العقوبات الثمانية لمن أكل المال الحرام:المقال الأول

منذ 2018-12-22

قالَ صلى الله عليه وسلم : "ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ، لا يُبالي المرءُ بما أخذَ المالَ، أمِن حلالٍ أمْ من حرامٍ"

قالَ صلى الله عليه وسلم : "ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ، لا يُبالي المرءُ بما أخذَ المالَ، أمِن حلالٍ أمْ من حرامٍ" ([1]).لقد صار هَمُّ أكثرِ الخلقِ في زماننا جمعُ المالِ، الفَطِنُ الذَّكي من يجمعُ أكثرَ، لا يُبالي من حلالٍ كان هذا المالُ أو من حرامٍ، المهم أن يجمعَ ويكنِزَ، يُفنِي عمرَه، وينفق زهرةَ شبابه، ويسهرُ الليالي الطِّوالَ، ويجولُ الدنيا، ويطوفُ شرقًا وغربًا في جمعِ المالِ.

لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحرِصُ على تجنُّبِ أكلِ المالِ الحرامِ، ليس هو فحسب بل وجميع أهله، قال صلى الله عليه وسلم: " «إني لأنقلِبُ إلى أهلِي، فأجِدُ التمرةَ ساقطةً على فراشِي، ثم أرفعُها لآكلَها، ثم أخشَى أن تكونَ صدقةً، فأُلقِيها» " ([2]).

وقال أبو هريرة : أخذَ الحسنُ بن علي رضي الله عنهما تمرةً من تمرِ الصدقةِ، فجعلَها في فِيه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " «كِخٍ كِخٍ"؛ ليطرَحَها، ثم قال: "أما شعَرْتَ أنا لا نأكلُ الصدقةَ» " ([3]).

وكان أصحابُه من أبعدِ الناسِ عن أكلِ الحرامِ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكرٍ غلامٌ يُخرِجُ له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خَراجِه، فجاءَ يومًا بشيءٍ فأكلَ منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهليةِ، وما أُحسِنُ الكِهانةَ، إلا أني خدعتُه، فلَقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخلَ أبو بكرٍ يده، فقاءَ كلَّ شيءٍ في بطنِه" ([4]).

وعن عروة بن الزبير رحمه الله، أن أروَى بنتَ أويس ادَّعَت على سعيد بن زيد أنه أخذَ شيئًا من أرضِها، فخاصَمَتْه إلى مرْوان بن الحَكَم. فقال سعيد: أنا كنتُ آخذُ من أرضِها شيئًا بعد الذي سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «من أخذَ شِبرًا من الأرضِ ظلمًا طُوِّقَه إلى سبعِ أرْضِين". فقال له مروان: لا أسألُك بيَّنَةً بعد هذا. فقال: "اللهمَّ إن كانت كاذبةً فعَمِّ بصرَها، واقتُلْهَا في أرضِها". قال: "فما ماتتْ حتى ذهبَ بصرُها، ثم بيْنا هي تمشِي في أرضِها، إذْ وقعَتْ في حفرةٍ فماتت» " ([5]).

ولا تحسب أن هذا المسكين الذي كنَز المالَ وجمعَه من الحرامِ سوف يجِدُ راحةً وسعادةً في حياتِه، كلا والله، إنه لا بد أن يشقَى في حياتِه، وبعد مماتِه، إنه يجني عاقبةَ ذنبِه هذا همًّا وضِيقًا وظُلمَةً تملأُ قلبَه، مع ما ينتظره في الآخرةِ من العقابِ الأليمِ، إن هو لم يتُبْ.

إن أكلَ المالِ الحرامِ ليس من الذنوبِ الصغيرةِ، بل هو من كبائرِ الذنوبِ وعظائِمها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " «اجتنبوا السبعَ الموبقاتِ"، قالوا: يا رسولَ الله وما هن؟ قال: "الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ، وأكلُ الربا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولِّي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ» " ([6]). فذكر منها اثنين هما بعضُ صورِ المالِ الحرامِ، "أكل الربا، وأكل مالِ اليتيم".

وها أنا ذا أذكر لك يا أخي بعضَ عقوباتِ من أكلَ المال الحرام ولم يتُب، إنها عقوباتٌ في هذه الحياةِ الدنيا، وعقوباتٌ في الحياةِ الأخرى؛ في قبرِه، ويومَ الحشرِ، وفي جهنم عافانا الله، كلُّ هذا بأدلته من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله r؛ ليكونَ في هذا زجرًا لنا إن سوَّلَتْ لنا أنفسُنا أكلَ الحرام.

1- عدم قبول دعائه:

عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «أيها الناسُ! إن الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبَرَ، يمُدُّ يديه إلى السماءِ: يا ربُ! يا ربُ! ومطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يُستجَابُ لذلك؟» ([7]).

عن مالك بن دينار رحمه الله قال: أصابَ بني إسرائيل بلاءٌ وقحطٌ، فخرجوا يُضِجُّون، فأوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم أن أخبرِهم: تخرجون إلى الصعيدِ بأبدانٍ نجِسَةٍ، وأيدٍ قد سفكتُم بها الدماءَ، وملأتم بطونَكم من الحرامِ؟ الآن حين اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تزدادُوا مني إلا بُعدًا "

وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.

وعن وهب ابن منبه رحمه الله قال: من سره أن يستجيب الله دعوته فليطيب طعمته.

2- محق البركة:

قال الله تعالى: { {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} } [البقرة: 276]. قال العلماء: يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة.

وعن ابن مسعود t، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «ما أحدٌ أكثرَ من الربا إلا كان عاقبَةُ أمرِه إلى قِلَّةٍ» " ([8]).

وعن أبي هريرة t قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: " «الحَلِفُ مَنفَقةٌ للسلعةِ، ممحَقةٌ للربحِ» " ([9]).

وعن حكيم بن حزام  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «البيِّعانِ بالخِيارِ ما لم يتفرَّقَا - أو قال: حتى يتفَرَّقا -، فإن صدَقا وبيَّنَا بورِك لهما في بيعِهما، وإن كتمَا وكذَبا مُحِقَتْ بركةُ بيعِهما» " ([10]).

3- الخسارة والهلاك:

قال الله عز وجل: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} } [البقرة: 278، 279].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يُقَالُ يومَ القيامة لآكل الربا: خذ سلاحَك للحربِ، قال:{ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} } [البقرة: 279] ([11]).

قالَ العلماءُ: استُشْكِلَ وقوعُ المحاربةَ وهي مفاعلةٌ من الجانبين معَ أنَّ المخلوقَ في أسْرِ الخالقِ، والجوابُ: أنَّه مِنَ المخاطَبةِ بما يُفهَمُ؛ فإنَّ الحربَ تنشأُ عن العداوةِ، والعداوةُ تنشأُ عن المخالفةِ، وغايَةُ الحرْبِ الهَلاكُ، ومَنْ عَادَى الله يُغلَبُ ولا يفلِحُ.

وكأنَّ المعنى: فقدْ تعرَّضَ لإهلاكي إيَّاه، فأطلَقَ الحرْبَ وأرادَ لازمَه، أي: أعمَلُ به ما يعمَلُه العدَو المُحَارِبُ، وفي هذا تهدِيدٌ شدِيدٌ؛ لأنَّ من حارَبَه الله أهلَكَه، وهو من المَجازِ البليغِ؛ لأنَّ من كَرِه من أحبَّ الله خالفَ الله، ومن خالَفَ الله عاندَه، ومن عاندَه أهلكَه.

4- غضب الله على آكل المال الحرام:

عن أبي وائل الأسدي رحمه الله، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلفَ يمينَ صبْرٍ ليقتطِعَ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، لقِيَ الله وهو عليه غضبانُ. فأنزل الله تصديقَ ذلك: { {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} } إلى آخر الآية.

قال: فدخلَ الأشعثُ بن قيس، وقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا. قال: فيَّ أُنزِلَتْ؛ كانت لي بئرٌ في أرضِ ابنِ عمٍ لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " « بيَّنتُك أو يمينُه". فقلت: إذا يحلِفُ يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلَف على يمينِ صبْرٍ، يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان» " ([12]).

 

([1]) ‏‏أخرجه البخاري (3842)، عن أبي هريرة t.

([2]) ‏‏أخرجه البخاري (3/ 125)، ومسلم (1070) عن أبي هريرة t.

([3]) ‏‏أخرجه البخاري (1491)، ومسلم (1069).

([4]) ‏‏أخرجه البخاري (3842).

([5]) ‏‏أخرجه البخاري (2452) مرفوعًا بدون القصة، ومسلم (1610)، واللفظ له.

([6]) أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).

([7]) ‏‏أخرجه مسلم (1015).

([8]) ‏‏إسناده صحيح: أخرجه ابن ماجه (2279).

([9]) ‏‏أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606).

([10]) ‏‏أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).

([11]) ‏‏حسن: أخرجه ابن أبي حاتم (2920).

([12])‏‏ أخرجه البخاري (4549)، ومسلم (138). قال العلماء: ويمين الصبر هي: التي ألزم بها الحالف عند حاكم ونحوه، وأصل الصبر الحبس والإمساك. وقوله r: "من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر": أي متعمد الكذب، وتسمى هذه اليمين الغموس.

أبو حاتم سعيد القاضي

طالب علم وباحث ماجستير في الشريعة الإسلامية دار العلوم - جامعة القاهرة