العبودي: الرّائد العميد!

منذ 2019-02-01

لقد كان معالي الشّيخ محمّد بن ناصر العبودي رائدًا لأهل بلده ودينه في بقاع شتّى، ورائدًا للعلماء والأدباء في حقول متنوعة، وفي عالم الرّحلات والسّفر أصبح عميدًا يشار إليه بالبنان

 

لا يخلو أيّ مجتمع من أهل علم وفضل وإنجاز، وتختلف تقاليد الإشادة بهم بين بيئة وأخرى، ومن أسف أن يلحق الإهمال من يستحق التّقدير فلا يناله- إن ناله- إلّا عقب رحيله من عالم الأحياء، وقد نفهم تأجيل الاحتفاء لكنّنا نستغرب من إغفاله تمامًا، فما أسعد العالم والمؤرّخ والأديب حين يرى نصبه لم يذهب هباء؛ وإن كان الأجر المرجو من عند الله الكريم المنّان.

 

وبين يديّ سفر يتلألأ، عنوانه: عميد الرّحالين محمّد بن ناصر العبودي: حياته-إسهاماته-جهوده، تأليف محمّد بن عبدالله بن إبراهيم المشوح، صدرت الطّبعة الثّانية منه عن دار الثّلوثيّة للنّشر والتّوزيع عام ١٤٣٥=٢٠١٤م، ويقع في (٥٦٦) صفحة، ويتكوّن من إهداء فمقدّمة الطّبعة الثّانية، ثمّ تقديم فمقدّمة، وبعدها سبعة فصول فملحق بالصّور وملحق بالوثائق، وقائمة المصادر والمراجع، وأخيرًا الفهرس.

 

أهدى د. المشوح كتابه لوالديه، وأشار في مقدّمة الطّبعة الثّانية إلى أنّ دراسته عن معالي الشّيخ العبودي تعدّ سابقة حتى صارت إمامًا لغيرها، وحظيت الطّبعة الأولى عام ١٤٢٥ بإقبال ونفاد سريع، وإنّما تأنّى المؤرّخ الأديب المشوح في دفع نسخته الثّانية للظّهور كي يجمع المزيد من أخبار العبودي، ويحكم سبكها، ويستبين فيها مدى الجهد وصدق المحبّة.

 

وقال د. حسن الهويمل في تقديمه للكتاب إنّه يقف بين تلميذ متألّق وأستاذ متفوق، وأنّ الكتاب مليء فلا يحتمل الإضافة، وحثّ جيل الشّباب على الاقتداء بالشّخصيّة المترجمة، والحقيقة أنّ الاحتذاء ينصرف لمعالي الشّيخ، وللمؤلّف الذي ذكر في مقدّمته أنّ التّأليف عن العالم الموسوعي العبودي كان أمنية وفرضًا كفائيًا قام هو بشيء منه، وفتح الباب لكلّ من جاء بعده.

 

اختصّ الفصل الأول بالحديث عن الحياة العلميّة والأدبيّة في القصيم وتحديدًا في بريدة، وانتقل الكاتب بنا في بحار لغويّة وبلدانيّة وتاريخيّة وعلميّة، ومن الطّبيعي أن يعين فهم البيئة على قراءة فكر أبنائها، وتحليل شخصيّاتهم، وهو جانب قد يهمله بعض الدّارسين أحيانًا.

 

ومن هذا الوسط المتدين ظهرت قامة جمعت العلم من أطرافه، وشاركت باستحقاق في أكثر فنونه، وجابت أصقاع المعمورة، في مثال حيّ مشاهد على انفتاح ابن القصيم مع محافظته على أسسه وثوابته، والاعتدال أجمل خطّة للحياة، وشخصيّة العبودي مع أمثاله أكبر داحض لمزاعم حصر القصيم في إطار صورة واحدة فيها تشويه وتنفير وظلم.

 

تحدّث المؤلف في الفصل الثّاني عن الحياة الشّخصية للعبودي، فذكر نسبه وميلاده، وبداية انتظامه في الكتاتيب، وسرد شيوخه وزملاءه ثمّ وقف عند صفاته، وأكثر ما يهمّنا أنّ أسرته الكريمة استوطنت بريدة منذ أربعمئة سنة، وأنّه ولد في الثّلاثين من شهر ربيع الآخر عام ١٣٤٥، وكان والده إخباريًا أديبًا نسّابة مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب، بينما كانت والدته نورة بنت عبدالله العضيب قارئة كاتبة!

 

وتزوّج الشّيخ مرّة واحدة فقط، ولم يقتد بابن بطوطة المزواج، ولم يفتتن بجمال البرازيل أو غيرها من البلاد، وكانت قرينته هي كريمة خاله عبدالله، وأنجب منها ثلاثة أبناء وخمس بنات هم: ناصر، وشريفة، وفاطمة، وخالد، ولطيفة، ومريم، وطارق، ومي، وجميعهم مجتهدون في العلم، حاصلون على شهادات مهنيّة، ودرجات عليا، ومسيرة د. شريفة العلميّة لا تخلو من غرابة وإصرار.

 

ودرس العبودي في كتّاب الشّيخ سليمان العمري، ثمّ واصل في مدرسة الشّيخ محمّد الوهيبي، وانتقل للمدرسة الحكوميّة، وتبرز في قائمة شيوخه أسماء كبيرة كالمشايخ عمر بن سليم، وصالح الخريصي، وعبدالله بن حميد، ومحمّد بن إبراهيم، ويتميز بالجديّة، والهمّة في طلب العلم ونشره، مع وفاء وجملة أخلاق سامية عذبة، ومنطق حلو، وألفاظ منتقاة، ونغمة صوت آسرة.

 

أمّا الفصل الثّالث فعن أعماله الوظيفيّة في مكتبة بريدة، ثمّ معلّمًا فمديرًا للمعهد العلمي، وله دور كبير في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة، وفي الأمانة العامة للدّعوة الإسلاميّة، وأخيرًا أمضى ثلاثة عقود في رابطة العالم الإسلامي، وعمره الوظيفي سبعون عامًا صرمها بين العلم والكتب والتّعليم والدّعوة والرّحلات، ومن تدبير الله أنّ كلّ وظيفة شغلها غدت تهيئة لأختها الأعظم منها التي تليها، وصرفته الأقدار عن مواقع وظيفيّة ليصير أعظم رحّالة عربي في عصورنا.

 

ولذلك فالفصل الرّابع عن العبودي عميد الرّحالين، حيث قضى أربعين عامًا مرتحلًا لبحث أحوال المسلمين، وبناء المساجد والمراكز، ونشر العلم بالقرآن والسّنة والدّعوة إليهما، وربط المجتمعات الإسلاميّة بالمملكة، وتلك قوّة ناعمة حقيقة بألّا تضيع. وقد ساعد العبودي في إتمام رحلاته وإنجاحها اهتمام المملكة آنذاك بالتّضامن الإسلامي، واتّساع رقعة التّدين والأعمال الدّعويّة والخيريّة، ومن الّلافت أنّ حاكمًا عربيّا سمع بأنّ العبودي لم يزر دولته؛ فدعاه واجتهد كي يلبي طلبه بالزّيارة.

 

كانت أولى رحلاته عام ١٣٨٤ لتستمر المسيرة، وينتج عنها مئة وخمسون كتابًا هذا غير مثل ثلثها من المخطوط ولما يطبع بعد، وأمّا مؤلّفاته في التّاريخ والبلدان والّلغة والسّير فتجاوزت سبعين كتابًا مطبوعًا، وخمسين مخطوطًا، في انفراد لا يلحق أطراف غباره أحد من المعاصرين، وهي من منشورات دار الثّلوثية العبقة بالتّاريخ وعلومه، وبعضها يصلح رفيق سمر أو سفر كمختصراته الرّائقة عن حمدة، وقني، ومطوع الّلسيب، والملا ابن سيف، وبسبب العلاقة الوثيقة بين الشّيخ والكتب، أصبح يخشى على الكتاب من اليتم الرّسمي كما سمعت منه مؤخرًا!

 

ثمّ نقل المؤلّف ثلاث دراسات تتبع فيها العبودي في عيون الباحثين، وهم محمود رداوي، وعبدالله حامد، ومحمّد المجذوب، وأضاف بعدها قصّة برنامجه الإذاعي الماتع المسلمون في العالم مشاهد ورحلات، وليت أنّ فارسيه العبودي والمشوح يخرجانه من مستودعات الإذاعة، ويتاح في المنصّات الصّوتيّة المزدهرة، كما نشر المشوح نصّ لقاء طويل له مع العبودي، وفيه شيء من غرائب رحلاته.

 

العبودي جغرافيًا هو عنوان الفصل الخامس، وفيه إسهاب عن معجمه حول جغرافيّة القصيم وفكرته المنبثقة من الشّيخ حمد الجاسر والمؤيدة من الملك فيصل، واستقصى الباحث منهج شيخه فيه، ويلّخصه بعنايته بالأسماء ومدلولاتها، واهتمامه بتاريخ المواضع، وهو معجم حي يعتني بالوضع الحالي، ولم يهمل الّلهجات والنّخل، وطريق الحاج العراقي، وطبع في ستّة مجلدات.

 

طاف بنا الفصل السّادس مع علوم العبودي واهتماماته، فهو داعية ومؤرّخ ونسّابة وقاص ولغوي وأديب، ومن ينصت لتفنّن العبودي الحِكائي والرّوائي لا يجفل من اجتماع هذه المواهب في إنسان واحد، وختم الكتاب بسابع الفصول عن تكريم العبودي والاحتفاء به، وما حصل عليه من شهادات وأوسمة وجوائز، ونقل بإسهاب وقائع تكريم الشّيخ في إثنينيّة خوجة، ونادي القصيم الأدبي، وثلوثيّة المشوح، وتوّقف الباحث مع العبودي في قصائد الشّعراء، وسرد حصرًا بمؤلّفات معاليه، وألحق بالكتاب عددًا من الصّور والوثائق.

 

لقد كان معالي الشّيخ محمّد بن ناصر العبودي رائدًا لأهل بلده ودينه في بقاع شتّى، ورائدًا للعلماء والأدباء في حقول متنوعة، وفي عالم الرّحلات والسّفر أصبح عميدًا يشار إليه بالبنان، وتأرز إليه الرّحلة العربيّة والإسلامية المعاصرة، وهو رجل دولة حكيم، وليته أن يعجّل بسيرته مختصرة وفيها تأمّلاته وأفكاره.

 

أمّا الأديب المحامي د. محمّد بن عبدالله المشوح فصنع نموذجًا لتقدير أهل النبّوغ الجديرين بالاقتداء، وقدّم شيخه مكتوبًا ومسموعًا ومترجمًا ومحتفلًا به داخليًا وخارجيًا، وتلكم يد له على العلم والأدب، وفضل سبق إليه بهذه الحزمة من التّفاعل النّاجح، وجعلنا بعد هذا التّجوال الباهر نردّد مع الشّاعر د. عبدالله الوشمي في قصيدته عن العبودي:

 

أتسألني؛ هل زاد حبّي عن الهوى؟ أجل، كلّ حرف في مديحك مذنب!

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض