مدارس اليهود والفرس في العراق

منذ 2019-02-13

وكنا فيما سبق نقرأ ونسمع فيما يخص عراقنا الأشم عن أحقاد اليهود، وأطماع الفرس، حتى رأينا بأم أعيننا وعاصرنا، ما يؤلم قلوب الأحرار، في بغداد الرشيد، وبصرة العلماء

 

للتعليم أثر عظيم على مصير الأمم؛ ولذا جعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء معلمين لأقوامهم، وعلى هذا المنوال درج سادات الناس من المصلحين، فكل دعاة الإصلاح ما بين عالم ومعلم. ولأجل ذلك كانت العملية التعليمية بجميع أركانها محط اهتمام الساعين لنهضة أممهم وبلدانهم، وفي ذات الوقت أصبحت موضع تنازع تيارات فكرية، تسعى لصبغ التعليم برؤاها التي قد لا تصب في مصلحة المجتمع أحياناً؛ وربما تتعارض مع ثوابته وقيمه في بعض الزوايا.

 

والمدارس الأجنبية وافد غريب على بلاد الإسلام، وقد كتب في التحذير منها علماء كبار، ومفكرون أفذاذ، ومع ذلك فلا زالت هذه المدارس تنتشر في شرقنا المسلم، بل إن خريجيها في بعض البلدان مادة شبه حصرية للنخب الوظيفية والثقافية؛ وهذا بلاء تناسل من بلاء، فأحدث شراً مستطيراً في ديار الإسلام؛ حين تتحكم بها “نخب” مفرغة من أي إرث ثقافي وحضاري لها.

 

وبعد عناء ، وجدت كتاباً عنوانه: المدارس اليهودية والإيرانية في العراق: دراسة مقارنة، تأليف د. فاضل البراك، صدرت طبعته الثانية في بغداد عام (1985م)، ويقع في (351) صفحة، ويتكون الكتاب من مقدمة، ثم ثلاثة أبواب تضم اثني عشر فصلاً، فالخاتمة، ثم الملاحق والمراجع التي استهلكت ثلث الكتاب، علماً أن مدة تأليفه بلغت أربع سنوات حسبما ورد في المقدمة.

 

والمؤلف كما قرأت في الانترنت من رجالات الرئيس الراحل صدام حسين، ومن المنتمين لحزب البعث العربي، وقد أفسد كتابه بحشر الثناء على الرجل والحزب كلما سنحت الفرصة، أو يعتسفها إن لم تسنح! وليت أن قرع طبول المديح الممجوج يبتعد عن ساحات العلم والمعرفة. ومع ذلك فلم تنفعه المبالغة في الإطراء؛ إذ أعتقل ثم أعدم عام (1993م)، بعد أن كان مديراً للأمن، ثم رئيساً للاستخبارات، وبعد مقتله تزوج برزان التكريتي من أرملته الشابة حينذاك جنان الحديثي.

 

عنوان الباب الأول: المدارس اليهودية، وتحدث المؤلف في أول فصل منه عن تأسيس المدارس اليهودية وتطورها، واستعرض قصة الوجود اليهودي في العراق حتى غدوا أقلية مهمة سواء تحت الحكم العثماني، أو إبان الاحتلال البريطاني، وفي الفترة الملكية. وحين احتلت بريطانيا بغداد في 17 مارس عام 1917م أقامت مدارس الإليانس اليهودية حفل تكريم للغازي الجنرال مود، وحضرته نساء يهوديات سافرات، وقال أحدهم مبتهجاً: نساؤنا لسن في حاجة إلى الحجاب تحت الحكم البريطاني!

 

ومن عطف الإنجليز على يهود العراق أن أوصى برسي كوكس بهم خيراً، وأصبح اليهود وزراء في عدة حكومات متعاقبة، ومثلوا العراق لدى الدولة العثمانية، وفي المؤتمرات الدولية، ومن الموافقات أن تأسيس أول محفل ماسوني في البصرة عام 1918م جاء بمبادرة من عساكر الإنجليز، ثم تبعه محفل آخر في بغداد.

 

ويعود تاريخ إنشاء أول مدرسة يهودية في بغداد إلى عام 1865م، وكانت هذه المدرسة تعنى كثيراً بالدروس الدينية، كما عنيت كغيرها بتعليم اللغات الأجنبية مثل الفرنسية والإنجليزية، ولم تغفل عن اللغة العبرية كي يتقنها الطلاب فيتصلوا بكتبهم المقدسة، ويستعدوا للهجرة، وبعد ثمانية وعشرين عاماً أسست أول مدرسة يهودية للبنات عام 1893م.

 

ومما ورد في حكايات التأسيس أن عدداً من أثرياء اليهود وقفوا على هذه المدارس، وبعضها كان مختصاً بدروس المحاسبة والمالية ومسك الدفاتر، واعتنت جميعها باللغات الأجنبية؛ ولذا تخرج منها كبار موظفي الماليبة والتجارة والنفط والاقتصاد في العراق، وانصرف بعضها لتعليم المهن اليدوية والحرف والصناعات خاصة للبنات.

 

كما أن مدارس اليهود نشطت كثيراً في الدعاية للصهيونية؛ بل كانت بيئة خصبة لها، وألحق بسبع منها معابد لليهود، وتوسعت بعضها في رياض الأطفال حتى يغرسوا ثقافتهم في نفوس الأطفال الغضة مبكراً، ومن المثير أن بعض هذه المدارس كانت مستودعاً للأسلحة والذخائر، أو مكاناً للتدريب العسكري الخفي!

 

وسعت المدارس لتأهيل طلبتها للكليات المهمة في جامعات العراق؛ فمن ضمن عشرين طالباً قبلوا في كلية الطب بجامعة آل البيت عام 1927م كان منهم 07 مسلمين، و08 يهود، و05 نصارى، والأرقام لا تعكس نسبة التمثيل السكاني ألبتة. ومن اللافت أن الطلبة الإيرانيين كانوا يفضلون الالتحاق بمدارس اليهود، ومارس بعضهم أعمالاً تجسسية مزدوجة لصالح طهران وتل أبيب! واقتبس المؤلف معلومات من كتاب ألفه اليهودي شموئيل سجف عام 1983م عن العلاقات الأمريكية اليهودية الإيرانية، وبالتالي فهو سابق على كتاب التحالف الغادر المشهور والفاضح لذات العلاقات، والذي كتبه إيراني أمريكي.

 

وتطرق البراك في الفصل الثاني لوسائل المدارس اليهودية وغاياتها، وذكر بأن مناهج الدراسة ومفرداتها لم تلتزم بالأنظمة العراقية، وخرق القائمون عليها تعليمات الحكومة، وسعت هذه المناهج لتوسيع الثقافة العبرية، وتأجيج العداء للعرب والمسلمين، وترسيخ فرية الحق اليهودي في فلسطين، والثناء على مواقف ملوك الفرس عبر التاريخ تجاه اليهود! وغلظت هذه المدارس عقوبة أي طالب يتحدث بالعربية، وسعت لإضعاف روابط الطلاب مع بلدهم، مع العناية بالتثقيف العسكري وفنون التجسس.

 

وحرصت المدارس على إبقاء الوعي اليهودي حياً، معتبرة أن التعليم يعد عملية إنقاذ من الوهن الروحي، والإضمحلال الثقافي. ومع بخل اليهود المتعارف عليه؛ إلا أنهم صرفوا أموالاً طائلة لخدمة العملية التعليمية الخاصة بهم، وكان لليهود نفوذ تجاري كبير في حواضر العراق الأساسية: بغداد، والبصرة، والموصل، وبلغت نسبتهم نصف عدد تجار العراق تقريباً!

 

وخصص د.فاضل الفصل الثالث لاستعراض إسناد المدارس اليهودية للحركة الصهيونية، حيث كانت المدارس قاعدة اجتماعية وفكرية للتوجه الصهيوني في العراق، وكانت المدارس مكاناً لصنع القنابل التي ألقيت على تجمعات اليهود، وعجلت هروبهم لفلسطين! وأشار المؤلف إلى أن اليهود قدموا العون الكامل لجيش بريطانيا حين احتل البصرة، علماً أن عدد يهود العراق حينذاك لم يبلغ مائة ألف نسمة. وإذا كان رجال يهود قد فعلوا ما بوسعهم لصالح الحركة الصهيونية، فإن نساءهم الجميلات قد فعلن ما بوسعهن كذلك؛ حتى غدا لبعضهن نفوذ واسع في القصور الملكية، وسهلت سكرتيرة وزير الداخلية هجرة قومها اليهود من العراق لفلسطين.

 

الباب الثاني عنوانه: المدارس الإيرانية، وسرد الكاتب شيئاً من تاريخ العداء الفارسي للعراق، وسجل الوجود الإيراني في بلاد الرافدين، ومن عجيب ما نقله أن الحاكم البريطاني برسي كوكس لما عبر حوض الفرات طلب ثلاثة من العلماء مقابلته، وهم اليزدي النجفي، والمازندراني الكربلائي، والميرزا تقي السامرائي، وحين قابلوه أعربوا لهم عن قلقهم من موقف بريطانيا تجاه إيران، وليس تجاه بلدهم العراق الذي كان حينها يقع تحت حراب الإنجليز! بل أرسل ملالي إيران في العراق التهنئة لملك الإنجليز على احتلال جنده العراق، وما أعظمها من خيانة.

 

وفي عام 1924م ضغطت حكومة إيران على العراق لمنح الجالية الإيرانية وعددها ثمانون ألفاً حقوقاً استثنائية، وحظيت هذه الجالية بعطف بالغ من المحتل الإنجليزي؛ لدرجة إرسال البرقيات الرسمية من حكومة الهند بضرورة انتهاز أي فرصة لاسترضاء الفرس في العراق، وتسلم بعض الملالي الرواتب والأعطيات من كوكس! وكان سيء الصيت بلفور حريصاُ على إيران وفرس العراق؛ تماماً كحرصه على اليهود! ومما ذكره د.البراك، وهو فن يجيده الساسة؛ أن الشاه البهلوي نكل بملالي إيران؛ لكنه كان حريصاً على ملالي العراق وعتباته المقدسة؛ فهو فاتك في قم، وناسك في النجف!

 

ويرجع تاريخ إنشاء أول مدرسة إيرانية في العراق إلى عام 1905م، وكانت هذه المدارس مكاناً لتدريس الفرس والأفغان والهنود والباكستانيين ومن يسميهم المؤلف بذوي التبعية الإيرانية هروباً من قول شيعة العراق العرب! والغريب أن عدداً من هذه المدارس كانت مختلطة بين الجنسين مع طابعها الديني، وكان بعضها يستخدم مباني المدارس اليهودية بعد انتقالها إلى مباني جديدة، ويفوق عدد مدارس إيران في العراق نظيرتها العراقية في إيران.

 

وخالفت المدارس الإيرانية الأنظمة المعمول بها في العراق، فاستخدمت اللغة الفارسية، والتاريخ الإيراني، وتجاوزت حدود اللياقة الدبلوماسية في التعامل الرسمي، وعلقت صور الشاه وعائلته الأحياء منهم والأموات؛ ولم ينقص سوى صور طليقاتهم حسبما ورد في تقرير عراقي تهكمي عن هذه المدارس عام 1970م.

 

ومثلما فعلت مدارس اليهود، حاربت مدارس إيران لغة القرآن، وعاقبت المتحدثين بها، ومجدت مناهجها حضارة فارس، وانتقصت العرب وحضارتهم. والغريب الذي نبه إليه المؤلف أن عدد المدرسين أكبر بكثير مما تحتاجه تلك المدارس، وبعضهم لا يحمل شهادات دراسية، وتنقلاتهم بين المدارس كثيرة جداً! ولا تفسير لذلك إلا أن مهامهم تجاوزت التعليم إلى التجسس والتجييش والتدريب.

 

ومن مكر إيران أن جعلت سجلات المدارس باللغة الفارسية حتى يصعب على المراقبين متابعتها، هذا مع ضعف المتابعة، وكثرة التجاوزات المالية والإدارية والتعليمية، وفوق ذلك مضايقة مدارس العراق في الأحواز وغيرها، وانكشاف علاقة بعض معلمي المدارس الإيرانية بمخابرات إيران، فضلاً عن تغلغل خريجيها في الأعمال المصرفية؛ حتى صاروا كبراء موظفي مصارف العراق.

 

وكما كان لليهود والفرس علاقات تعليمية متبادلة، فقد وثقوا علاقاتهم التجارية، ومارسوا العمل التجاري مع بعضهم البعض كشركاء أو أجراء لدى تجار يهود، وسيطروا على عدة أسواق وسلع، وتلاعبوا بالعملة الصعبة وتنقلاتها؛ وحين غادر اليهود العراق عام 1950م خصوا التجار الفرس دون غيرهم بأولوية شراء المتاجر اليهودية.

 

وحمل الباب الثالث عنوان: مقارنة بين المدارس اليهودية والإيرانية، وتناول أدوارها التخريبية، واستخدامها المدارس للتحريف والتشويه، وتجاهل التعليمات الرسمية، والسعي الدؤوب لخدمة الحركة الصهيونية، ونفع الحكومة الإيرانية أيا كان شكلها ملكية لادينية أو حكومة الملالي، ومن عظم مكرهم أن مدارس اليهود جعلت العراق جزءاً من إسرائيل الكبرى، وصيرت مناهج مدارس إيران العراق ضمن الإمبراطورية الفارسية.

 

ومن اللافت أن الروح الثأرية سمة بارزة في هذه المدارس وطلابها، وأن مخرجات مدارس اليهود والفرس تسللوا للأحزاب الشيوعية والكردية، وأحزاب الأقليات عموماً، سواء منها ذات النهج السياسي، أو الأذرعة المسلحة. ولم تخف الأحزاب الكردية العلمانية علاقاتها الوثيقة مع اليهود من جانب، ومع الفرس من جانب آخر، وكان لليهود والفرس حضور قوي في بعض الأحزاب كما في ملحقات الكتاب.

 

ومن مشتركات مدارس الفئتين التركيز على الطائفية، والاقتصاد، والحرف والصنائع، ونصرة الأحزاب خاصة التي تجيد البلبلة، ويسهل اختراقها وتوجيهها، ومن أعمالها نزع الولاء للبلد وجعله فئوياً، وإفساد عقيدة المجتمع وأخلاق الناس بكل وسيلة متاحة ولو فاضت قبحاً.

 

وختم المؤلف كتابه بدعوة ناصح لضرورة مراجعة وضع المدارس الأجنبية في بلاد العرب، وتتأكد دعوته مع سيطرة السفارات الأجنبية بمدارسها وملحقياتها على عدد من بلاد المسلمين دونما رقيب يغار سواء من منطلق ديني أو وطني أو قومي. ثم أضاف ملحقات خاصة بقوانين تخص اليهود، وكشوف أسماء الفرس واليهود الملتحقين بالأحزاب والأعمال المهنية والتجارية، ثم وضع صوراً للمدارس وطلابها وحفلاتها.

 

وكنا فيما سبق نقرأ ونسمع فيما يخص عراقنا الأشم عن أحقاد اليهود، وأطماع الفرس، حتى رأينا بأم أعيننا وعاصرنا، ما يؤلم قلوب الأحرار، في بغداد الرشيد، وبصرة العلماء، وموصل الشهيد نور الدين، وهو بلاء قديم اتخذ من التعليم والتجارة والإعلام سبيلاً لتحقيق أغراضه؛ ولم يكتف بذلك؛ إذ سيرت لها الجيوش، واستبيحت بلاد كريمة؛ حتى غدت فقيرة خائفة؛ وهي الثرية بخيراتها، وعسى أن يبعث الله من ركام هذا الذل من يرفعه عن أمتنا وبلاد المسلمين، ولا مناص لتحقيق هذا الهدف من جعل التعليم منطلقاً لإيقاظ الوعي، والانطلاقة نحو رفض هذا الذل والخزي بالعلم، والقوة، والإيمان.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف