ظرات في كتاب "الرسالة المحمدية": المقال الثالث

منذ 2019-05-23

ويتوقف المحاضر في ختام المحاضرة السابعة عند خصيصة الوسطية والتي تميز الإسلام، فلا إفراط ولا تفريط، لا إفراط كهنة الهنادكة والبوذيين والمصريين والإنجليين، الذين جعلوا زعماءهم آلهة من دون الله.

بنداود رضواني 
 

 المحاضرة السادسة: الجانب العملي للسيرة النبوية.

يعود المحاضر مرة أخرى ليؤكد على أن العالم لا تنقصه الكلمات العذبة، والنصائح القيمة، والعبارات الرنانة، إن الذي يعز وجوده هو العمل، ولا توجد وثيقة سماوية تشهد لنبيها على علو مكانته، وسمو مرتبته، سوى القرآن الكريم ( {وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم} ) [القلم، 4،3] . لقد نادى هذا النبي صلى الله عليه وسلم مرارا بأعلى صوته في الناس ( { لم تقولون مالا تفعلون} ) الصف،2 . لذا إذا استعرضنا سيرة عيسى الذي صعد إلى جبل الزيتون -كما تحكي الأناجيل-، وبين سيرة من صعد إلى جبل الصفا، وقارنا بينهما فلا عمل في سيرة الأول، أما محمد صلى الله عليه وسلم فسيرته غنية بنماذج من الحركة الدؤوبة والعمل المتواصل...
لقد كان خلقه القرآن، هذا الخلق هو الذي أنطق خديجة قائلة:" كلا، والله لايخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق."، رواه الشيخان، وهو الخلق نفسه، الذي جعل عائشة تشهد وتقول:" لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، ولاصخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح" رواه الترمذي وأحمد وابن حبان. وهي الشهادة نفسها التي أجمع عليها كل من عاشره وصحبه من الناس.
وتشهد سيرته العملية، أنه عليه الصلاة والسلام، لا يقوم ولا يجلس ولا ينام ولا يستيقظ ولا يمشي ولا يتوقف....، لا تمض لمحة من لمحات حياته إلا ولسانه رطب بذكر الله تعالى.
ولننظر- كذلك-إلى كيفية أدائه للصلاة، والتي كان يقوم فيها بالحب والشوق إلى الله، والخوف منه وخشيته حتى تتورم قدماه، يقول لعائشة-مذكرا إياها- بواجب العبودية لله حين أشفقت عليه:" أفلا أكون عبدا شكورا".
وهذا هو ديدنه عليه الصلاة والسلام، في كل أوقاته وأحواله، في الصيام والزكاة والصدقات، وفي الزهد والقناعة، والتوكل على الله واعتماده عليه والثقة به، وفي غزواته وفتوحاته، وفي حلمه وعفوه عن أعدائه ومبغضيه.
ويختم الشيخ الندوي بخلاصة لما أسس له في هذه المحاضرة قائلا:" إن الإسلام يقدم حياة رسوله مثالا عمليا، وأسوة عملية لكتاب الله، وهذه الفضيلة والشرف، لم يتمكن من نيله رسول من الرسل، سوى رسول الإسلام فإنه لما بين للإنسانية أصول الحياة، وضوابط الشريعة، وقوانين الدين،فيتبعها بعمل وتطبيق، لكي يكون أسوة للناس".

المحاضرة السابعة: رسالة رسول الإسلام إلى سائر الأنام.

" كما أشرنا -يقول المحاضر-مرارا وتكرارا، وفي ضوء الحقائق التاريخية والوقائع الثابتة أن تلك الرسالات كانت مؤقتة، وخاصة بقوم محددين وزمن معين، ولم تكن تتمتع بالخلود والأبدية، وبالتالي فلم يوفر الله تعالى أسبابا ووسائل لحفظها الأبدي السرمدي ". ونلمس هذه الحقيقة فيما تصرح بذلك نصوص الكتاب المقدس بقسميه التوراتي والإنجيلي من أن نبيا سيأتي بعد موسى وعيسى، في المقابل لا نظفر بآية قرآنية واحدة تنبئ بمجيء نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. بل تتعزز عالمية الرسالة المحمدية حين ننظر في نزعة الخصوصية التي تهيمن على التراث اليهودي الشفوي منه والكتابي. وماينسب إلي عيسى من القول بأنه :" جاء إلى خراف بني اسرائيل الضالة ".
هذا والمفروض في كل دين أو شريعة أن تقوم على دعامتي الأعمال القلبية، والحركات البدنية، فالعقائد ومسمى الإيمان شبه مفقود في الكتاب المقدس جملة وتفصيلا. وأما قضية الجزاء والعقاب، والجنة والنار، والحشر والنشر، ففي اليهودية أمرها غائب، لايروي الغليل، ولايشفي العليل. أما الإنجيل فمجموعه فقرة أو فقرتان. وأما الحديث عن الملائكة فسمته التعقيد والغموض والتباس الأمر، حتى يصعب التمييز بين الواحد الأحد والملائكة...، أما الرسالة المحمدية فقد أوضحت وبينت ودعت إلى هذه القضايا لمنزلتها في الإسلام ولأهميتها في أعمال القلوب.
هذا من ناحية، أما ناحية أخرى فعلى الرغم من التفاصيل المسهبة حول القرابين، وذكر الصوم في التوراة،...فالغموض يحجب فهم هذه الطقوس والعبادات. أضف إلى ذلك الفراغ التعبدي الذي توثقه اناجيل الكنيسة: "لماذا تلاميذك لا يصومون".
وهاهو الإسلام واضح جلي، واضحة عباداته بشرائطها وكيفية أدائها، ومواقيتها، ومقاديرها، وبينة مقاماتها من ابتهال وضراعة ومناجاة بين يدي الله جل جلاله. يقول رحمه الله :" إن الشريعة والرسالة المحمدية غنية بهذه الأمور كلها".
وللإنصاف يذكر المحاضر أن شريعة موسى اهتمت بجانب المعاملات وبسطته بالشرح بالتفصيل، وقد أقرت الرسالة المحمدية معظم هذه القوانين لكنها خففت من شدة ووطأة القوانين، وأسبغت عليها صبغة العالمية بعد أن اقتصرت هذه التشريعات على بني إسرائيل فحسب، أما الزبور والإنجيل فلا نجد فيهما شيئا من ذلك، باستثناء بعض أحكام الطلاق في الإنجيل.
والواقع أن الرسالة المحمدية، أصلت وقننت وسنت وضبطت هذه القوانين أيما ضبط دون وجود ثلمات في البناء التشريعي للإسلام. وهذه القوانين والقواعد الكلية هي المرجع والأساس للحكام المسلمين عبر الزمان.
وتبرز أهمية الرسالة المحمدية لجميع الأنام كذلك، في نقد أصحاب عقيدة التناسخ، الذين ضيعوا الفكرة السليمة لجوهر الإنسان ألا وهي فطرته التي فطر عليها، فأثقل هذا الإنسان بما لا يحتمل، بل زادته المسيحية ثقلا إلى ثقل!!!.
اما الرسالة المحمدية فنادى صاحبها في الناس، لستم مكرهين، ولا مجبورين، ولا أنتم عصاة بالفطرة، ولستم مخطئين بالخلقة، إن الخيار بيدكم، والطهارة والنزاهة شأنكم... يقول المحاضر:" وهل توجد رسالة أوضح وأفصح وأدل على طهارة الإنسان الجبلية والفطرية من الرسالة المحمدية ".
والرسالة المحمدية كذلك تتغيا الخير للأنام، دون تمييز بين الناس خلافا لبراهمة الهند. وزرادشت فارس، وبني إسرائيل، والذين حصروا الخير في أقوامهم وقبائلهم، وأن الشرف هم أولى به وأحق. 
وحتى تحقق هذه الرسالة المحمدية مقاصدها النبيلة، فقد قطعت حبل الوساطة بين الإنسان والخالق، الذي أقامه الكهنة وعبدة الاوثان، والأحبار والرهبان، فلا وجود لهؤلاء والوسطاء في هذه الرسالة العطرة ولا حاجة إليهم. 
ويتوقف المحاضر في ختام المحاضرة السابعة عند خصيصة الوسطية والتي تميز الإسلام، فلا إفراط ولا تفريط، لا إفراط كهنة الهنادكة والبوذيين والمصريين والإنجليين، الذين جعلوا زعماءهم آلهة من دون الله. ولا تفريط اليهود، الذين ألصقو بأنبياءهم الكثير من القصص الواهية، و الحكايات الفاسدة التي لا تليق بالمكانة اللائقة بهم.
أما في الرسالة المحمدية فالأنبياء كلهم عبيد الله. ثم إنهم ليسوا أشباها ولا أندادا ولا آلهة، ( {قل إنما أنا بشر مثلكم } ) [ الكهف 110] .