أجرٌ بلا عملٍ

منذ 2018-12-14

عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: " «إن بالمدينة لرجالًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسَهم المرضُ". وفي لفظٍ: "إلا شَرِكُوكم في الأجرِ»

هل رأيت رجلًا أخذ أجرًا من غير عملٍ؟

إن هذا يحدث أحيانًا لمن كان موظفًا في هيئة تابعة للدولة، فيعتَريه مرضٌ يمنعُه من مواصلةِ العمل، وعندما يتأكدوا من مرضِه يعطونه إجازةً براتبٍ كاملٍ في بعض الأحيان.

وهكذا حالُ المؤمن مع ربِّه سبحانه وتعالى، وربنا الكريم أجودُ الأجوَدين سبحانه وتعالى، إنه يُعطِي الأجرَ كاملًا لمن كانت نيَّتُه صادقةً لعملِ شيءٍ من الطاعاتِ، لكن عرَض له عارضٌ منعه من هذا العملِ.

فلو أن رجلًا مؤمنًا رأى إنسانًا يحتاجُ لصدقةٍ، فأراد أن يُعطِيَه من مالِه، لكن لم يكن معه من المالِ إلا القليل، وكانت نيَّتُه أنه لو كان معه مالٌ كثيرٌ لأعطاه، فإن الله يكتبُ له أجرَ نيَّتِه، لا أجرَ صدقتَه القليلة.

ولو أن رجلّا كان من عادتِه أن يقومَ الليل، فابتُلِي بمرضٍ أقعدَه طريحَ الفراشِ، وكانت نيَّتُه أنه لولا المرضُ لقام الليلَ كعادتِه، فإن الله يكتبُ له الأجرَ.

إنَّ المؤمن يأخذُ بحسنِ نيَّتِه أجرًا عظيمًا على أعمالٍ لم يعملْهَا، وهذه أخبارٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم تدلُّ على هذا، بصَّرك الله بالحق، وسدَّد خُطَاك. 

1- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله فيما يروِي عن ربِه تباركَ وتعالَى قال: " «إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسَّيئاتِ، ثم بيَّنَ ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله عزَّ وجلَّ عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعِ مائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإنْ همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله سيئةً واحدةً» " ([1]).

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَت له حسنةً، ومن همَّ بحسنةٍ فعمِلَها كُتِبَت له عشرّا إلى سبعِ مائةِ ضَعفٍ، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعمَلْها لم تُكتَبْ، وإن عمِلَها كُتِبَت" ([2]).

وفي لفظٍ لمسلمٍ ([3]) : "قال الله عزَّ وجلَّ: «إذا تحدَّث عبدي بأن يعمَلَ حسنةً، فأنا أكتُبُها له حسنةً ما لم يعمَلْ، فإذا عمِلَها فأنا أكتُبُها بعشرِ أمثالِها، وإذا تحدَّث بأن يعمَلَ سيئةً، فأنا أغفِرُها له ما لم يعمَلْها، فإذا عمِلَها فأنا أكتُبُها له بمثلِها» ".

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " «قالتِ الملائكةُ: رب! ذاك عبدُك يُرِيدُ أن يعملَ سيئةً، وهو أبصرُ به. فقال: ارقُبوه فإن عَمِلَها فاكتبوها له بمثلِها، وإن تركَها فاكتُبوها له حسنةً؛ إنما تركها من جرَّاي» ".

قال العلماء: المرادُ بالهَمِّ هنا العزمُ المصمم الذي يوجدُ معه الحرصُ على العملِ، لا مجرَّدِ الخَطرة التي تخطرُ، ثم تنفسِخ? من غيرِ عزمٍ ولا تصميمٍ.

فالله عز وجل يكتبُ لعبدِه المؤمنِ الأجرَ على ما همَّ به من الخيرِ وإن لم يعملْه، وهذا إن كان قد نوى فِعلَه، لكن حالَ بينه وبين ذلك معوقات لم يستطعِ معها فعل هذه العبادةِ.

2- عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه ، أنه سمِع رسولَ الله يقولُ: «ثلاثةٌ أقسمُ عليهن وأُحدِّثُكم حديثًا فاحفَظوه قال: ما نقَصَ مالُ عبدٍ من صدقةٍ، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً فصبرَ عليها إلا زادَه الله عزًّا، ولا فتحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ أو كلمةً نحوَها» .

«وأُحَدِّثُكم حديثًا فاحفَظوه: "إنما الدنيا لأربعةِ نُفَرٍ: عبدٍ رزقَه الله مالًا وعلمًا فهو يتَّقِي فيه ربَّه، ويصِلُ فيه رحمَه، ويعلَمُ لله فيه حقًّا، فهذا بأفضلِ المنازلِ. وعبدٍ رزقَه الله علمًا ولم يرزُقْه مالًا فهو صادقُ النيةِ يقولُ: لو أن لي مالًا لعمِلْتُ بعمَلِ فلانٍ فهو بنيَّتِه فأجرُهما سواءٌ. وعبدٍ رزقَه الله مالًا ولم يرزُقْه علمًا، فهو يًخْبِطُ في مالِه بغيرِ علمٍ لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصِلُ فيه رحمَه، ولا يعلَمُ لله فيه حقًّا، فهذا بأخبثِ المنازلِ. وعبدٍ لم يرزقْه الله مالًا ولا علمًا فهو يقولُ: لو أن لي مالًا لعمِلتُ فيه بعملِ فلان فهو بنيتِه فوزرُهما سواء"» ([4]).

فهذا رجلٌ لم يكن معه مالٌ يُنفقه في سبيل الله عز وجل، لكنه نوى بقلبِه لو كان معه مال لأنفقه في وجوه الخيرِ، ولكان من السبَّاقين، فيُعطيه الله الأجرَ على قدرِ نيته.

3- عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غَزَاة، فقال: " «إن أقوامًا بالمدينة خلفَنا، ما سلَكنا شِعْبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسَهم العذرُ» " ([5]).

وفي لفظ ([6]): أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجعَ من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: " «إن بالمدينة أقوامًا، ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم".  قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينةِ؟ قال: "وهم بالمدينة، حبسَهم العذر". وفي لفظ ([7]): "ولا أنفقتُم من نفقةٍ» .. ".

وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: " «إن بالمدينة لرجالًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسَهم المرضُ". وفي لفظٍ: "إلا شَرِكُوكم في الأجرِ» " ([8]).

قال العلماء: في هذا الحديث فضيلةُ النية في الخيرِ، وأن من نوى الغزوَ وغيرَه من الطاعاتِ فعرَض له عذرٌ منعَه حصَل له ثوابُ نيتِه، وأنه كلما أكثرَ من التأسفِ على فوات ذلك وتمنى كونَه مع الغُزاةِ ونحوِهم كثُرَ ثوابُه.

أعطاهم الله عز وجل أجرَ المجاهدين في سبيلِه أحسنَ نيَّاتِهم؛ فإنهم قد أرادوا الغزوَ معه صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يستطِيعوا، فقد أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقلوبُهم تخفِقُ شوقًا للجهاد في سبيل الله، لكن لم يجدِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يحمِلُهم عليه، وكان هذا في غزوة تبوك، وقد قال الله تعالى في هذا: { {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} } [التوبة: 92].

صدقَت نياتُهم فكافئَهم الله تعالى على ذلك بأن أعطَاهم أجرَ الجهادِ وهم بين أهلِهم وأولادِهم، أرادوا الخيرَ لكن عاقَهم عائق لم يستطيعوا منه انفكاكًا.

4- عن سهل بن حُنَيف رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «من سألَ الله الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغَه الله منازلَ الشهداءِ، وإن ماتَ على فراشِه» " ([9]).

قال العلماء: فيه استحبابُ نية الخير. ومعناه تبليغُ من نوى خيرًا واعتقدَ فِعلَه أجرَ ما نواه إن عاقَه عنه عائقٌ، تفضُّلًا من الله وأجرًا على نيتِه. وإن تفاوتت الرتبتان فإن المشبَّه دون المشبَّه به.

 5- عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " «من أتى فراشَه وهو ينوي أن يقومَ يُصلِّي من الليلِ فغلبته عيناه حتى أصبح كُتِب له ما نوى وكان نومُه صدقةً عليه من ربِّه عز وجل» " ([10]).

قال العلماء: في هذا الحديث ما يدلُّ على أن المرء يُجازَى على ما نوى من الخيرِ وإن لم يعمَلْه كما لو أنه عمِلَه وأن النية يُعطَى عليها كالذي يُعطَى على العملِ إذا حِيلَ بينه وبين ذلك العملِ وكانت نيتُه أن يعمَله، ولم تنصرِفْ نيتُه حتى غُلبَ عليه بنومٍ أو نسيان أو غيرِ ذلك من وجوه الموانعِ، فإذا كان ذلك كُتِبَ له أجرُ ذلك العملِ وإن لم يعمله، فضلًا من الله ورحمةً، جازى على العملِ، ثم على النية إن حالً دون العملٍ حائلٌ.

6- عن إبراهيم السَّكْسكي رحمه الله قال: سمعت أبا بردة، واصطحَب هو ويزيد بن أبي كبشَة في سفرٍ، فكان يزيد يصومُ في السفرِ، فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مرارًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «إذا مرِضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمَلُ مقيمًا صحيحاً» " ([11]).

قال العلماء: أفاد أن من كان يعتَادُ عملًا إذا فاته لعذرٍ فذلك لا يُنقِصُ من أجرِه.

7- عن أبي عمران الجوني رحمه الله قال: بلغنا أنَّ الملائكةَ تُصَفُّ بكتُبِها في سماءِ الدنيا كلَّ عشيةٍ بعد العصر، فينادي الملك: ألقِ تلك الصحيفةِ، وينادي الملك: ألقِ تلك الصحيفة. فيقولون: ربنا! قالوا خيرًا، وحفِظنا عليهم. فيقول: إنهم لم يُريدُوا به وجهي، وإني لا أقبلُ إلا ما أُرِيد به وجهي. وينادي الملك الآخر: اكتب لفلان كذا وكذا. فيقول: يا رب!! إنه لم يعمَلْه، يا رب! إنه لم يعمَلْه. فيقول تعالى: إنه نوَاه، إنه نواه"  ([12]).

 

 

([1]) أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131).

([2]) أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (130)، واللفظ له.

([3]) أخرجه مسلم (129).

([4]) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2325)، وابن ماجه (4228)، وأحمد (4/ 230، 231).

([5]) أخرجه البخاري (2839).  "شِعبا": طريقًا في الجبل.

([6]) أخرجه البخاري (4423).

([7]) أخرجه أحمد (3/ 160)، بسند صحيح.

([8]) أخرجه مسلم (1911).

([9]) أخرجه مسلم (1909).

([10]) مختلف في رفعه ووقفه: أخرجه النسائي (1787)، وابن ماجه (1344)، وابن حبان (2588). وقد اختلف في رفع هذا الحديث ووقفه.

([11]) أخرجه البخاري (2996). وقد انتقد بعض أهل العلم هذا الحديث على البخاري رحمه الله؛ لأن السكسكي إلى الضعف أقرب.

([12]) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 313)، وسنده حسن.

أبو حاتم سعيد القاضي

طالب علم وباحث ماجستير في الشريعة الإسلامية دار العلوم - جامعة القاهرة