المرتزقة العرب.. قراءة في التاريخ

منذ 2018-10-08

غير أن حكام الأندلس في محاولتهم القضاء على العصبية العربية أوجدوا عيوباً جديدة تسببت في القضاء على السيادة العامة في الأندلس

محمد فتحي النادي

دائماً ما تحتاج الأوطان لقوة تحميها، وتحافظ على أراضيها، وتدفع عنها عادية المعتدين، وتخيف الأعداء المتربصين في الداخل والخارج. وكذا يحتاج الملوك والسلاطين والرؤساء إلى قوة تحميهم، وتثبت ملكهم، وتحفظ عروشهم.

وعصب القوة الولاء والطاعة والمال والنظام. فإذا فقدت الأوطان ولاء القوة التي تحميها فرطت تلك القوة في الأوطان، وتركتها نهباً للأعداء الطامعين. وإذا فقد الملوك والسلاطين الولاء لهم يوشك أن تذهب أعمارهم غيلة، وتدول دولهم.

وهناك من يملك القوة فيحاول توظيفها لمصلحة من يدفع له، فيصير ثمة تعاون بين تلك القوة ومن يحتاج إليها. ومن هنا نشأت فكرة «المرتزقة».

«المرتزقة: الذين يأخذون الرزق، وإن لم يثبتوا في الديوان»[1]، أو بمعنى آخر هم «الجنود الغرباء المستأجرون للحرب»[2]. وهي وظيفة قديمة، ضاربة بجذورها في تاريخ البشرية عموماً، والعرب خصوصاً.

فعندما انقلب العرب على الإسلام، ونكثوا عهودهم للدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصبحت عاصمة الدولة ذاتها مهددة، قدم بعض أشراف العرب ووجهائهم على المدينة عارضين بعض خدماتهم في مقابل حصولهم على بعض المال.

فقد «قدم على أبي بكر عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب، فدخلوا على رجال من المهاجرين فقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام، وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم من أموالهم ما كانوا يؤدون إلى رسول الله فإن تجعلوا لنا جُعلاً نرجع فنكفيكم من وراءنا.

فدخل المهاجرون والأنصار على أبي بكر فعرضوا عليه الذي عرضوا عليهم، وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها، ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع إليك أسامة وجيشه، ويشتد أمرك؛ فإنا اليوم قليل في كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب.

قال أبو بكر: هل ترون غير ذلك؟

قالوا: لا.

قال أبو بكر: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله إليكم المشورة في ما لم يمض فيه أمر من نبيكم، ولا نزل به الكتاب عليكم، وإنّ الله لن يجمعكم على ضلالة، وإني سأشير عليكم، وإنما أنا رجل منكم تنظرون فيما أشرته عليكم، وفيما أشرتم به، فتجتمعون على أرشد ذلك؛ فإن الله يوفقكم.

أما أنا فأرى أن نشد إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لا ترشوا[3] على الإسلام أحداً، وأن تتأسوا برسول الله فنجاهد عدوه كما جاهدهم.

والله لو منعوني عقالاً لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه من أهله، وأدفعه إلى مستحقه.

فأتمروا يرشدكم الله، فهذا رأيي.

فقالوا لأبي بكر لما سمعوا رأيه: أنت أفضلنا رأياً، ورأينا لرأيك تبع.

فأمر أبو بكر الناس بالتجهيز»[4].

فهنا لم يقبل أبو بكر (خليفة رسول الله) هذا العرض الذي عرضه بعض أشراف العرب، وقَبِله مشيخة المهاجرين والأنصار، ورأى أن ينهض المسلمون إلى قتال المرتدين.

ويبدو أنه - رضي الله عنه - رأى أن من يؤجر نفسه لمن يدفع قد يخون صاحبه إذا زيد له في المال.

وعيينة بن حصن ممن دخل الإسلام طمعاً؛ فكان ممن يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، و«كان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ومال إلى طلحة فبايعه، ثم عاد إلى الإسلام»[5].

وكان المال دائماً قبلته، فيبحث عنه في كل مكان وزمان، ولكنه لا يشبع منه، فقد دخل على أمير المؤمنين عمر فقال له: «يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل»[6].

وكان بعض الحكام يبتعدون عن تكوين الجيوش من مجتمعاتهم؛ لما قد يكون في ذلك من تعدد الولاءات، حيث يكون ولاء الجنود لقبائلهم ولعصبياتهم، أكثر من ولائهم للحكام وللدولة.

فيلجؤون لاستجلاب عناصر خارجية تقوم بدور الجيوش، والحراسة، فهذا الحكم بن هشام قيل: «إنه أول من جند بالأندلس الأجناد والمرتزقة، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الخدم والحواشي والحشم، وارتبط الخيول على بابه، واتخذ المماليك، وكان يسميهم الخرس لعجمتهم»[7].

وهذا الحال يجعل الشعوب سلبية؛ إذ ترى أنها لا في العير ولا في النفير، وتشعر أن الدولة ليست دولتها، فلا تهتم لحاكم ولا لنظامه، وتبدأ في الانصراف لمعاشها، فتضعف روحها العسكرية، وتبحث عن الاستقرار، وتنصرف عن الحرب.

وتشعر قوى المجتمع أنها مغبونة، وتصير التوازنات في المجتمع غير متكافئة؛ فهذا المنصور بن أبي عامر «أسقط زعماء العرب؛ لئلا ينازعوه السلطة، وجند البرابرة والمماليك، واستكثر من العبيد وأسرى الحرب، واستدعى البربر ورتب من هؤلاء جميعاً جنده.

غير أن حكام الأندلس في محاولتهم القضاء على العصبية العربية أوجدوا عيوباً جديدة تسببت في القضاء على السيادة العامة في الأندلس، وفي اشتعال الفتنة بين أجناس متنافرة من البرابرة والمولدين وبقايا العرب والإفريقيين السود والصقالبة»[8].

والمصريون قديماً تركوا المماليك يتصارعون فيما بينهم، فمن غلب حكم، ومن حكم رضي به الشعب؛ إذ لا يد لهم في تنصيبه أو عزله، والمهم أن تسير أحوالهم ولا تتوقف.

ويأتي كل حاكم فيشتري العبيد والمماليك ويجندهم، وقد يقتله من اشتراهم، ومن ظن أن الولاء له راسخ فيهم.

ومن هنا تنعزل الشعوب عن أنظمتها، وينظر كل فريق للآخر نظرة الريبة والشك؛ إذ يرى كل فريق أن ولاء الآخر ليس له.

وتظل هذه المعضلة قائمة حتى يأتي من يفهم توازنات المجتمع، ويعمل على صهر الجميع في نظام الدولة، فيكون الجميع مستفيداً.

 

[1] المغرب في ترتيب المعرب (1/328).

[2] محمد قلعه جي: معجم لغة الفقهاء، ص(53).

[3] كذا.

[4] حسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، (2/202).

[5] الإصابة في تمييز الصحابة (4/767).

[6] جزء من حديث أخرجه البخاري في «التفسير»، باب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ} [الأعراف: ٩٩١]...»، ح(4642).

[7] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/341-342).

[8] إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي، ص(19).