سبب تراخي الأعوان في الخير...!
كان الفاروق عمر رضي الله عنه إذا اجتمعوا قال لأبي موسى رضي الله عنه وصوته حسن: ( ذكّرنا ربَّنا )
• قلما تنشأ المبادرة الذاتية للخيرات، أو قل إن حجمها قليل في أزمنة الإلهاء والعبثية، بالنسبة للعمل الجماعي، والتحرك العام، والعقل الجمعي، فهو دافع وحافز لكل مستثقل ومتباطئ.
• ومن ثم كانت العبادات الجماعية كصلاة الجماعة مثلا، أكثر نشاطاً وتجددا من العبادات الفردية والخفية، كقيام الليل وصدقة السر...!
• وقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ( « أيام الصبر» ) في آخر الزمان، ويروى فيه: ( «إنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون» ). حينما عظّم شأنهم وذكر مضاعفة أجرهم إلى (خمسين) صحابيا..!
• فالأعوان محضن اجتماعي فعال، وبيئة خِصبة للعمل والتشجيع والتثبيت وشيوع الخيرات، وقد ينتهي شأنهم لعمل مؤسسي منظم، إذا تم التشاور والتنسيق وحسن الترتيب، قال تعالى:( {وتعاونوا على البر والتقوى} ) [سورة المائدة] . وسئل سفيان بن عيينة عنها، فقال: ( هو أن تعمل به وتدعو إليه، وتعين فيه وتدل عليه ) . ( حلية الأولياء ٧ /٢٨٤ )
• والأعوان مصدر للتذكير والتنبيه والتصحيح، والإعانة والتبصير والتسديد، والتثبيت..!
• وفِي آخر الزمان تكثر الفتن، ويقل الذكر، ويموت العلماء، ويكثر الزنا والشرور، ويُرفع العلم، ويشيع الظلم، ويحاصر الأخيار، ومن ثم تقل أسباب العون والمؤازرة ، بخلاف الزمن الأول، فإن تعاون أهل الخير وتواصيهم كان حاضرا، وهو مما يشحذ ويعين ويسدد، وكان شعارهم( «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله» ... ) وقولهم الشهير التربوي : ( تعال بِنَا نؤمن ساعة ) وكان الفاروق عمر رضي الله عنه إذا اجتمعوا قال لأبي موسى رضي الله عنه وصوته حسن: ( ذكّرنا ربَّنا ) ...!
• ولذلك يحتاج المؤمن إلى استدامة الثبات، والعمل على تقويته والمحافظة عليه بالتزام الفرائض، والبعد عن المناهي، والمسارعة في الخيرات ، والاجتماع بأهل الخير والتقوى، ولو قلّوا، وأن لا يركن إلى نفسه وهمته، وكما قال تعالى في شباب أهل الكهف ( {إذ قاموا فقالوا ربنا ربُّ السموات} ..) وتفضل عليهم بقوله ( {وربطنا على قلوبهم } ) أي صبرناهم وثبتناهم، والربط والثبات مقدمات تعتمد الصدق وحسن العمل وأخذ زمام المبادرة والقيام بالحق وتصحيح النية ..!
• ومتى ما توحد أهل الإيمان، وقوّوا جانبهم، وتلاقوا متحابين متآزرين متزاورين، كان ذلك أدعى لاستقامتهم واتحاد صفوفهم .
• وأما الأسباب المؤذنة بقلة أهل الخير، وقلة تعاونهم فتكمن في الآتي :
• تراجع الناس عن النهج السوي: والصراط المستقيم ، وتعلقهم بمناهج باطلة، وطرائق منحرفة، بدعوى الترويح والانفتاح، قال تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتَفرّقَ بكم عن سبيله ) سورة الأنعام . وأن التمسك تشدد، والمحافظة قيد، وقد تنقلب إلى ضدها، فيعتقدون أن الخروج قليلا لا يضرهم، وأن ترك السنن ينجيهم ويجعلهم مدنيين متنورين، فتقع الكارثة التدينية،،،! .
• موت العلماء والأخيار وتناقصهم: ومن وجد من الأخيار انغمس في الدنيا والدنايا، وساءت روحه، وترخص كفلان وفلتان، حتى يصنعوا كتابا في فنّ الترخص، والاندماج بالآخرين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله..! ( « حتى إذا لم يُبقِ عالما اتخذ الناسُ رؤوسا جهالا» ..)
• غلبة الهوى والغفلات: الناتج من اتساع الشهوات ومروجيها، قال تعالى:( {فلا تتبعِ الهوى فيُضلك عن سبيل الله} ) [سورة ص] . علاوة على قلة الخير، وتجفيف المنابع الإيمانية، والعمل على صناعة تدين هش، واستقامة مفرغة من المحتوى الشرعي السليم، قال تعالى( {فاستقم كما أمرت} ) [سورة هود] . ويود الأعادي استقامة جوفاء، تكتفي بالريحة والشكل والدعاية، ولا تهتم بمضامين الوحي وتعاليمه...!
• تباعد الصلحاء والأخيار وتنازعهم: وانكفاء بعضهم على الذات والمكتبة، ونسيان روابط التآخي والتناصح والتآزر والتذاكر قال تعالى: ( {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } ) [سورة العصر] . ومثل هذا التواصي كاف في ردم الهوة، وتقوية اللقاء، وإيجاب التلاحم والتضامن( {إنما المؤمنون إخوة } ) [سورة الحجرات] .
• ضعف البعد العلمي والدعوي: فلا علم مطلوب، ولا درس مقروء،..! ومطالعة هزيلة، ليست بمعهودة ولا معروفة!! وفراغات مبدّدة، وساعات مضيعة، علاوة على انعزال ذاتي، وترك للدعوة والنصح للآخرين، وهجران للإمامة، وإعراض عن الخطابة...! مع تمكن بعضهم، وبراعة فئات منهم..! ولكنه الضعف والخجل، والخوف والانهزام ...! وقد قال تعالى:( فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين ) سورة آل عمران .
• غياب منبر الجمعة: عن الاستدعاء والترغيب المشعل لجذوة الإيمان والعمل، بحيث يتولاه بعض المحبطين، فيُحبط بطرحه، وينكأ ببروده، ويؤثر بانهزامه، فلا تسمع إلا مواعظ خاوية، وخطباً هازلة ، وتقريرات باردة، ليس منها ثمرة إلا إبراء الذمة، وتحقيق اللمة والجمعة، والله المستعان، ويعتقد بعضهم أنه لا يحمل تبعة العمل الجاد للدعوة، وأن الحل النهضوي والإصلاحي بيد الجيل القادم، المشابه لجيل الصحابة والسلف الكرام ، على نسق المثل الصيني القائل: أن الأخطاء الحالية من صنع الجيل السابق، وسيكون حلها على أيدي الجيل اللاحق...!
• إهمال نتائج العمل المؤسسي : والأهلي التضامني، والذي دأبه تقوية الأواصر، وبناء اللحمة، وسد الثغرات، ومنع الاختراقات . والحديث المشهور ( «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم» ..). ويعرّف بعضهم ببعض، ويظهر القدرات والكفاءات، ويصنع المواهب والطاقات .
• ضعف البنية التربوية: المرسخة لمفاهيم الإسلام وقيم العمل والثبات على الطريق في الزمان الصعب..! والوحيان العظيمان اذا طرحا بالطريقة الشرعية المنتجة أورثا القيم العزيزة، والثمار اليانعة،
• شيوع التفكير السلبي الفرداني: الموحي بالابتعاد، والعيش منعزلا، بلا قيمة أو هدف، أو إثارة، خشية البلاء، أو تخوفا من القادم، وشبح المستقبل الضبابي، أو هروبا من حمل المسؤوليات ، ولهذا تكثر أعذاره، وتتنوع تخلفاته، وقد قيل: ( قد يجد الجبان ستّةً وثلاثين حلّاً لمشكلته، لكن لا يعجبه سوى حلّ واحدٍ منها ) أي الهروب والفرار ...!
• ضعف الدافع الخيري التأثيري : في الآخرين، واعتناء المرء بنفسه، بسبب طغيان المادية والنفعية، والتفككية، وانشغال كل طرف بما يعنيه ويغنيه ويعميه، حتى باتت الإخوة الإيمانية مفقودة، والرابطة الدينية مَهينة، وغابت معاني ( «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص» ) وشبّك بين أصابعه ...!! قال أبو الفرج ابن الجوزي : ( ظاهره الإخبار، ومعناه الأمر، وهو تحريضٌ على التَّعاون ) .
• مهانة دور المساجد: عبادة ودرسا وفقها وتعاونا وترابطا، والواجب تجديده بحيث تتأخر أزمنة الغربة والإحباط، وتشتد عملية المدافعة بين الحق والباطل، وبالطبع لن تستطيع منع سنة كونية، ولكنك تعمل على مواجهة إرهاصاتها، ما دام في الناس بقية من خير وعلم وعمل ومدافعة، قال عز وجل ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض..) سورة هود . والمسجد بوابة لأولي البقية الناصحين، والغَيارى المذكرين، والوعاظ التابعين، الذين يشيعون الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ، قال عز وجل ( {كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالعزوف وتنهون عن المنكر} ) [سورة آل عمران] .
• تخوف الأخطار: من تربص أو عدو،أو بلاء، أو تهمة، أو لفت انتباه، أو ذهاب رزق، ويمحو تلك الأفكار المسبقة والمفتتة الوهج العلمي الراسخ، والبناء التربوي الإيماني ، المشع بالتوكل على الله وحده، وابتغاء ما عنده من خير كبير، ونوال جزيل( {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} ) [سورة الأحزاب] .
• الدور النفاقي التخذيلي: الممارس من المشبوهين والحانقين، والمتسلقين الذين همهم مصالحهم ودنياهم، وليس دينهم وأمتهم، ويزعمون الحب والتعاون والإخلاص ، ( {اتخذوا أيمانهم جُنةً فصدوا عن سبيل الله}[سورة المنافقون] .
• طمس المعالم الشرعية: ومحاولة تبديل المفاهيم ، بحيث تتسع أخطاء، وتُحمل أردية ليست من الحق والاتباع في شيء...! لا سيما أزمنة الفتن والاضطراب، وغلبة أهل الباطل، ومحاولات التدليس والتلبيس على الخلائق، وشيوع التبدل والانهزام العقدي والثقافي، من مرضى طامعين، ومن متراجعين مبدلين كما قال عز وجل ( {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب وما هو من الكتاب } ..) [سورة البقرة] . أي يحرفونه ويتأولونه على غير تأويله. والله ولي التوفيق .....
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: