نختلف لكن لا نفترق

منذ 2011-06-22

الاختلاف والتفرُّق من المظاهِر التي تلمُّ بالسلوك البشري نتيجة للحَرَكة العقلية والفِكرية، التي تفرضها ضرورةُ التعامل فيما بينهم، وفيما يُحيط بهم من الكائنات، وهو مِن السُّنن والقوانين التي أقام عليها ربُّ العالمين نظامَ الكوْن والحياة.


الاختلاف والتفرُّق من المظاهِر التي تلمُّ بالسلوك البشري نتيجة للحَرَكة العقلية والفِكرية، التي تفرضها ضرورةُ التعامل فيما بينهم، وفيما يُحيط بهم من الكائنات، وهو مِن السُّنن والقوانين التي أقام عليها ربُّ العالمين نظامَ الكوْن والحياة.

ومِن قوانين الحياة هذا التدافُع بيْن بني الإنسان الذي يحمل أحيانًا صورةً عقليةً وفِكرية، وأحيانًا يشتدُّ فيأخذ شكل الصِّراع المادي، وهو في الحالتين ضرورةٌ لصلاح الأرْض واستمرار الحياة عليها؛ إذ يقول سبحانه: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، كما يقول عزَّ مِن قائل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40].

والكاسِب في هذا الصِّراع - كما تؤكِّد الآية - مَن يكون عملُه لله وابتغاء رِضاه، غير أنَّ الاختلاف يغاير التفرُّقَ في ملحمة الصِّراع الفكري.

ذلكم أنَّ الاختلاف يعني تباينَ وجهات النظر في قضية مِن القضايا، أو في الحُكم على شيءٍ من الأشياء، أو في تصوُّر حدَثٍ مِن الأحداث.

وهو في مجتمع البشَر أمرٌ وارد، وظاهِرة طبيعية فيه، بل هو سِمة من سِمات المجتمع الإنساني؛ يقول ربُّ العالمين: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118- 119].


والآية تُسجِّل أمرين:
أولهما: أنَّ الاختلاف طبيعةُ البشَر، وإذا اختلفتِ اجتهاداتهم في تصوُّر أمر من الأمور، فذلك أمر فِطري فيهم؛ يقول تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، فلا عجبَ أن تختلف تبعًا لذلك آراؤهم واجتهاداتهم.

والآخر: خطورة الاختلاف إذا وظَّفه البشرُ توظيفًا خاطئًا في أمور دِينهم بأن دفعتْهم الأهواء المخالِفة لدين الله وشريعته، أو دفعَهم الاعتداد بالرأي إلى الغلوِّ في الدِّين، أو القول على الله بغير عِلْم.


قواعد الاختلاف:
ومِن مظاهر السُّموِّ في الدِّين الحق: أنَّنا تعلمنا منه كيف نختلف، وكيف نوظِّف اختلافنا في الوصول بأمَّتنا إلى الهداية والرشد، وإلى القول الصائِب، والفعْل السديد؛ ذلك لأنَّ اختلاف المؤمنين الصادقين المختلفين وجهُ الحق في جانب مِن الجوانب، اتَّجهوا إليه، وعدلوا تمامًا عما كان لهم مِن رأي أو اجتهاد.

وعلى هذا النحو جاءتِ النصيحة القرآنية لمن يختلف مِن المسلمين؛ إذ يقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].


وقد شهِد تاريخ الرعيل الأوَّل مِن جولة المسلمين ألوانًا من الاختلاف، انتهتْ بمحبَّة ووئام، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَستشير أصحابه، وقد يظهر أحدُهم برأي مختلف، ويبدو للنبيِّ صلى الله عليه وسلم صواب ما رآه صاحبُه، فيعدل عن رأيه الذي رآه، وتنتهي القضيةُ باختيار ما هو أكثرُ نفعًا للمسلمين.

واختلف الصحابةُ فيما بينهم في قضايا فقهيَّة متعدِّدة، كل منهم له فيها اجتهادٌ يراه صائبًا، وهم مع اختلافهم يستبقون الحبَّ والمودة فيما بينهم، وتبقَى اجتهاداتهم المختلفة مصدرًا خصبًا يلوذ به كلُّ فقيه أو مجتهد في أيِّ عصر من العصور.

وما دامتِ القضية لم يَرِدْ فيها نصٌّ قاطع، فلا حرج في تعدُّد الاجتهادات.


ومِن هنا تعدَّدت مذاهبُ الفقه، وكثُر الأئمة والمجتهدون، واتَّخذ المسلمون منهم في العصور التالية أعلامًا أفذاذًا يسترشدون بما لهم مِن شروح وتفسيرات، وما لهم مِن استنتاجات واستنباطات.

وهؤلاءِ الفقهاء الأعلام أنفسُهم حذَّروا الجماهير المسلِمة من تقديس اجتهاداتهم، وألاَّ يأخذوا من مذاهبِ الفقه منابرَ للتعصُّب، وبثِّ سموم الأحقاد، وتحويل الاختلاف إلى فرقة باغية، وثبَت عنهم كلماتٌ تكشف منهجهم، فمن ذلك: قولُ أبي حنيفة: "إذا وجدتُم كلامي يخالف كلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فخُذوا بكلام رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي عُرْضَ الحائط"، وكذلك قول الإمام مالك: "كلُّ إنسان يُؤخَذ من كلامه ويُردُّ، إلا صاحب هذا القَبْر"، مشيرًا إلى قبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام الشافعي: "إن صحَّ الحديث فهو مذهبي، كما قال: "لا تُقلِّدوني ولا تقلدوا مالكًا، ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخُذُوا من حيثُ أخذوا".

كما يلفِتُ نظرَنا حفاظُهم على توقير كلٍّ منهم لصاحبه، وهم ما بيْن تلميذ وأستاذ، يقول الشافعي: "الناس في الفِقه عِيالٌ على أبي حنيفة"، وذلك شهادةٌ منه بأستاذيته، وتقديرًا لفقهه، وهو الإمام الأعظم.


جريمة مرفوضة:
ومِن وراء هؤلاء الأعلامِ وتلاميذهم ومَن سار على درْب الاجتهاد بعدَهم، كسبْنا تراثًا تشريعيًّا عظيمَ الشأن، حفل بمعالجات لقضايا من الواقع، أو من عالَم القصور والافتراض، وأعطَوُا الناس سَعةً في التعامل مع الحياة، لا سيَّما في القضايا التي لا مرجعَ فيها إلا اجتهاداتهم.

وقد ألَّف الفقيه الشافعيُّ أبو عبدالله محمَّد بن عبد الرحمن الدمشقي العُثماني، من علماء القرن الثامن الهجري كتابًا سمَّاه: "رحمة الأمَّة في اختلاف الأئمَّة"، قدَّم فيه آراءَ الفقهاء في أبواب شتَّى من الفقه الإسلامي، وذكَر ما ترتَّب على الآراء المختلفة من توسعة على الناس.

لكن خطورة الاختلاف تتمثَّل في تحوُّله في ظلِّ البغي واتباع الهوى إلى فرْقة وانقسام، وتوزُّع طائفي، بحيث تجعل كلُّ طائفة مِن فكرها واجتهادها محورًا ترتكز عليه ولا تبرحه، ومعبودًا تطوف حولَه ولا تسمح لعقل المنتمِي لها أن يتَّجه لسواه، وهنا يتحوَّل هؤلاء في ظلِّ الانتماء الدِّيني المزعوم إلى فرْقة متصارِعة، ومتشاحنة، يكتنف حياةَ الجميع جوٌّ من العداء والكراهية.

هذا الخلافُ الذي تحوَّل إلى فرقة يتمُّ غالبًا في رِحاب أهل العلم؛ كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213].


والفرْقة تحت مظلَّة الانتماء الإسلامي جريمةٌ مرفوضة؛ لأمرين:
أولهما: تأكيدُ القرآن الكريم على وَحْدة الأمَّة المسلِمة، وأنَّ أمة التوحيد لا بدَّ أن تكون أمَّةً واحدة؛ قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال سبحانه: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [المؤمنون: 52].


والآخَر:
التحذير مِن الفرقة في ظلِّ هذا الانتماء الكريم؛ يقول تبارك وتعالى مخاطبًا نبيَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].

فتُشير هذه الآيةُ صراحةً إلى ضلال الفرْقة، وأنَّ المفترقين باسم الدِّين ليسوا أهلاً للانتماء له، وخصوصًا مَن يفعل ذلك بغيًا واستكبارًا، وإعجابًا برأيه، فهؤلاء وأمثالهم لن يفلتوا من موقِف الحساب أمامَ الله، ويقول سبحانه: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].

فالالْتزام بالدِّين دون فرْقة وشِقاق مطلبٌ إلهي من كلِّ أمَّة سعِدت بنزول شرْع السماء، وما فيه مِن هداية ورشد.

مِن خلال هذا ينبغي لنا أنْ نعلمَ أنَّ الخلاف الناشئ عن اختلاف وجهات النظر، وعن التكوين العِلمي والثقافي للإنسان بعيدًا عن النزوات والنزعات - ينبغي ألاَّ يفسد قضية الود، وهو - كما أسلفنا - المنهج الإسلامي في معالجة القضايا، التي هي بطبيعتها يمكن أن تختلفَ فيها الاجتهاداتُ، كما ينبغي أن نعلم أنَّ الإسلام بطبيعته في تجميع القلوب، وتلاحُم المشاعرِ يرفض الطائفيةَ والتشرذُمَ، وصِراع الشعارات لا حُبًّا في إعلاء كلمة الله، ولكنَّها الأهواء الغالبة، والنزوات المتحكِّمة، ومن هنا تُؤتى الأمم، وتتسلَّط عليها عواملُ الفناء، وأسباب الشقاء.


 

المصدر: عبد الرزاق حسين - موقع المختار الإسلامي