نعي الصّحافة الورقيّة!
فبسبب تناقص عدد القرّاء، تقلّصت الإعلانات، فانخفضت الإيرادات بينما زادت المصروفات التّشغيليّة، وزاد من هول الخطب أنّ المنافس الإلكتروني يزداد متابعوه، ولا تتأخر أخباره، ومصاريفه قليلة بالقياس
لا يمكن فهم الحاضر، ولا استشراف المستقبل، دون معرفة الماضي بعمق، ووعي سيرورة متغيّراته سلبًا وإيجابًا، ومن يغفل أو لا يفعل، فليس بكثير عليه لو وجد نفسه في عراء بعد أن كان مستورًا، ولذلك كان الأمر الرّباني لعباده بالسّير في الأرض، والتّدبر في الأمر، كي لا تدهمنا مثلات أصابت غيرنا، وأودت بهم.
وبين يديّ كتاب اقتفى هذا الطّريق الرّشيد في شأن إعلامي، عنوانه: الإعلام القديم والإعلام الجديد: هل الصحافة المطبوعة في طريقها للانقراض؟ تأليف: د.سعود صالح كاتب، صدرت الطّبعة الثّالثة منه عام (1439=2018م)، عن خوارزم العلميّة للنّشر والتّوزيع، ومجموع صفحاته (380) صفحة، وفي مستهلّه شكر لمجموعة من أهل الاختصاص، وأمّا الإهداء فلوالديه وأخيه رحمهم الله، ثمّ لعائلته حفظهم الله.
يتكوّن الكتاب من مقدّمة وثمانية فصول فالمراجع، ويبدو من المقدّمة اهتمام المؤلّف منذ القدم بهذا الموضوع، ويروي أنّه حضر مؤتمرًا في أمريكا عام (1996م) حول الصّحافة، ولخص المؤتمر في كلمة قالها ريتشارد ديفيد خلال جلساته بأنّ الصّحافة لم ولن تواجه من الأخطار مثل ما تعانيه هذه الأيّام، وتلك كلمة استشرافيّة بصيرة، إذ كانت الصّحافة الورقيّة قويّة آنذاك.
وللكاتب مقالة منشورة عام (1994م) في مجلّة المبتعث انبثق منها سؤال فحواه: هل ستصبح الصّحافة المطبوعة جزءًا من الماضي؟ وصدق حدس كاتب العرب أوّلًا، ثمّ وقع ما خشيه كاتب الغرب ثانيًا، فبدأ صرح الصّحافة المطبوعة يتهاوى شيئًا فشيئًا في أمريكا والعالم من خلفها.
فبسبب تناقص عدد القرّاء، تقلّصت الإعلانات، فانخفضت الإيرادات بينما زادت المصروفات التّشغيليّة، وزاد من هول الخطب أنّ المنافس الإلكتروني يزداد متابعوه، ولا تتأخر أخباره، ومصاريفه قليلة بالقياس، وسوق الإعلان تسرع إليه، وبالتّالي صارت الصّحافة المطبوعة مثل شمعة تذوي ولا قيمة لها أمام كبرياء الكهرباء!
عنوان الفصل الأوّل تطور الإعلام الجماهيري، وفيه لمحات تاريخيّة سريعة عن التّطورات الإعلاميّة منذ بدء الطّباعة حتى ولادة الانترنت، وهو مدخل مهم للفصل الثّاني الذي يبحث الإعلام الجديد وأشكاله ومزاياه والتّغييرات المتلاحقة فيه وصولًا للخدمات السّحابيّة والألياف ورقمنة الإذاعة والتّلفزيون، وشيوع النّسخ الإلكترونيّة من الكتب والسّينما وغيرها، وهو ثاني أطول فصل في الكتاب بعد الثّامن.
ويقف الفصل الثّالث مع الانترنت بتفصيل فيه تعريفات وإجابات عن ثلاثين سؤالاً تعدّ الأكثر تداولًا في الحوارات حول موضوع الفصل، ومن ضمنها عرض تاريخي، ومعلومات تقنيّة وإحصاءات، وينتقل مؤلّفنا بعده للفصل الرّابع عن التّجارة الإلكترونيّة، وهي تكاد أن تنافس أختها الكبرى المتاجرة على الأرض كما فعلت الصّحافة، وهذا الفصل مهم لمن ينظّم التّجارة أو يمارسها أو يعتني بتحليلها، وفيه جزء عن الحماية والاختراق.
أمّا الفصل الخامس فيشرح خدمات الاتّصال اللاسلكي من النّداء الآلي إلى الأقمار الصّناعيّة منخفضة المدار، والأجيال المتوالية من شبكات الاتّصال، ويخلق ما لا تعلمون، وكم ترك الأوّل للآخر. ويعود بنا د.كاتب في الفصل السّادس إلى عالم المطبوع من خلال الإعلان والتّوزيع ونظريّة الابتكارات المدّمرة، ولأنّ الإعلان هو أهم مصدر دخل مالي للمطبوعات تقاوم به غلاء الورق، وارتفاع تكلفة التّشغيل، فإنّ أيّ ضرر يصيبه يجعل الصّحف الورقيّة تعيد النّظر في واقعها؛ وترضخ لمزاج السّوق، على إثر ترنّحها أمام الانترنت بعد أن نجحت في البقاء مع الإذاعة والشّاشة أجيالًا متعاقبة، لتبدأ مسيرة التّحوّل معلنة حرصها على البيئة والغابات، وقد تدرك مرادها أو يتجاوزها تيّار الزّمن!
الإعلان على وسائل الإعلام الجديد هو عنوان الفصل السّابع، وله وقع كئيب على الصّحافة المطبوعة، فالمعلن يستهدفه موافقة لانكباب النّاس على الانترنت، ومن يعرف الإعلام لا يخفاه مركزيّة المال فيه بدرجة أقوى من أيّ شأن آخر، فلا يصمد في عالم الإعلام إلّا وسيلة تؤوي إلى ركن شديد مهما بدا أنّها تسبح وحدها دون رافد.
ويختم المؤلّف كتابه بالحديث في الفصل الثّامن عن الصّحافة والإعلام الجديد، ويجتهد في الإجابة عن أسئلة تدور في أذهان مسؤولي الصّحف، وما هو أفضل تصرّف ممكن، وهل يسوغ دمج النّموذج التّقليدي مع الجديد سواء في وسائله أو في أشخاصه؟ ويعقّب باستشراف مستقبل الإعلام، مؤكدًا رأيه منذ ربع قرن، وخلاصته نعي الصّحافة الورقيّة المطبوعة؛ لأنّها على وشك الأفول والتّلاشي، مع تفريقه بين الصّحافة التي ستبقى، والمطبوع الذي يبحث عن مدفنه تحت ضربات الانترنت.
وفي آخر هذا الفصل أورد د.سعود آراء مجموعة من ذوي الخبرة والاختصاص، وبعضها كان تعليقًا على طبعة قديمة من الكتاب قبل سبعة عشر عامًا، ومن الخبراء من كان له رأي قديم يبدي فيه شكوكه بنهاية الصّحافة المطبوعة، وغدا الآن يتشارك مع المؤلف في نعيها أو الخوف على مصيرها، وهذه محمدة تحسب للدّكتور ساعد العرابي الحارثي، وللدّكتورة ناهد سعيد باشطح، فالعودة عن الرّأي باقتناع محض لا ضير فيه.
كما أورد المؤلّف تعقيبًا متينًا للدّكتور عبدالله علي بانخر، وفيه انتقاد العالم لرأي المؤلّف دون مخالفته تمامًا، وإنّما يرمي د.بانخر للتّخفيف من حدّة الرّأي، فلرّبما بقيت المطبوعة دون اختفاء ولكن بضمور، فالمسرح باقٍ مع وجود غيره، وكذلك الرّسم والكتاب الورقي، ومن الموافقات أّن نعي المطبوع ورد في كتاب مطبوع!
نحن في عالم يكاد أن تصبح فيه الإنترنت حقًا من حقوق الإنسان حتى في الأماكن النّائية، فهنيئًا للمهمّشين والمحطومين الذين انقطعت أصوات سابقيهم دون أن تجد لها سامعًا بسبب سلوك حارس البوابة على الصّحافة الورقيّة الفئويّة، أو لمحدوديّة تأثيرها، وصعوبة وصولها لأماكن بعيدة، ومن الضّرورة أن يكون هذا الفتح سببًا يمنحنا القدرة على مراكمة القوّة النّاعمة النّاصرة لمجتمعنا وبلادنا وثقافتنا.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
- التصنيف: