أزمة الرجل الأربعيني
ولماذا لا تندفع المرأة إذًا إلى نفس الطريق وهي التي تمرُّ بنفس الأزمة - كما يسمُّونها - فالوضع للمرأة والرجل في المرور بهذه المرحلة على حدِّ السواء؟!
أزمة منتصف العمر، أو المراهقة المتأخِّرة عند الرجل - كما يسمِّيها البعض - مصطلحٌ انتشر في مجتمعاتنا انتشارَ النار في الهشيم؛ فصارت بعضُ البيوت التي يقطنها رجل في هذه المرحلة مهدَّدةً بالانهيار، بل وصارت على شفا حفرة من نار؛ فها هو عاقلُ ورزين الأمس يُحادث زميلاتِه في العمل بطريقةٍ لم يَعتَدْها من قبلُ، ويفتح الحواراتِ الطويلة مع الفتيات على مواقع التواصل الاجتماعيِّ، وربما يبدأ في ملاحقة فتاة بعينها، ويسترسل في الحديث معها حول تفاصيل حياتها، فتسيطر عليه قناعاتٌ مُضلِّلة بأنه الفارس المغوار الذي ساقته الأقدار للوقوف إلى جوار هذه الفتاة، وانتشالها مما تعانيه من وَحدة وألمٍ ومعاناة! ولو تأمَّلنا الموقف، لربما وجدنا زوجتَه في الغرفة المجاورة تعاني الوحدة والإهمال، وربما الصدَّ والإقصاء!
ها هو رزينُ الأمس ينظر في تاريخه فيرى أنَّه قد ضيَّع شبابه في العمل... ينظر إلى جواره ليجد زوجةً قد ذهبت نضارتها، وقلَّت حيويتها، وضاعت رومانسيتها، ولم يعد هناك أثرٌ واضح لأنوثتها؛ فيتحسَّر على نفسه المحرومة من متع الحياة؛ فيركض ليعيد لنفسه الشباب.
هذا ما يحدث عادةً للرجل حين يتأثَّر بهذه الأفكار الغربيَّة المريضة، التي ما صُنعت إلا من خيالٍ مريض وعقل مختلٍّ؛ فحتى إن كان الرجل يمرُّ في هذه المرحلة بتغيُّرات هرمونية، فهل معنى هذا أن تدفعه هذه التغيُّراتُ إلى الانغماس في المحرَّمات، والانجرافِ وراء خطوات الشيطان؟!
ولماذا لا تندفع المرأة إذًا إلى نفس الطريق وهي التي تمرُّ بنفس الأزمة - كما يسمُّونها - فالوضع للمرأة والرجل في المرور بهذه المرحلة على حدِّ السواء؟!
هل يقبل الرجل أن تُحادث زوجتُه غيرَه على شبكات التواصل الاجتماعيِّ، وتتبسَّط معهم في القول لقتل أوقات الفراغ، أو بحثًا عن ذاتها الضائعة، وعن أنوثتها التي قتلها رجل عاش عُمْرَه لتحقيق طموحه الوظيفيِّ فحسب؟!
قد تكون زوجتك صارت بالفعل بلا أنوثة ظاهرة، ولا نضارةٍ واضحة، ولكن مَن الذي أضاع هذه الأنوثة، ومَن الذي وارَى هذه النضارةَ؟
إن المرأة بطبيعتها نشأت على حبِّ التزيُّن، وإظهار أنوثتها قدر استطاعتها؛ فإن ضاعت هذه الأنوثة ذات يوم، فلأنَّ زوجها لم يستطع أن يُفجِّر هذه الأنوثة... بل كل ما فعله أنَّه قتلها وواراها وغطَّاها بالتراب؛ فوراء كلِّ أنوثةٍ مقتولةٍ زوجٌ قاتلٌ لها بالصدِّ والإهمال.
تُرى هل يحقُّ للمرأة التي أهملها زوجها، حين تنتبه فترى أن العمر مرَّ منه الكثير وهي لم تذُقْ طعم الحياة الرومانسية... هل يحقُّ لها أن تحادث الرجال، وتتنازل عن مبادئها وأخلاقِها ودينها، وأن تخون زوجها ولو بقليل الكلام مع الغرباء من الرجال؟
يا لها من حماقة وسخافة أن تخضع العقولُ لتلك المسمَّيات غير الرشيدة، التي تصوِّر الرجل الأربعينيَّ على أنه جائع محروم، يتشبَّث بأي فرصة لإشباعِ جوع عاطفته بطرق مُحرَّمة!
ولو أمعن الرجل النظرَ قليلًا في حقائق الأمور، لأدرك أنه في الإسلام لا وجود لأكذوبة أزمة الرجل الأربعيني، بل هو نضج للرجل الأربعيني؛ فهذه السنُّ هي بحقٍّ سنُّ اكتمال النضج، وعنفوان العقل، واستقرار النفس... سِنُّ الحكمة والاتزان النفسي، وليس أدل على ذلك من أنَّها سن الرسالة التي بُعث فيها محمدٌ صلى الله عليه وسلم رسولًا للعالمين.
السن التي يُفترض أنْ يقف فيها الإنسان وقفةً جميلةً مع ذاته، فيفرُّ إلى الله تائبًا، وإلى كنفه عائدًا؛ ﴿ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ﴾ [الأحقاف: 15].
أرأيتم كيف أن هذه السنَّ هي سنُّ تذكُّر النِّعم وعمل الصالحات، لا الانجراف وراء الشهوات والمحرَّمات؟!
سن محاسبة النفس... لا سن الانقياد لهوى النفس والنزوات؛ فالرجل الأربعيني في الإسلام حين ينظر إلى شريط حياته، ويقلِّب في صفحات العمر - لا يتأفَّف ولا يتضجَّر؛ لأنه يرى في هذه الصفحات صورةَ زوجةٍ وفيَّة وقفت إلى جواره في السراء والضراء... زوجة أحسَنَت إليه حين انشغل عنها، وحفظَتْه حين غاب عنها، وساندته حتى وصل إلى ما يطمح إليه، وإن كان ذلك على حساب أنوثتها وسعادتها... أما نضارتها التي ضاعت، فما ضاعت سوى من أجله هو، وأنوثتُها التي ذبُلت، ما ذبلت إلا نتيجةً لانشغاله هو عنها.
الرجل الأربعيني في الإسلام رجلٌ وفيٌّ حافظٌ للعهد؛ إن رأى تقصيرًا عفا وسامح، وإن رأى عيبًا سدَّ الخلل وجلس مع حبيبته وبمكنونِ نفسه صارَح.
رجل لا يعرف للجحود طريقًا، ولا للخيانة موضعًا، بل يعدِّد نِعَم الله عليه، ويدرك أن زوجته التي شاركته رحلة الحياة نعمةٌ تستحقُّ الشكر، وإن كان بها من العيوب ما بها، فقد تحمَّلته وهو به من العيوب ما به.
الرجل المسلم حين يبدأ في اكتمال النضج في الأربعينات، لا يقع في مستنقع العشق المحرَّم، بل يسارع في الانتباه لزوجته، فينسج معها خيوطًا ذهبية لقصة حبٍّ وعشق جديدة، بدلًا من أن يعيشها مع امرأةٍ لا تحلُّ له... يأخذ بيد شريكة العمر للجنة، يرسمانِ معًا أحلامًا جديدةً، وطموحاتٍ مختلفةً؛ ليؤسِّسا لحياة أروعَ تنتظرهم في جنات الخُلْد.
سن الأربعين ليست سنًّا للأزمات ولا النزوات، بل هي سنُّ التنعُّم بالطاعات، والتوبة من المعاصي والسيئات، وتعويض ما فات من متع الحياة، ولكن في أحضان الحلال.
هي سن الوفاء لشريكة العمر... السن التي تنتظر الزوجة فيها أن ترى رجولة زوجها يتجسَّد فيها الوفاء والحب والاحتواء، لا الغدر والخيانة والتقلُّب في الأهواء.
الرجل الأربعيني في الإسلام رجلٌ يدرك أن أزمة منتصف العمر حين يمرُّ بها الرجل ليست أزمةً، ولكنها نزوة لا يمرُّ بها سوى مرضى القلوب وضعاف النفوس؛ فغيرُه من الرجال كانوا في هذه السنِّ يُبدعون ويُخرجون للدنيا أفضل الإنجازات، ولا يتلفَّتون لهذه الأهواء والتفاهات، التي يتحوَّل فيها الرجل إلى ألعوبة في يد الشيطان، فهنيئًا لكل رجل أربعيني احتفظ برجولته لزوجته، وعاد إلى ربِّه وأناب، ولهج بصدق:
﴿ {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ﴾ [الأحقاف: 15].
رضا الجنيدي
كاتبة متخصصة في مجال الأسرة وداعية إسلامية
- التصنيف: