قصة يوسف عليه السلام في تجميع أسرته: المقال الرابع
لذلك نوصيهم أن يتوبوا إلى الله ليرفع الله عنهم المصائب وليعزَّهم بعد المذلة ولينصرهم بعد الهزيمة وليوحدهم بعد الفرقة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
فاعلم - رحمني الله وإياكم وأرشدنا إلى طاعته - أن هذه السورة كما جاء فيها فيصلة لبعض الأمور بتأويل الرؤيا وكذلك جاء فيها فيصلة لبعض الأمور بالقرائن.
وقد فيصل الشاهد في القضية التي جرت بين يوسف عليه السلام وامرأة العزيز بالقرائن كما علمت ذلك في كتاب الله العزيز, حيث جعل المظلوم الصادق الذي اعتُدي عليه حيث كان قميصه قُدَّ من الدبر, وحيث كان قميصه قُدَّ من قبل فهو إذاً الظالم الكاذب المعتدي.
وهذه الفيصلة كما ترى فيما احتفَّت حوله القرائن في قضايا منصوصة بالقرآن.
ولكن اعلم أن هذه القضية الآنفة الذكر ليست وحيدة في القرآن وإنما هي كثيرة بل تجد أن في هذه السورة جاءت بأمورٍ كثيرة تدل على العمل بالقرائن إذا أمعنت فيها النظر كما يلي:-
أولا: قرينة قميص يوسف الملوَّث بدمٍ كذبٍ والسليم من خدوش الذئب ومع ذلك جاء إخوة يوسف أباهم عشاءاً يبكون ومعتذرين بالأكاذيب التي افتروها للنجاة من الموقف, حتى عجب يعقوب عليه السلام من هذه الحالة, ويروى أنه قال : يا بني ما هذا الذئب الحليم الذي أكل ابني ولم يصب بأي خدشٍ في قميصه.
ثانياً: فراسة الفتيين صاحبي يوسف في السجن كما في قوله تعالى: { {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } } [ يوسف: 36 ]
وذلك لما رأوا منه عليه السلام حسن السمت والدين وحسن المعاملة والصدق ولين الجانب ونحو ذلك من الأخلاق الفاضلة الرفيعة, ولعله كان يصلي في السجن لدعاء إبراهيم عليه السلام { { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} { [ إبراهيم: 40 ] فعرفوا بذلك أنه من المحسنين وأنه من العلماء العاملين الذين يستأهلون أن يُستفتى بهم في مثل هذه الرؤيا.
ثالثا: وضوح قرينة براءة يوسف عليه السلام عند الملك والجميع لما أبى عليه السلام إفراجه من السجن, لأنه لو كان ظالماً لم يُصر على تفتيش قضيته التي دخل لأجلها السجن وقضى فيها سنين عديدة ولبادر بالخروج ناجياً بنفسه وتوارى عن أعين الناس, ولذلك اعترفت المرءة هنا للضرورة بالمراودة التي حصلت منها بينما أنكرت في المرة الأولى كما سألهن الملك أي النسوة كلهن بقوله { {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} } [ يوسف : 51 ] فأقرَّ الملك عليهن بالإثم لتلك القرينة القوية التي أشرت إليها آنفاً , والخطب إنما هو الحالة العظيمة الشديدة.
ثالثا: قرينة معرفة رجوع إخوة يوسف إلى يوسف عليه السلام لما أدخل بضاعتهم في رحالهم, وهو ما انتبه إليه العالم في هذا الزمان الماهر في التجارة وهو جذب الزبون بإهدائهم ببعض الهدايا ليعاودوهم مرات وتارات أخرى باستهلاك بضائعهم
رابعا: قرينة الإصابة بالعين لمن خيف لهم ذلك, ولذلك خاف يعقوب عليه السلام على بنيه فأوصاهم أن لا يدخلوا من باب واحدٍ وأن يدخلوا من القرية من أبوابٍ متفرقةٍ, وذلك لكثرتهم أولا ولجمالهم الفائق ثانياً لكونهم إخوة أجمل رجل في خلق الله وهو يوسف عليه السلام
خامسا: قرينة سرقة أخ يوسف فيما يظهر لأخوة يوسف طبعاً.
هذه القرينة كما ترى كان فيها نوع من خداعٍ وكذبٍ لإخوة يوسف لإنقاذه من شرورهم كما هي معاملة كمعاملتهم الأولى والجزاء من جنس العمل إذ يجوز الكذب لمصلحة راجحة.
أما قوله تعالى { { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّ} هُ } [ يوسف: 76 ] أي هو نصر ليوسف عليه السلام لإنجاح عملية أخذ أخاه ليضمه إليه للحفاظ عليه . وهذه العملية أو الكيد كان محكما فهي تنمثل بما يلي:-
أولا : جعل السقاية في رحل أخية
ثانيا: اتهامهم بالسرقة
رابعاً: تحكيم أنفسهم بأنفسهم وهو ما هو مصلحة ليوسف عليه السلام في أخذ أخاه ولو حكمهم في دين الملك ما أخده
ولكن اعلم أن هذه القرينة من أضعف القرائن لمن احتفت حوله للأسباب الآتية:-
أولا: لا شهود حين كان يأخذ السارق السرقة
ثانياً: وجود المسروق عند من وجد عنده لا يعني أنه سارق ولذلك لا ينبغي الاستعجال عليه بالضرب أو بالحبس أو الإيذاء وإنما ينبغي استخباره من أين له هذا الشيء المسروق
ثالثا: قد يستخدم بعض المجرمين أن يضعوا عند الناس بعض الأشياء الممنوعة كالمخدرات أو الأسلحة ليأخذوهم على غرة من قبل السلطات .
فهذا بالطبع الظلم الواضح بينما كان مقصود كيد يوسف عليه السلام - بل وما كاد له الله بإلهامه بذلك - إنما كان لأجل إنقاذ المظلوم من أيدي إخوته الذين كادوه وظلموه سابقاً بإلقائه في غيابت الجب.
فعلى العموم القرائن المحتفَّة حول الناس يُنظر فإن كانت ضعيفة كما بينَّا قبل قليلٍ وليس هناك أدلةٌ أخرى على إجرام المتَّهم فينبغي إذاً إطلاق سراحه.
أما إذا كانت قوية فقد تُغني عن الشهود , كما جاء في قصة يوسف عليه عند إطلاق سراحه من قِبل الملك.
أما إذا كانت القرائن قوية أو شبه قوية بل انضاف إليها شهود عدول أو إقرار أو اعتراف من المذنب فهذا طبعاً من أوضح الأحكام التي يطمئن به القاضي عند حكمه.
أما ما يستفاد من القصة من الدروس والعبر فكالتالي:-
أولا: - قد تقارف المرءة الخائنة لزوجها في خُفيةٍ ببعض الذنوب وهي تظن أنها لا يكشفها أحدٌ فتنكشف فجأة ببعض القرائن المحتفَّة حولها كما وقع لامرءة العزيز لكون الخيانبة لا خير فيها ولا بركة أبداً , وكذلك العكس بالنسبة للرجل.
ثانيا: يوسف عليه السلام كان مستقيماً في حياته كلها لكونه كان في محنةٍ لذلك اجتهد في الطاعات وفي الاجتناب من المعاصي ليخرج من محنته وليلقى بأسرته مرة أخرى ولكن سبحان الله الناس المنتسبون إلى الإسلام في هذا الزمان في مشارق الأرض ومغاربها نراهم في هذا الزمان في محنة لأعدائهم ولكنهم مع ذلك في غفلة ويولغون في المعاصي بل يقعون في أكبر الذنوب التي لايغفره الله كالشرك ونحوه ثم يتكلمون عن وحدة الكلمة وأن يكونوا يداً واحدة على من خالفهم وهو العجب !!!
لذلك نوصيهم أن يتوبوا إلى الله ليرفع الله عنهم المصائب وليعزَّهم بعد المذلة ولينصرهم بعد الهزيمة وليوحدهم بعد الفرقة.
ثالثاً: يوسف عليه السلام كان في كل أحواله متضرِّعاً متعلِّقاً بربِّه معتصماً به يُرجع الفضل إلى الله ويتبرأ من حوله وقوته ولكن – للأسف الشديد – نرى كثيرا من الناس في هذا الزمان يرجعون الفضل لأعداء الله ليستنصروهم لبعضهم بعض الآخر وإذا جاعوا أو أصابهم القحط استغاثوا بهم بل إذا حكموا بعضهم بعض الآخر استشاروا بهم كيف يحكمون الناس فاقتبسوا من أحكامهم وطبَّقوها على المسلمين ليرضوهم بذلك مع أن الله أغنانا بكتابه العزيز الذي أنزله علينا من فوق سبع سموات لنحكم به أنفسنا ولنتَّخذه منهجاً يقود حياتنا كلها في السراء والضراء وفي السلم والحرب أو في الداخل والخارج أو في السياسة والاقتصاد والجيوش بل وفي كل شيء قال تعالى { {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } } [ محمد : 26 ] سبحان الله فكأن القرآن الذي أنزله الله في ذاك الزمان قبل ألف وأربعمائة سنة أنزل علينا اليوم إذا نظرنا كيف يخاطبنا في حالتنا الراهنة.
إذاً فهؤلاء ارتدوا كما ترى أن قالوا لأعداء الله الذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر فكيف إذا قالوا : سنطيعكم في كل الأمور , والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, فإنا لله وإنا إليه راجعون , والله يعلم إسرارهم وفي قراءة يعلم أسرارهم , فالله سبحانه لا تخفى عليه خافية بل يعلم السر والأخفى أي ما في قلوب كل الناس من الأسرار أو ما سيقولونه من الأسرار في المستقبل.
والله أعلم والهادي إلى سواء السبيل
عبد الفتاح آدم المقدشي
- التصنيف: