الدول ضمن إطار الأمة، ومن يقول بهذا يعلم قبل غيره أن الدولة القومية لا هي من الدين ولا من التاريخ وإنما أداة علمانية نشأت حديثًا. وفي الفجوة بين الصحوة والعلمانية تقف العلمانية الجزئية التي تحدث عنها الدكتور عبد الوهاب، وهي –بشكل ما- توافق أطروحات الإصلاحيين في الأزهر الشريف (تجمعت أفكارهم في كتاب الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت). ومؤخرًا ظهرت أوراق بحثية تدعو إلى تفعيل أطروحة العلمانية الجزئية من أجل تطوير الخطاب الصحوي، بمعنى جذب الحالة الصحوية للعلمانية عن طريق قنطرة (العلمانية الجزئية)، أو للمنطقة الوسط التي يقف فيها إصلاحيو الأزهر والإسلام الحضاري وإسلامية المعرفة وما اتصل بهما، وخاصة بعد تبني فكرة الجابري القادمة من الغرب بإعادة قراءة التراث من جديد.
ثالثًا: عدم وجود مساحة مشتركة حقيقية بين (إسلامية المعرفة/ الإسلام الحضاري) وباقي الصحوة الإسلامية مع حاجة كل منهما للآخر. ويظهر ذلك بالنظر في مستوى الخطاب(المستوى النظري) وبالنظر في المستوى العملي التطبيقي؛ في مستوى الخطاب كلاهما لا يتحدث للآخر إلا مجاملةً أو يحاول أن يسحبه لمنطقته.. كلاهما ينادي على صاحبه (اركب معنا)؛ وفي المستوى التطبيقي ثمة حالة تجاهل واستعلاء متبادل، وتباين في المواقف العملية، ولعل آخرها انتخابات 2012 حيث انضم الاسلام الحضاري للتيار العلماني ذي النكهة الإسلامية (حزب أبو الفتوح) رفقة حزب النور!!، وحين جاء الدكتور مرسي للحكم دعموه قليلًا ثم انسحبوا سريعًا، والحديث عن التيار ككل لا عن أفراد. ولا أخطئهم جملةً.. فعلى المستوى الشخصي أقف بين سيد قطب وعبد الوهاب المسيري، خرجت من بين هؤلاء ولم أدخل على هؤلاء. والله أسأل رشدًا وعزيمة على الرشد.
نظرة عامة:
ألخص أهم ما يمكن رصده من خلال النظرة العلوية للمشهد في نقاط على النحو التالي:
أولًا: البحث عن من أصاب ومن أخطأ في حد ذاته خطيئة. فالحقيقة موزعة، والأشخاص لهم وعليهم، والسياقات لها نصيب كبير في تشكيل الأفكار والمواقف، والخلاف أقرب لتنوع في التخصص منه للتضاد؛ فنحن أمام فريقين يحتاج كل منهما الآخر.
ثانيًا: غير صحيح أن النبي-صلى الله عليه وسلم- أهمل التحديات الخارجية، فالنظرية التي صاغها الاستاذ سيد قطب واجتهد في الحفر حولها وتجليتها من بعده الشيخ عبد المجيد الشاذل، أخذت فكرة النمو العضوي مشوهةً. والواقع أن النموذج الأول للدعوة لم يغفل التحديات الخارجية حال نموه، والجميع يعرف أن الخطاب الدعوي في مكة غير الخطاب في المدينة، والخطاب في المدينة تدرج ولم يكن كله سواء، وقد نقل الأستاذ سيد قطب عن ابن القيم ذلك في مقدمة فصل الجهاد في المعالم. كما أن أمر الهجرة ارتبط بزوال اللبث عند عامة الناس، فقد كانت الهجرة مفارقة ليعلم الناس أنها ليست خلافًا داخليًا في قريش. ولو أن التحديات الخارجية لا قيمة لها. ولو أنه يكفي فقط وجود اثنا عشر الف مسلم كما ذكر الأستاذ سيد قطب في المعالم وهو يتحدث عن المجتمع المسلم أو اثنى عشر رجلًا كنوحٍ –عليه السلام- وأصحابه –كما ذكر أبو مصعب السوري في شرائط (الجهاد هو الحل) لواجه النبي الجميع وهو في مكة أو بعد الهجرة. بل كان الوعي بالتحديات الخارجية شديدًا.
ومن منظور فقهي بحت نجد أن جل الأشياء تعتريها أحكام التكليف الخمسة، فلا شيء يتمحض وجوبًا أو تحريمًا، حتى النطق بكلمة الكفر يباح أحيانًا، ما يعني مراعاة التحديات الخارجية في سياق بنائي تقدمي لا في سياق تراجعي انهزامي؛ وإهمال التحدي الخارجي أدى إلى وقوع الصحوة الإسلامية في إطار التوظيف من قبل خصومها في الداخل والخارج، ابتداءً من دفع المجددين إلى تبني صيغة الجماعة (الأنساق المغلقة) والتي أدت إلى تشرذم الحركة الإسلامية وضياع جل جهدها في صراعات داخلية، ومرورًا بالصدام المجتمعي والسلطوي غير المدروس، وانتهاءً بانحراف الأهداف الكلية في اتجاه شرعنة الدولة القومية والدخول في أطرها ومن ثم الدخول في الدين الجديد للمسيطرين على النظام الدولي (الإنسانية)، حتى استقر المشهد- كما أراه- على أن الحركات الإسلامية بجميع طوائفها أدوات لتنفيذ مخططات خصومها، وقد أتيت هذا المعنى مفصلًا أكثر من مرة.
ثالثًا: تستخدم إسلامية المعرفة وروافدها في تمرير الخطاب العلماني (الإصلاحي)؛ وهذه بعض الشواهد بما يناسب مقال:
1- تبني إسلامية المعرفة / الإسلام الحضاري القول بأن القيمة العليا في الإسلام هي تحقيق العدل الإنساني في الأرض!
والعدل مفهوم نسبي، فكل يرى نفسه عادلًا، حتى جبابرة اليوم الذي ينشرون الشر والخراب بأسلحتهم المدمرة والحارقة والخانقة والممرضة...، وبضائعهم، وثقافتهم هؤلاء يرون أنفسهم أهلَ عدلٍ ودعاة محبة وسلام. فعن أي عدلٍ يتحدثون؟!. إن العدل ترجمة لمنظومة قيم تعمل مجتمعة. وكل عدلٍ عند قومٍ يراه آخرون ظلمًا وزورًا.
وحين تدور حول ما يقولون وتفتش فيه تجد أن الدكتور عبد الوهاب ورفاقه يتحدثون عن (الحريات) بالمفهوم الغربي.. عن تلك الحالة التي يتحرك فيها كل واحدٍ حيث يريد منضبطًا بوازع أخلاقي يستمد قيمه من حيث يرتضي، ولذا يتحدثون دائمًا عن (الإيمان بالتعددية واحترامها)!!
والله ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( (الذاريات:56) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:25)، والعدل ثمرة لتحقيق التوحيد، وقد ناقشت هذا المفهوم في مقال مستقل بعنوان (القيمة العليا في الإسلام).
2-القول بأهمية العمران، وهذه من الكبائر الفكرية التي جلبها لساحتنا جمال الدين الإيراني-كما يروي ألبرت حوراني في كتابه تاريخ الفكر العربي- ؛ فلم تكن البشرية تهتم بالعمران كقيمة في حد ذاته إلا بعد ظهور العلمانية الرأسمالية. وتحوَّلَ العمران لأحد أدوات الهيمنة والسيطرة والتوجيه للإنسان، وأصبحت الحرب من مفردات الحياة اليومية بعد أن كانت على الجبهات بفعل العمران وغيره؛ ويظهر هذا الاهتمام بالعمران في جعلهم الاستخلاف من أجل التعمير هو الهدف من خلق الإنسان، ويستحضرون قول الله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفه)، ثم يفسرون الخلافة بمعنى التعمير بالبنيان ونحوه؛ مع أن ذات الآية تبين أن الخلافة لا تعني التعمير فقط بل الفساد وسفك الدماء (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)؛ وبعضهم يدرك بوضوح أن المدنية أصبحت أداة من أدوات الرأسمالية الاستهلاكية وأصبحت من أدوات الحرب. ويغضون الطرف عن أن العمران ترجمة للقيم، فطريقة البناء تخضع للمفاهيم والتصورات وتدعمها. وتصدير الاستخلاف كمفهوم محوري في جوهرة التقاء مع السائد القوي في منطقة مشتركة وهروب من حالة المواجهة الفكرية الحقيقية التي تعلن توحيد الله والكفر بما سواه.
3- القول بتقديم المقاصد على الأحكام. وهي من المحدثات في الدين، وكل محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة. بدأت هذه البدعة مع محمد عبده حين استخرج كتابات الإمام الشاطبي (الموافقات) ليقول بالمقاصد ويكسر الجمود السائد في الحالة الدينية الرسمية يومها؛ ثم تطورت الفكرة من بعده في اتجاه سلبي؛: ثبَّتوا مقاصدَ فضفاضة شديدةَ المرونة ومجملة لا تفصيل فيها ثم فسروها بمرونة أخرى؛ ثم راحوا يتحدثون بأن هذه المقاصد تضبط الأحكام (كأنها قواعد فقهية كلية) ومن ثم السلوك للجماعات والأفراد. وظهر أثر ذلك في كتابات الشيخ شلتوت والناقلين عن المستشرقين من فقهاء المغرب الإسلامي كالدكتور أحمد الريسوني والمهتمين بالحالة الإسلامية ويعربون أفكار المستشرقين مثل عابد الجابري. وفي هذا السياق-أيضًا- بدأ الحديث عن تطوير أصول الفقه في اتجاه مقاصدي، يقولون: تمذهب أصول الفقه ولابد من القفز إلى المقاصد للقضاء على المذهبية في الأصول!!
هذا قولهم، ومن يفكر قليلًا يعلم أن المقاصد تُؤخذ من الأحكام وليس العكس كما يفعل هؤلاء الأفاضل، فنقرأ أحكام الزنا (القذف، واللعان، والرجم) ثم نقول: مقصد الشارع في حد الزنا هو الستر لا فضح الناس وهتك أسرارهم. ونقرأ الحدود ثم نقول: مقصد الشرع من الحدود هو زجر الناس وصرفهم عن الشر ودفعهم إلى السعي فيما ينفعهم ولا يضر غيرهم. أما ما يفعله المقاصديون الآن في حقيقته عبارة عن محاولة لجرجرة الشريعة في وادي العلمانية.. إلى ساحة الدين الجديد (دين الإنسانية) الذي يتكون من أخلاطٍ شتى بعضها إسلامي!!؛ فهم يقولون: المقاصد، ثم يتحدثون عن كليات عقلية مطاطة تلتقي مع كليات العلمانية الغربية إلا قليلًا، ثم ينقلبون إلى الأحكام ويحاولون تعديلها في ضوء هذه المقاصد الفضفاضة!!
رابعًا: ومن أهم ما يمكن رصده في النظرة العلوية للمشهد هو حالة من التنازع المعرفي، أو السير في اتجاهين متعارضين. الدكتور عبد الوهاب ورفاقه تأسسوا على العلوم العلمانية، فبسهولة تستطيع أن تكتشف قلة الوعي بالشريعة الإسلامية، وصرح هو بهذا عدّة مرات، وحاول أكثر من مرة استدعاء ما اشتهر من الآيات والأحاديث وتعزب عنه. وحاولوا سد هذه الفجوة بالاتكاء على الدائرة القريبة منهم، تحديدًا ممن اشتهروا بالاطلاع في العلوم الشرعية: مثل د. محمد عمارة، وهو خصم للصحوة الإسلامية ويحاول أن ينسج مستقلًا، وعلي جمعة، وهو متقافز بين الأضداد واستقر حيث لا يرضى الجميع، وكتابات المستشرقين الذين درسوا الشريعة كوائل حلاق ونحوه، ويبررون دراستهم لمخرجات المستشرقين بأن هؤلاء الكفرة متخصصون وليسوا مستشرقين بالمعنى التقليدي، كأن المستشرقين الأول لم يكونوا مدرسين وجامعيين وأهل رأي بين قومهم، وكأن التخصصية الأكاديمية نزاهة وحيادية!!؛ والسبب الخفي وراء الركون للمستشرقين في قراءة الشريعة أن المراجع الأجنبية معتبرة عند هؤلاء، حتى عبد الوهاب المسيري لا تكاد تجد له فكرة إلا وقد نبتت من مصدر أجنبي.
والأخذ والرد مع أطروحات المستشرقين يؤدي إلى تغيرات جذرية في الأطر والأدوات المنهجية والقضايا وبالتالي تغيير المسار كليةً؛ فأسئلة العلمانية هي التي حددت مواضيع النقاش عند كثيرين، وهي التي حددت الأدوات المنهجية وعلى رأس ذلك ما يقال له أكاديمية، وقد أتيت هذا المعنى في مقال مستقل بعنوان (العبوس المتغطرسة). وحاول أن تتجول بخاطرك في القضايا التي شغلتنا في القرنين الماضيين ستجد جلها-إن لم يكن كلها- من أطروحات العلمانيين:كالعمران، والمرأة وما دار حولها من قضايا، والحاكمية،...؛ حتى أصبحت مدارس بأكملها عبارة عن نقاش داخلي بالنسبة للأطروحات الغربية وإن أخذ شكل نقدٍ للمنظومة الغربية!!
والعكس: بدأ الصحويون ينتبهون لأهمية العلوم الإنسانية، ولكن ذلك لم يتعد الحديث عن أهمية العلوم الإنسانية دون أن يتكبدوا مشقة تعلم هذه العلوم، ومن أهم أسباب ذلك أنهم ينتظرون نصرًا عاجلًا ويرون أن إنفاق خمس أو عشر سنوات في تعلم هذه العلوم غرامة كبيرة مع أنهم أعداد غفيرة ويملكون الوقت والإمكانات الذاتية للتعلم وتطوير هذه العلوم بما ينفعهم. ويصدهم عن تعلمها-أيضًا- حالة الانغلاق التي يعيشون فيها والتي تحجب عنهم رؤية التحديات الخارجية على حقيقتها. ويصدهم-أيضًا- حالة الاستعلاء بالإيمان التي ترجمت خطئًا، فبدل أن يدرسوا حالة الاستضعاف- وهي حالتهم على الحقيقة- راحوا يدرسون حالة الاستعلاء والعزلة الشعورية وكأنهم ممكنون!!
فنحن أمام فريقين: فريق يجهل من العلم بحال عدوه ما لا يسعه جهله، وفي ذات الوقت يمتلك حضورًا في أرض الواقع بأعداد كثيفة وانتشار في كل شوارع الأمة؛ وفريق يجهل ما لا يسعه جهله من الشريعة أو يقرأها من كتابات المنحرفين وأشباه المنحرفين وفي ذات الوقت درس الغرب دراسة وافية أو يستطيع أن يقرأ ما يكتبه الأعداء ويتعرف على ما يخطون؟ ومع حاجة كل واحدٍ للآخر إلا أنهما في اتجاهين متضادين.. لا أحد يخاطب الآخر، مع احترام الأشخاص لبعضهما، فما الحل؟!
يجسده هذا السؤال: هل نحن بحاجة لتوطين الإسلام أم أسلمة العلمانية؟!
أجيب عنه في مقالٍ قادم إن شاء الله.
- التصنيف: