يدعو الله ألا ينام !
كانت نفس الفتى تواقة للزهد والإعراض عن زخرف الحياة الدنيا. وسرى بين أهالي البصرة خبر انقطاعه للعبادة حتى عده علقمة بن مرثد في مقدمة الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد، وتداولت الألسن قصص ورعه وتعففه
حميد بن خيبش
تتضافر أخبار التابعين لترسم صورة جيل يكابد لاستئناف السلوك الإسلامي والقيم الروحية، داخل فضاء مجتمعي هبت عليه بوادر الترف، ونالت منه ملابسات انتقال الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عضوض.
لكل تابعي قصة تُمدنا بعناصر من الثقافة الروحية التي شكلتها تعاليم الدين الحنيف. هذه الثقافة التي تفند المزاعم القائلة بأن في الإسلام غلبة للنظام التشريعي على المبادئ الروحية والأخلاقية، كما ردد بعض المستشرقين. وفي كل قصة نستشف تلك الحالة الوسطى بين روحانية مغالية ومادية متطرفة، ونقف على تجليات السمو الروحي الذي تستجيب له النفس دون أن يقترن بالضرورة بتعذيب الجسد، والتشدد في حرمانه من نصيبه الدنيوي.
إن القرآن الكريم حين يقرر بأن الآخرة خير من الحياة الدنيا فهو يحدد للإنسان مرتبة الكمال الروحي التي ينبغي أن تتطلع إليها النفوس، دون تفريط في متطلبات الجسد أو حرمان من الطيبات. وهي ميزة لا توجد في غير الإسلام، حيث يصف القرآن ترك الطيبات عمدا بأنه اعتداء في قوله تعالى:(( {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين} )) [المائدة-89] ، بينما يطالع المرء في باقي التشريعات السماوية والبشرية ألوانا من تعذيب الجسد، والقسوة في تحميل الإنسان فوق طاقته بمبرر روحانية متشددة أو طقوس ومراسيم كهنوتية. ومن شواهد تلك القسوة ما تدعو إليه تعاليم البرهمية من امتناع عن ذبح الحيوان وشق الأرض للزراعة، وتوقف عن العمل بشتى أنواعه، ولزوم صوم أبدي قد لا يتوقف إلا حين تزهق روح الصائم !
يستمد المسلم من إيمانه بالحياة الأخروية قوة روحية تعينه على مواجهة مشاق الحياة وآلامها، وترسم له سبيل الخلاص من ربقة الجسد دون تفريط في حقوقه. تلك هي السمة الغالبة على وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الداعية إلى رياضة النفس وفطمها، والتقشف في المعيشة، وتهذيب الروح دون تعذيب الجسد. فلا خروج عن طريق العدل مهما اضطرمت في الفؤاد نار الشوق إلى الله تعالى. لذا تضمنت بعض أحوال التابعين وأخبارهم رسائل تؤكد هذا العدل وتلك الوسطية، وتحث على السير الجميل إلى الله برفق وأناة. وفي خبر التابعي الجليل عامر التميمي ما يؤكد هذا المعنى ويُصدقه !
بعد أن اختط عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة البصرة لتكون قاعدة عسكرية للمجاهدين في بلاد فارس، نزحت إليها جموع المسلمين من الحجاز ونجد واليمن، وكان من جملة النازحين فتى نجدي يدعى عامر بن عبد الله التميمي.
تدفقت غنائم الحرب على البصرة لتبدأ معالم الثروة و الترف بالتشكل في المدينة الحديثة، لكن ذلك لم يجد هوى في نفس الفتى الذي سارع بملازمة واليها أبي موسى الأشعري، فأخذ عنه القرآن والحديث، وتفقه على يديه في الحل والترحال قبل أن يلتحق بساحة الجهاد في سبيل الله.
كانت نفس الفتى تواقة للزهد والإعراض عن زخرف الحياة الدنيا. وسرى بين أهالي البصرة خبر انقطاعه للعبادة حتى عده علقمة بن مرثد في مقدمة الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد، وتداولت الألسن قصص ورعه وتعففه عند المغنم، لعل أشهرها ما جرى بعد معركة القادسية، حين نزل سعد بن أبي وقاص في إيوان كسرى، وأمر عمرَو بن مقرن أن يجمع الغنائم ليرسل خمسها إلى بيت المال ويوزع الباقي على المجاهدين؛ وبينما كان العمال يحصون الأموال ونفائس الحلي، إذا بفارس يقبل وبين يديه وعاء ثقيل الوزن، مُلئ بروائع الدر والجواهر التي لم تقع أعينهم على مثلها. فوضعه بين يدي العمال. وحين سئل: هل أخذت منه شيئا؟ أجاب : والله إن هذا الحُق وجميع ما ملكته ملوك فارس لا يعدل عندي قلامة ظفر، ولولا حق بيت المسلمين ما رفعته عن أرضه ولا أتيتكم به !
غير أن رحلة زهد التميمي لم تخل من ميل إلى الإفراط هذبته العناية الإلهية، حتى لا يكون في السير إلى الله شطط يؤذي الجسد، ويبالغ في فطم النفس عن عوائدها !
سافر عامر التميمي يوما في إحدى القوافل، فلما جن عليه الليل توارى عن القوم ثم استقبل القبلة وانتصب قائما يصلي. فلما فرغ من صلاته شرع يناجي ربه، فكان مما قاله:
" إلهي، إنك تعلم أنه لو كانت لي هذه الدنيا بما فيها، ثم طُلبت مني مرضاة لك لوهبتها لطالبها؛ فهب لي نفسي يا أرحم الراحمين..
إلهي إني أحببتك حبا سهّل علي كل مصيبة ورضّاني بكل قضاء، فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه، وما أمسيت فيه.."
يحكي الرجل الذي اقتفى أثره لما توارى عن القافلة أن النعاس غلبه، بينما التميمي مستمر في مناجاته حتى تنفس الصبح. فلما صلى المكتوبة دعا قائلا:
"اللهم إني سألتك ثلاثا فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحدة؛ اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد"
فلما قام من مصلاه لمح الرجل يرقبه فسأله : أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة ؟
فقال الرجل : نعم
فقال التميمي : استر ما رأيت مني ستر الله عليك !
فرد الرجل قائلا: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك، أو لأخبرن الناس بما رأيت.
فلما لمس التميمي إصراره أخذ عليه العهد ألا يفشي سره مادام حيا، ثم أردف قائلا : لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة رأيت أم جدارا..
والثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحدا غيره، فاستجاب لي حتى أني والله ما أرهب شيئا في الأرض و لا في السماء سواه..
والثالثة أني سألت ربي أن يُذهب عني النوم حتى أعبده في الليل والنهار، فمنعني هذه الثالثة.
قال الرجل مواسيا: رفقا بنفسك، فإنك تقضي ليلك قائما وتقطع نهارك صائما. وإن الجنة تُدرك بأقل مما تصنع، والنار تُتقى بأقل مما تعاني.
فرد التميمي بعزم: والله لأجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا !
بين سعي الفرد وعناية الله تعالى، تنهض الوسطية كمرتكز أساسي في ديننا السمح، وتبلغ النية الصادقة بالعبد مرتبة تضاهي ما يحققه الفعل والجهد. وبذلك يوطد الإسلام معالم روحية متوازنة عبر عنها خليد بن عبد الله العصري بقوله : ألا إن كل حبيب يحب أن يلقى حبيبه، ألا فأحبوا ربكم وسيروا إليه سيرا جميلا !
حميد بن خيبش
كاتب إسلامي
- التصنيف: