السّكير الذي أرعبني!
ثمّ روى جوابهم حول سؤالي عن قول الأعرابيّة لأناس شاهدت عندهم الخمر: أوَ تشرب نساؤكم هذا؟ فقالوا: نعم! قالت: زنين وربّ الكعبة!
هاتفني قبل أزيد من عقد زميل عزيز مكتهل يشغل منصبًا مرموقًا، ويتميّز بشخصيّة إداريّة صارمة، وكثيرًا ما طلبت منه أن يتخفّف من بعض الصّلابة ويريح نفسه، لكنّه يأبى معتذرًا بأنّه خلق هكذا، ولا أوافقه فالتّغيير سنّة حياتيّة ثابتة، ومطلب منشود حين يكون للأحسن.
فقال لي: جاءني موظّف تحت إدارتي، وتلاحينا حتى علت أصواتنا؛ وخاطبني في ساعة غضب بصراحة: اسمع يا فلان! أنا أسكر أحيانًا في نهاية الأسبوع حتى الثّمالة وغياب العقل، فلا أتذكر أحدًا من النّاس سواك! وبادرني صاحبي بسؤال مختصر واضح: ماذا يعني كلامه بما أنّك تقرأ عن الخمر؟
لا أعرف لسؤاله جوابًا، وقراءتي الخمريّة في سياق الّلغة والشّعر والتّاريخ والفقه فقط، ولأجل ذلك هرعت لرجل أعلم أنّه مبتلى بشرب الخمر مع رغبته المعلنة لي بتركه إذا صدق، وأخبرته بالواقعة فأجابني بخبرته-وبئس الخبرة-أنّ الثّمل لا يذكر إلّا محبوبًا يهيم به، أو بغيضًا يسعى لإيذائه بعمل بشع!
نقلت هذا التّفسير لصاحبي بمقتضى لزوم الجواب، وواجب التّحذير، وعزمت في نفسي على الجلوس مع هذا الرّجل الخبير، واستكمال نواقص ثقافتي الخمريّة، باعد الله بيني وبين الخمور في الدّنيا، ومن يقرأ، ومن ضمنهم مستشاري الذي ستصافح عيونه هذه الكلمات فيما أظن.
كان الخبير المبتلى ناصحًا؛ إذ حمل استفهاماتي لرفاقه أنجاهم الله جميعًا من هذا الإثم المهين، فأجمعوا أو كادوا على أنّ أوّل كؤوس الخمر بغيضة الطّعم حتى أنّ شاربها يوّد لو اندلقت إلى جوفه من غير المنافذ الجسديّة المؤدية إلى الحلق فالجوف! وأضافوا بأنّ السّكران يعاني من حساسيّة مفرطة، ومشاعر قابلة للاستثارة بسهولة سواء غضبًا أو بكاءً أو شوقًا، ويعظم ظنّه بنفسه وإمكاناته؛ والواقع خلاف ذلك، إذ ترتفع مطالبه، بينما قدراته في سفول.
وممّا أخبرني عنهم أنّ جلسات السّكر يموت فيها الكرم وتوأد المروءة، فأمّا موت الكرم فيكون بانفراد كلّ عضو بما معه من مسكر دون أن يهب لغيره ولو جرعة؛ فيتشبّث كلّ سكيّر بمشروبه الخاص إلّا إن طمع بعوض من خمر أو عرض أجارنا الله وإيّاكم، وأما المروءة فتوأد برواية التّفاهات، وإفشاء الأسرار، والتّسامج المتبادل، وهذا مصير مشروب وصفه الله بأنّه رجس من عمل الشّيطان، وأوجب اجتنابه.
ثمّ روى جوابهم حول سؤالي عن قول الأعرابيّة لأناس شاهدت عندهم الخمر: أوَ تشرب نساؤكم هذا؟ فقالوا: نعم! قالت: زنين وربّ الكعبة! وجوابهم مرير يا سادة، إذ يستخدم الذّئاب البشريّة الخمر للإيقاع بالفتيات بعد تغييب عقولهنّ، وأنكى منه ما أخبروني به من أنّ بعض السّكارى يجبر زوجته على احتساء الخمر معه لأنّه لا يجد أنسه إلّا مع سكرانة! فيرتّد البلاء عليه حين تدمن زوجته فتدفع أيّ شيء ثمنًا لكأس خمر، وما أخسر الصّفقة!
وفي هذا السّياق أذكر أنّ صديقًا روى لي قصّة زواج أخته من شاب سكيّر، وكان يوهمها بأنّ المجتمع كلّه سكران بمن فيهم أبوها وإخوانها؛ فسكتت على مضض، بيد أنّ الحرّة الشّموس هربت إلى أهلها حين أراد هذا القزم دفعها إلى أحضان شركائه في المسكر، وأعلمتهم بما جرى؛ فأثبتوا لها براءتهم من الخمور والمسكرات، وخلعوها منه، وحقيق بولي أمر الفتاة أن يفحص صحة الخاطب النّفسيّة، وسلامته من معاقرة الخمور.
كما أنبأني مستشاري لشؤون الخمر-عافاه الله منها- بأنّها تكشف ما في النّفس من دنس، وأنّ جلسة السّكر لا تقبل وجود من لا يشرب فيها، وما أسرعها في بناء الصّداقات وتبادل الخدمات، وهي في هدم العلائق الثّابتة أعجل. وبشفافيّة أعلمني أنّ السّكير تزداد رغبته وتتهاوى قدرته، ويظنّ بنفسه الترّكيز بينما هو عاجز عن المشي على خطّ مستقيم، أو العدّ التّنازلي بدءًا من عشرة؛ ولذا تكثر منهم حوادث السّيارات الشّنيعة.
وختم اعترافاته بحكمة وأمنية، إذ ليس في الخمر نخبويّة، وهي أمّ الخبائث وولّادة الكبائر، وليتني أتركه اليوم قبل الغد، وشاركته الأمنية مع الدّعاء له ولكلّ مبتلى بهذه الكبيرة، مؤكّدًا عليه أنّ الخمر لم تمنع صحابيّاً من حبّ الله ورسوله، ولم تحل دون جهاد الفرسان وحسن بلائهم، فوقوع المسلم فيها يجب ألّا يكون سببًا لانحدار إثر آخر، والعزم على التّوبة متاجرة رابحة في النّية، وكلّ صادق سيوفّقه الله لها ولو بعد حين.
هذه واقعة قديمة، سجلّت أحداثها، وتأخّر تحريرها إلى هذا الوقت الذي يناسب فيه التّذكير بحرمة الخمر، وضررها الأمني والاجتماعي والخلقي، ومن الجدير بعقلاء القادرين حماية مجتمعاتهم منها خاصّة مع تكاثر إباحتها في بلاد المسلمين، والضّغط المتواصل على القيم والأحكام الشّرعيّة والمسلّمات؛ وكأنّنا حين ينفلت عقالنا نتجاوز مشكلاتنا، وننافس غيرنا من الأمم في الحضارة والتّمدن!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
- التصنيف: