الحل يبدأ من صناعة النخبة المتخصصة

منذ 2019-01-15

حاولت البحث عن حل, حاولت أن أجيب على هذا السؤال الذي لا يغادر المكان، ما الحل؟!

 

بعد كل مقال أو أطروحة نقدية يثورُ سؤالٌ يبحث عن الحل. كل من يقرأ نقدًا يعقب عليه بحالة من الغضب والاشمئزاز، وربما يصيح بصوتٍ عال: ما الحل؟!.. نريد حلًا. كفاية تنظير!
يكرهون النقد وهو الأب الشرعي للإبداع- وأم الإبداع هي الحرية، فإن اجتمعت القدرة على النقد والحرية خرج الابداع، ولابد-. ولكن النقد الآن سيء السمعة لأن جل المعروض على صفحات الحاضر والماضي القريب لا يصلح وإلا ما فسد حالنا هكذا. ويكرهون النقد وهو ضرورة في هذه الأيام لأنه يزيح كمية كبيرة من سيل المعلومات التافهة والضارة التي تتدفق علينا ليل نهار من كل مكان، فهو يؤطر المخالف ويقصيه بالجملة، وبالتلي يريحنا من التفاصيل الشاقة التي لا نملك المنافسة فيها. والنقد منهج الأقوياء، وقد حث القرآن الكريم الناس على ممارسة التأمل والتفكر وطرح الأسئلة والبحث عن إجابات صحيحة، وعرض شبهات المخالفين ورد عليها؛ والمنظومة الغربية الممكنة اليوم جوهر مناهجها الاجتماعية هو تعليم النقد. ولكن قومنا لا يصبرون على النقد، يسألون دائمًا: ما الحل؟!

ومع إيماني التام بأن فرز (نقد) القديم ضرورة، وذلك لأن أسهل الطرق لإيجاد حلٍ سريع هو البحث في المعروض واستبعاد ما لا يصح ثم انتقاء الأقرب وتعديله أو تهيئة المناخ له, إلا أني حاولت البحث عن حل, حاولت أن أجيب على هذا السؤال الذي لا يغادر المكان، ما الحل؟!

في برنامج بلا حدود سأل الأستاذ أحمد منصور الدكتور رشدي راشد عن طريقة لإصلاح البحث العلمي في الدول المتخلفة، فقدم إجابة فعَّالة وشديدة البساطة وهي تدريب من يصلح من المنتسبين للبحث العلم، يقول: إعادة تأهيل من يصلح من المنتسبين للبحث العلمي (المدرسين والأساتذة في الجامعات)، وبعد عامين فقط يصبح عندنا باحثين حقيقيين بالفعل، والمؤسسات البحثية (الجامعات ومراكز الأبحاث) موجودة، ومن ثم يبدأ تطوير العلوم بعد التأهيل مباشرةً.. كل في مجاله.

سمعت هذه الحلقة في 2010، ولا زالت أفكر في كلمات الدكتور رشدي راشد: أدور حولها وأعيد النظر فيها مرةً بعد مرة، وأردد مقولاتها: إعادة التأهيل..بناء الذات. ثم انضم إليها فكرة أخرى وهي أن عامة الموجودين بالأكاديميات ليسوا من أهل البحث وإنما متفوقون ذهنيًا ويبحثون عن أرزاقهم وعن احترام اجتماعي في الغالب، والأفضل هو مراعاة التخصصية الفطرية التي فطر الله الناس عليها، فالناس مختصون بطبعهم. فالأنسب أن ينادى في الناس بإعادة التأهيل وكل إلى ما يحب أو إلى ما يحسن. هذه هي الخطوة الأولى والأهم في الحل. فالحل ببساطة شديدة: إعادة تأهيل الموجود وكل فيما يحب أو يحسن.

جوهر المشكلة في أننا ننتظر حلًا من الخارج، ننتظر أن يأتي من يأخذ الشر وأهله وينثر الرخاء ويحولنا إلى سادة. تمكنت فكرة المخلص (المهدي المنتظر) منا. مع أننا نقرأ قول ربنا: (ولَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (محمد:4)، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)(الفرقان:20). تمكن فكرة المخلص جعلت العقول تتجه لفردٍ ما يخلصهم. ولذا كثر الحديث هذه الأيام عن أن الحل في ظهور قائد فذ يأخذ الأمة للرياض العطرة والنور الوضيء. ولم يستطع رسولا الله موسى وأخوه هارون- عليهما السلام- أن يدخلا بيت المقدس ببني إسرائيل. وتفلت الأمر من علي بن أبي طالب مع أنه كان الممثل الحقيقي لمطالب الجماهير.. وقفت ضده الجماهير وهو ممثل العدالة الاجتماعية التي تطلبها، وذلك لجهلهم. وتفلت الأمر من آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد وكان سيدًا. وحين تفكر أكثر في المشهد الحالي تجد أن حصر الخلل في القيادة أوحى لعدد من الطامحين-ولا إمكانات لديهم- إدعاء القيادة وتبعهم الناس لكسلهم وقلة علمهم فكل يريد الخلاص دون أن يشارك أو بأقل مشاركة.

إن التسلسل الطبيعي للتغير هو: إعادة تأهيل لانتاج نخبة متخصصة، تعالج هي الواقع الذي تعيشه، وتفرز قيادة واعية تلتف حولها النخبة والأمة دعمًا وضبطًا.  

وهكذا بدأ النموذج الغربي التخريب في منظومتنا. بالنخبة المتخصصة. التي تأثرت به من خلال البعثات العلمية؛ ثم عالجت-هذه النخبة- الأمة على مهل حتى مكنت لمنظومة جديدة من الأفكار، لا هي غربية كلية ولا هي إسلامية. فكانت البداية من نخبة البعثات ونخبة السياسة الذين تربوا في الغرب (الأمراء الذين ساروا ملوكًا ومتنفذين في الدولة)، وأهم من هؤلاء نخبة النصارى الذين تم إعادة تأهيلهم في الأديرة من خلال الإرساليات الغربية وظهروا في المجالات العلمية والتجارية والسياسية وخاصة بعد قدوم الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي. سيطرت هذه النخبة على المؤسسات الموجودة وأعادت هيكلتها، وأسست جديدًا يتناسب مع ما تم إعادة تأهيلها عليه. كما حدث في منظومة التعليم ومنظومة القضاء، ومنظومة الإعلام والتثقيف (الصحف والرواية والمسرح...). 

وفي كتاب (الشرق الأوسط الحديث) عدد من الأبحاث العلمية كتبها كبار المستشرقين وأشرف على تحريرها المستشرق الشهير (ألبرت حوراني)، تبين هذه الدراسات كيف أن نقطة الهدم في منظومتنا القيمية وحضارتنا كانت من تمكن نخبة فاسدة، أو قل نخبة جديدة، من السلطة والنفوذ الاجتماعي. هذه النخبة عالجت المجتمع والسلطة حتى غيرت.

والفرد النخبوي لا يحتاج لإرشاد.. يعرف طريقه، وبرجماتي بطبعه يتحرك في المتاح وصولًا لهدفه، وفي أسوأ الظروف يكمن حتى يجد مساحة للحركة. وتتجمع النخبة تلقائيًا حسب التخصص وتكون مجتمعًا- أو ظواهر- اجتماعية حسب التخصص، تتحاور، تتنافس، يرشد بعضها بعضًا.

إن كل تغيير يبدأ من فرد له رؤية مختلفة، والأفراد يتحولون لمؤسسة، أو يسيطرون على مؤسسة، ومن ثم يحدثون تحولًا جذريًا. والذين يشترطون وجود رؤية للتغيير قبل البدء (خريطة عمل) بدايةً لا يفكرون جيدًا في تفاصيل التغيير، فخريطة التغيير نفسها تحتاج إلى نخبة متخصصة لصياغتها.

نعم التغيير في غاية السهولة، ولا يحتاج لكثير وقت كي يبدأ في الاتجاه الصحيح: اتجاه إنتاج نخبة متخصصة لا تتأطر بأطر حزبية بل تعمل من أجل هدف عام هو التمكين للدين وخدمة الناس. والأمر في غاية السهولة كل يتجه لنفسه ويحاول إعادة تأهيلها، تمامًا كما يحدث في تنظيم صفوف الصلاة في المسجد، يتم في لحظات مهما كان كثرة عدد المصلين (كالمسجد الحرام والمسجد النبوي) وذلك بأن يهتم كل واحدٍ بنفسه فقط. كل يهتم بنفسه تجاه هدف واحد: إعادة استئناف الحياة الإسلامية من جديد.

نعم الحل لابد أن يبدأ فردي، وفي إطار الأمة والمجتمع. وكل فيما يحسن أو فيما يحب، ومن لا يستطع إعادة تأهيل نفسه فليدعم من أعاد تأهيل نفسه بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فليدع له.

محمد جلال القصاص
5 جمادى الأولى 1440
مساء الجمعة 11 يناير2019