قلائد سنن أبي داود وصفاته...!
قال الخطابي: ( وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً ما، سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه )
د.حمزة بن فايع الفتحي
لو قيلَ لك: أي الكتب سهولة وقرباً وبركة في المكتبة الإسلامية، لكان (السنن ) لأبي داود السجِستاني رحمه الله،(٢٧٥)هـ. عنوانا حاضرا فيها ، فقد قرّبه وسهله، وأدناه وجمّله، فحوى به المفاخر، وقلد به الناس الجواهر والقلائد ، التي باتت مغانم قريبة، ونفائس دانية...!
وهنا كشف لها وتنبيهات :
١/ القريب السهل: انتفت عنه الصعوبة، وغابت به المتاعب والتعقيد، فهو يتدلى لقارئه تدليا، وينساب انسيابا، قال الإمام النووي رحمه الله : ( ينبغي للمتشاغل بالفقه وغيره، الاعتبار بسنن أبي داود بمعرفته التامة، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه، مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه ) .
٢/ تفرده في الأحكام : قال الخطابي: ( وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً ما، سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه ).
ولذلك هو أشبه ما يكون بالكتاب الفقهي ، بل السنن في اصطلاح المحدثين هي أحاديث الأحكام الفقهية ، وبها ظهرت إمامته، وتجلت مكانته، قال الكتّاني في كتابه ( الرسالة المستطرفة) : "وهي في اصطلاحهم الكتب المرتبة على الابواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة، وليس فيها شيء من الموقوف، لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة، ويسمى حديثا ...
٣/ كفاية المجتهد الفقهي: قال ابن الأعرابي رحمه الله تعالى :( لو أنّ رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المُصْحَف الَّذِي فِيهِ كتاب اللَّه ، ثم هذا الكتاب ، لم يحْتَجْ معهما إلى شيء من العلم بتة ) . وقال أبو حامد الغزالي عنه : ( إنها تكفي المجتهد في أحاديث الأحكام ).
٤/ السِّفر الفاصل : قال ابن القيم رحمه الله : ( لما كان كتاب (السنن) لأبي داود رحمه الله من الإسلام بالموضع الذي خصّه الله به، بحيث صار حكَماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى به المحققون..).
٥/ القبول الجماهيري : فقد قبله الناس وانتشر في الآفاق، قال العلامة الخطابي رحمه الله ( وقد رُزق القبول من الناس كافة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكل فيه وِرْدٌ ومنه شِرْبٌ...).
٦/ العهد والموثق : قال أبو يحي السَّاجي :( كتابُ الله عز وجل أصلُ الإِسلام ، وكتابُ "السنن" لأبي داودَ عهدُ الإسلام ). وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ لما صنف أَبُو دَاوُد كتاب السّنَن( أُلين لأبي دَاوُد الحَدِيث، كَمَا أُلين لداود الْحَدِيد) و أنْشد الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله تَعَالَى:
لانَ الحَدِيثُ وَعلمُه بِكَمَالِهِ ... لإِمَام أهليه أبي دَاوُدِ
مثل الَّذِي لَان الْحَدِيدَ وسبكَه ... لنبيّ أهل زَمَانه دَاوُدِ...!
٧/ مصنّف منتخَب: قال رحمه الله : ( كتبتُ عن رسول الله (خمسمائة ألف) حديث انتخبت منها كتاب السنن، فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ، وما كان فيه وهن شديد بيّنته ..).
٨/ تأنٍ وعرض: قال رحمه الله: ( أقمت بطرسوسَ عشرين سنة، واجتهدت في المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ) ، وعرضه على الإمام أحمد فاستحسنه واستجاده..!
9/ محدّث فقيه : قال الذهبي رحمه الله في السير : ( كان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه، من كبار الفقهاء، فكتابه يدل على ذلك، وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسَه مدة، وسأله عن دِقاق المسائل في الفروع والأصول..).
10/ التعليل والتوضيح: قال ابن منده رحمه الله : ( الذين أخرجوا وميزوا الثبات من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم وبعدهما أبو داود والنسائي ). وذكر ذلك في رسالته لأهل مكة ( جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانيمائة حديث ، ذكرتُ الصحيح، وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته،وليس فيه عن رجل متروك الحديث شيء، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض ..).
11/ مسكوته صالح: للاعتبار على المعتمد ، وليس يفيد الصحة كما توهمه بعضهم كابن الصلاح والنووي والمنذري رحمهم الله، لأنه سكت عن ضعفاء ومجرحين، وقال ابن حجر في (النكت على ابن الصلاح 1/439) :
( فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ، ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقُه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع، فيعتضد به ، أو غريب فيتوقف فيه..)
قال الناظم: والحق في سكوته التتبعُ...والبحث والتجويد والتجمعُ
12/تعداده: جمع في كتابه السنن ما يقرب من ( ٥٣٠٠ ) حديثا، وقد عدَّها الشيخ صالح آل الشيخ في تحقيقه للسنن وذكر أنها( ٥٢٧٤) حديثا.
وافتتح المصنف الكتاب بالطهارة ( بَابُ التخلي عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ) وأسند إلى المغيرة بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَهَبَ الْمَذْهَبَ أَبْعَدَ» ).
واختتمه بكتاب ( الأدب )
( بابٌ في الرجل يسب الدهر )
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( «يؤذيني ابْنُ آدَمَ يسب الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ) قَالَ ابْنُ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، مَكَانَ سَعِيدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
13/ الرسالة الموضحة: رسالته لأهل مكة كشف فيها أسرار كتابه، وشرطه وموضوعه ومنهجه في الأحاديث، بحيث تصلح أن تكون مقدمة مطبوعة للكتاب، خلافا للمصنفات الحديثية التي تكتفي بالحديث المسرود مباشرة سوى الإمام مسلم رحمه الله، فقد افتتح الصحيح بمقدمة اصطلاحية مهمة..! وكلتاهما خليق بالتعليق الحديثي والنقدي الكاشف لمضامينهما .
14/ حكمه في المرسل: هو يحتج بها، فيقول:( وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان والثوري ومالك والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره . فإذا لم يكن غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة ).
15/ على خطى الإمام أحمد: علما وديانة وورعا وسمتا، فهو تلميذه وخريجه، قال الذهبي رحمه الله : ( وبلغنا أنًّ أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل في هديه ودلّه وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك وكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبدالله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله ).
16/ درجة أحاديثه : االحديث عند أبي داود إما أن يُصححه، أو يبين أنه شديد الوهن، وإما أن يسكت عنه. وقد ذكر الذهبي أن ما في كتاب سنن أبي داود مما يوافق ما أخرجه البخاري ومسلم ، يبلغ شطر الكتاب، فأما الأحاديث شديدة الوهن فقد كان يبين العلل التي تقدح في صحة الحديث ويذكر ترجيح ما فيه خلاف بين الرفع والوقف، أو الإرسال والوصل، وأحيانًا لا يُبيِّنها لعدة أسباب ذكر ابن حجر أنه قد تكون بسبب
- اكتفاء بما تقدم له من الكلام لنفس الراوي في نفس كتابه.
• أو أنه غفل عنه أو نسيَه.
• أو لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي، واتفاق الأئمة على طرح روايته.
• أو لاختلاف نُسخ السنن.
17/ الأصول المختارة للمسلم عنده : قال رحمه الله: ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أحاديث، أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: ( « الأعمال بالنيات» ).
وقوله صلى الله عليه وسلم :( «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ).
والثالث قوله صلى الله عليه وسلم ( «لا يكون المؤمن مؤمناً ،حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه » ).
والرابع قوله صلى الله عليه وسلم: ( «الحلال بيّن والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات» ) .
18/ مطالعٌ مستديم : اشتهر بالقراءة والطلاع والفقاهة وحسن التعليل، ومن الطريف حملانه الكتب على كل حال، ( فقد ذكروا أنه كان له كم واسع وضيق، ولما سئل قال: الواسع للكتب ، والآخر لا نحتاج إليه )..!
19/ تصنيف الذهبي للكتاب: في ((سير أعلام النبلاء)) أن الأحاديث في ((سنن أبي داود)) ستة أنواع فقال:
١- إنَّ أعلى ما في كتاب أبي داود من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب.
٢ - ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر.
٣- ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيداً سالماً من علة شذوذ.
٤ - ثم يليه ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً.
٥ - ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يسكت عنه أبو داود غالباً.
٦ - ثم يليه ما كان بيّن الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالباً، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته .
20/ تحقيق علمي: وهو ما صنعه تجاه حديث (بئر بُضاعة) الذي أخرجه في السنن وهو حديث صحيح، ولكنه رفع الإشكال الواقع في البئر بزيارته لها والحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنَّه قيلَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : أنتوضَّأُ من بئرِ بضاعةَ وَهيَ بئرٌ يُطرحُ فيها الحيضُ ولحمُ الكلابِ والنَّتنُ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ( « الماءُ طَهورٌ لا ينجِّسُه شيءٌ» ).
قال أبو داود: وسمعت قتيبة بن سعد قال: سألتُ قَيِّمَ بئر بضاعة عن عمقها. قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة .
قال أبو داود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيّر بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون ) .
وهذا حرص منه رحمه الله على التحقق والتثبت .
21/ شروح الكتاب :
• من أحسنها شرح الإمام الخطابي المسمى ( معالم السنن ) وهو مع وجازته من أدقها وأطيبها، وأكثرها بركة، ويشبه صاحب المتن جودة وتناولا وبركة .
• تهذيب ابن القيم على مختصر المنذري : فيه حواش نادرة، وتحقيقات عجيبة، وليته استكمل الكتاب كله .
• عون المعبود: للعظيم أبادي.
والله الموفق والمسدد تبارك وتعالى.
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: