قصة يوسف عليه السلام في تجميع أسرته:المقال الثاني

منذ 2019-03-18

«رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ» . " رواه مسلم


{بسم الله الرحمن الرحيم }

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
فقد سبق وأن تكلمت في المقال السابق في قصة يوسف عليه السلام كيف كاد له إخوانه وكيف أوقعوه في غيابت الجب مع أن عناية الله ترعاه, وقد أوحى الله إليه أنه سينبِّأنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون, وكيف صبر لهم أب الأسرة واستعان بربه عزَّ وجلَّ, ولكن سأنبِّه هنا في هذا المقال أن فضيلة تجميع الأسرة الصغيرة من المجتمع إشارة إلى فضيلة تجميع الأسرة الكبيرة للمسلمبن.
فبلا شكٍ إذا كانت لبنة البيت قوية ومتينة فسيكون البيت قويا ومتينا لا محالة , أما إذا كانت لبنة البيت ضعيفة هشة فسيكون البيت لينا ضعيفا هشاً.
وهكذا إذا كانت لبنات المجتمع أي أسر المسلمين ضعفاء لا أقوياء بالتوحيد والإيمان والأعمال الصالحات فسيكون المسلمون المجتمعون ضعفاء لا قيمة لهم أبدا في اجتماعهم لو اجتمعوا أصلا وأمكن تماسكهم.
ثم أخذ المسافرون يوسف – عليه السلام - فاشتروه بثمن بخس من رجل عزيز فضمه إلى أسرته قائلا لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون.
وقد جرت سنة الله في القرآن الإيجاز ولكننا نرى أن الله سبحانه قد أطنب هنا في وصف شراء يوسف عليه السلام ففصَّله تفصيلا , ولذلك لم يقل وشروه بثمن بخس فحسب بل قال أيضا دراهم معدودة بل قال وكانوا فيه من الزاهدين أي وهذا ما يدعوا للتعجب منه مع قيمة يوسف العظيمة عند الله وكل هذا إنما يُظهر عظمة يوسف عليه السلام ولو علم المسافرون قيمته لاحتفظوا به ولما شروه إلا بملأ الأرض ذهباً إن استطاعوا لكونه أكرم الناس. 
وقد وقع يوسف عليه السلام في الأسر والعبودية وهو أكرم الناس حيث هو نبي كريم وأبوه نبي كريم وجده نبي كريم .
وهذا ابتلاء من الله عظيم مما يسحتق أن يُستعان بذلك بعد الله تقوى الله وصبرٌ عظيم, وطبعاً وهذا أصعب للشخص من السجن يقضي فيه مدة معينة ثم يخرج, إذ يوم واحد اهدرت كرامتك أهون لك حبسك سنة بدون إهانة او سنين فكيف أن تمضي سنين وسنين وأنت في هذه الحالة.
وسنة الله جارية على الأرض والغلام مكرَّم على بركة الله من العزيز أي رجل ذو منصب رفيع لم يولد له فيتخذه ولدا عنده وعين الله ترعاه ويعلمه الله التأويل وسيمكنه في الأرض والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ويستفاد من ذلك من الدروس أن لا يحقر أحد لجنسه أو لقة ماله أو لغيره من الأحوال فعن أبي هريرة رضي الله عنه " «رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ» . " رواه مسلم رحمه الله يرقم 2854 
فقد أكرمه الله في نهاية القصة حيث جعله الله على خزائن الأرض بما علَّمه الله من تأويل الرؤيا ولتقواه ولصبره على الطاعة وعن المعصية وعلى المصائب ولكونه من المحسنين, { {وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } } [ النحل: 30 ] 
أما ما جرى بينه وبين امرءة العزيز فهو أيضا ابتلاء آخر عظيم, وإنما يظهر لمعان الذهب وصفائه بعد تفتينه وتعريضه على النار, فقد كان معدن يوسف عليه السلام الداخلي من جوهرة ثمينة. 
فقد ظهر ذلك عندما طلبته امرءة العزيز وغلقت عليه الأبواب وقالت هيت لك ولكنه استعان مع صبره وتقواه الأمور الآتية :-
أولا: قال معاذ الله . نعم لا يستحق مثل هذا الموقف الرهيب إلا بالاستعصام بالربِّ جل وعلا وحده إذ هو المنقذ وحده من كل أمرٍ عسيرٍ.
وقد أقرت له امرءة العزيز له ذلك حيث قالت. { {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} } [ يوسف: 32 ]
ثانياً : الوفاء لربِّ البيت لقوله : { {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } } [ يوسف: 23 ]
وقد سبق وأنِّي قلت : أن معدن يوسف عليه السلام من جوهرة ثمينة فهو كريم ووفيٌّ في نفس الوقت , فقد أحسن سيده مثواه فكيف يلوث فراشه وهو أكرم بهذا الكرم العظيم الباهر بل جعله بمثابة إبنه فكيف إذا يتعدى عليه وعلى حرماته.
ثم قال { {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } } [ يوسف : 23 ]
وهذا هو درسٌ عظيمٌ للخائنين والغاشين ولكل مخادع ظالم بأنه لا يفلح في دنياه ولا في أخراه كما لا ينعم بالحصول بكل ما هو مرغوب وبالنجاة من كل ما هو مرهوب .
أما قوله تعالى { {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } } هناك ما يسمى هواجس النفس والخطرات وهي التي لا يؤاخذ بها خصوصاً إذا لم يكن معها حركة وإرادة للشيء من القلب أو من الجوارح أما الهم فهو الذي معه حركة إلى الفعل فلو أمسك ولم ينفذ ما قصده فلا ويؤاخذ به إن شاء الله كما في الحديث الصحيح عن الأحنف بن قيس : " «خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هذا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يا أَحْنَفُ؟ قالَ: قُلتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يَعْنِي عَلِيًّا، قالَ: فَقالَ لِي: يا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: إذَا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ قالَ: فَقُلتُ: أَوْ قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، هذا القَاتِلُ، فَما بَالُ المَقْتُولِ؟ قالَ: إنَّه قدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» .
[أخرجه البخاري رحمه الله (6875)، ومسلم رحمه الله (2888)] واللفظ له .
أما قوله تعالى { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فقد قال الشيخ السعدي رحمه الله : " فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة " انتهى .[تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن ص: 396 ]
قلت:وأرى الصواب – والعلم عند الله - أن هذا البرهان هو كما قاله الشيخ رحمه الله, ويؤيد هذا القول بأن التقوى والصبر الذي أنقذه الله بيوسف عليه السلام عن المرءة جاء دليله في آخر السورة حيث قال { {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } } [ يوسف : 90 ]
فالتقوى والصبر هما الصفتان اللتان أنجاه الله به عليه السلام من المصائب كلها ورزقه بكرامة الله له في الدنيا والآخرة, فما أعظمهما من صفتان!.
فقد أوصى الله بهما المسلمين مرتين في سورة آل عمران ومرة أنقذهما بهم هلاك محقق وأمدهم بملائكته كما قال تعالى { {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} } [ آل عمران: 120 ] وقال تعالى { {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } } [[ آل عمران: 186] وقال تعالى { { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [[ آل عمران: 125)] 
والله أعلم والهادي إلى سواء السبيل.
الفقير إلى رحمة ربه وعفوه
عبد الفتاح آدم المقدشي