الرحلة إلى الفلوجة.. من مفكرة ناشطة بريطانية
منذ 2004-05-03
شاحنات ودبابات وناقلات نفط تحترق في الطريق السريع شرقي الفلوجة..
تيار من الصبية والرجال يندفع ذهابا وإيابا إلى لوري لم يحترق كلية،
يجردونه من كل ما فيه.. سلكنا الطرق الخلفية التي تمر عبر "أبو غريب"،
بينما كانت "نهى" و"أحرار" تغنيان بالعربية. مررنا بالعديد من العربات
المحملة بالكثير من البشر، والقليل من الممتلكات سالكة الطريق
المعاكس، ثم عبرنا بجوار استراحة بسيطة بالطريق، وألقى الصبية بالطعام
خلال النوافذ إلى داخل الحافلة من أجلنا، ومن أجل من لا يزالون
محاصرين هناك.. داخل الفلوجة.
تبِعت الحافلة عربة يقودها نجل شقيق أحد الشيوخ المحليين، وبجواره دليل صاحب اتصالات مع المجاهدين، قام بترتيب مرورنا معهم. كنت موجودة على هذه الحافلة؛ لأن أحد الصحفيين الذين أعرفهم زارني في الحادية عشر مساء؛ ليخبرني بأن الأوضاع يائسة في الفلوجة، وأنه قام بإخراج أطفال بأطراف ممزقة منها، وأن الجنود الأمريكيين يجوبون البلدة مخبرين الجميع أن عليهم المغادرة قبل الغسق أو التعرض للقتل، ولكن حينها عندما فر الناس حاملين ما استطاعوا حمله أوقفهم الأمريكيون عند نقاط التفتيش على أطراف المدينة دون أن يسمحوا لهم بالخروج، وهكذا ظلوا محاصرين يشاهدون غروب الشمس.
قال الصحفي: إن العربات وأجهزة الإعلام رفضت السماح لهم بالدخول. وأضاف: هناك مساعدات طبية يجب أن تدخل، وهناك فرصة أفضل لعبور الحواجز الأمريكية إذا كان هناك أجانب غربيون على متن الحافلة.. بقية الطريق كان مؤمَّنا بواسطة المجموعات المسلحة التي تسيطر على المنطقة. سندخل المساعدات الطبية، ونرى ما الذي يمكننا أن نفعله لمساعدة الناس هناك، ثم نستخدم الحافلة لإخراج من يحتاجون الخروج.
سأوفر عليكم وصف كيف اتخذت القرار، وكل الأسئلة التي سألناها أنفسنا
سأوفر عليكم وصف كيف اتخذت القرار، وكل الأسئلة التي سألناها أنفسنا وبعضنا الآخر، ويمكنكم أن توفروا اتهاماتكم لي بالجنون. ولكن ما خطر ببالي في تلك اللحظة: إذا لم أقم بهذا.. فمن سيقوم به؟ أيًّا كان فإننا وصلنا إلى هناك سالمين.
حملنا الصناديق إلى الردهة فتم فتحها على الفور، ورحبوا جدًّا بالبطاطين. لم تكن مستشفى على الإطلاق، بل عيادة خاصة مملوكة لجراح يعالج الناس مجاناً منذ أن دمر القصف مستشفى المدينة الرئيسي. وتم استحداث عيادة أخرى في جراج للسيارات. كانت أكياس الدم مخزنة في برادات حفظ المشروبات، ويقوم الأطباء بتسخينها تحت صنبور للمياه الساخنة في حمام غير معقم.
دخلت نسوة يصرخن، ويلطمن وجوههن وصدورهن. وصرخت إحداهن: "أمي". احتضنتها حتى جذبني مدير العيادة "مكي" إلى جوار سرير يرقد عليه طفل في حوالي العاشرة من عمره، مصاب برصاصة في رأسه. وفي السرير المجاور يرقد طفل أصغر يعاني من نفس الإصابة. أصابهما قناص أمريكي هما وجدتهما عندما غادروا منزلهم هربا من الفلوجة.
انقطعت الكهرباء، فتوقفت المراوح عن الدوران، وخلال الهدوء الذي حل فجأة قرّب شخص ما شعلة قداحة سجائر من الجرّاح ليواصل إجراء العملية على ضوئها
انقطعت الكهرباء، فتوقفت المراوح عن الدوران، وخلال الهدوء الذي حل فجأة قرّب شخص ما شعلة قداحة سجائر من الجرّاح ليواصل إجراء العملية على ضوئها. تم قطع الكهرباء عن المدينة منذ أيام، وعندما ينفد البنزين من مولدات الكهرباء يجب عليهم في العيادة أن يدبروا أمورهم حتى تعود المولدات للعمل. أهداهم "ديف" مصباحه اليدوي.
"لن ينجو الطفلان" قال مكي لي "تعالي"، وقادني إلى غرفة تم فيها للتو خياطة جرح ناري في بطن الجدة العجوز. ساعتها كان يتم إجراء الغيار لجرح آخر في ساقها. كان الفراش تحتها غارقاً في الدماء، وكانت يدها لا تزال قابضة على علم أبيض، وحكت قصتها: "غادرت منزلي لأذهب إلى بغداد، في الطريق أصابني قناص أمريكي". بعض أجزاء المدينة يسيطر عليها المارينز، والبعض الآخر يسيطر عليه المقاتلون المحليون. يقع منزل الجرحى في المنطقة التي يسيطر عليها الأمريكيون، وهم مصممون على أن القناصة كانوا أمريكيين.
لا يقتصر الأمر على تسبب القناصة في مجازر، بل إنهم مسئولون أيضا عن إصابة خدمات الإسعاف والإجلاء بالشلل؛ فأكبر مستشفى متبق بعد قصف الأمريكيين للمستشفى الرئيسي يقع في المنطقة التي يسيطر عليها الأمريكيون، ولا يمكن الوصول إليه من العيادة بسبب القناصة. تم إصلاح عربة الإسعاف أربع مرات بعد تعرضها لإطلاق النار، والجثث ممددة في الشوارع، ومن يذهب لرفعها يتعرض لإطلاق النار.
قال بعض الأصدقاء: إننا مصابون بالجنون وأكثر لمجيئنا للعراق، قالوا: إننا مجنونون كلية لمجيئنا للفلوجة، والآن يقولون لي: إن الركوب في مؤخرة العربة نصف النقل والعبور أمام القناصة لإحضار المرضى والمصابين هو أكثر الأشياء التي رأوها في حياتهم جنوناً. أعرف ذلك ولكن إذا لم نفعل ذلك؛ فلا يوجد من سيقوم به.
كان يحمل علماً أبيض مرسوما عليه هلال أحمر، لم أعرف اسمه. لوح لنا الرجال الذين مررنا بهم عندما شرح لهم السائق مهمتنا. كان الصمت موحشاً في أرض اللاأحد الفاصلة بين منطقة المجاهدين، الواقعة خلف التقاطع؛ حيث توقفت عربتنا نصف النقل، وبين منطقة المارينز التي تبدأ من خلف الجدار المواجه لنا لا طيور، لا موسيقى، لا إشارة تدل على أن هناك أشخاصا على قيد الحياة، حتى انفتحت بوابة في مواجهتنا وخرجت منها امرأة وأشارت لنا.
تقدمنا ببطء وحذر تجاه الفتحة في الجدار؛ حيث رأينا عربة محاطة بقذائف هاون مستعملة، وقدمين ظاهرتين، متقاطعتين في حالة سيئة. كان القناصة ظاهرين أيضا؛ حيث رأينا اثنين منهم فوق أحد المباني. ولكنني أعتقد أنهم لم يرونا بعد؛ ولذلك كان من الضروري أن نعلمهم بوجودنا.
صرخت بأعلى صوتي: "هالو.. هل تستطيعون سماعي؟". لا بد أنهم سمعوني، فلم يكونوا يبعدون عنا سوى 30 مترا، وكان باستطاعتنا أن نسمع طنين الذباب الذي يبعد 50 خطوة. كررت ندائي عدة مرات دون أن أسمع أي إجابة. ولذلك قررت أن أوضح الأمر بصورة أكبر: "نحن فريق طبي.. نريد أن ننقل هذا الرجل المصاب. هل يمكننا أن نخرج ونحضره؟ هل يمكنك أن تعطينا إشارة أن بإمكاننا القيام بذلك؟".
كنت واثقة من أنهم سمعوني، ولكنهم لم يجيبوا. ربما لم يفهموا ما أقول، ولذلك كررت ما قلته مرة أخرى. ردده "ديف" أيضا بلهجته الأمريكية، ورددته مرة أخرى، وأخيراً بدا لي أنني سمعت ردًّا؛ ولأنني كنت غير واثقة سألت مجدداً:
"هالو؟"
"نعم"
"هل يمكننا أن نخرج ونحضره؟".
"نعم"
خرجنا ببطء وأيدينا مرفوعة في الهواء. حملت السحابة السوداء التي تصاعدت رائحة مرة وساخنة. كانت ساقاه ثقيلتين عندما حاولت حملهما معاً فتركتهما لرنا وديف، في حين رفعه دليلنا من وسطه. كان الكلاشينكوف ملتصقاً بدم متجلط بشعره ويده، ولم أرد أن نحمله معنا؛ ولذلك وضعت قدمي عليه ورفعته من كتفيه، عندها سال دمه من فتحة في ظهره. أسرعنا بحمله إلى العربة نصف النقل، محاولين أن نسبق الذباب.
أعتقد أنه كان يرتدي شبشباً؛ لأنه كان حافي القدمين
سحب المعاونون في العيادة المقاتل الشاب من العربة، فانسكب سائل أصفر من فمه
ساعتها. لم يبد عليه أنه يبلغ أكثر من عشرين عاماً، يرتدي "سروالا نايك" رياضيا مقلدا وفانلة كرة قدم بخطوط طولية زرقاء وسوداء، ورقم 28 مكتوب بخط كبير على الظهر. سحب المعاونون في العيادة المقاتل الشاب من العربة، فانسكب سائل أصفر من فمه، فقلبوه ليرقد على ظهره، واندفعوا به مباشرة باتجاه المقبرة المؤقتة في حين أفسح الجميع الطريق أمامهم إلى العيادة.
غسلنا أيدينا من آثار الدماء، وركبنا عربة الإسعاف. كان هناك أشخاص عالقون في المستشفى الآخر بحاجة للذهاب إلى بغداد. بسرينة صارخة وأنوار موقدة احتشدنا معاً على أرضية عربة الإسعاف مخرجين جوازات سفرنا وبطاقات هويتنا خارج النافذة.
هناك ملأنا العربة بالناس، أحدهم بأنبوب مركب في صدره، وآخر على نقالة وقدماه تنتفضان بعنف، فاضطررت للإمساك بهما بينما كنا ننقله إلى العربة ونرفعه عبر السلالم.
للمستشفى قدرة أفضل على معالجة الحالات من العيادة، ولكن هناك نقص كبير في الإمكانيات بالمستشفى، والطريقة الوحيدة لنقلهم إلى بغداد هي حافلتنا؛ مما يعني أن عليهم الذهاب إلى العيادة. تجمعنا سويا في أرضية العربة لاحتمال إطلاق النار علينا. كانت الطبيبة نسرين التي تماثلني في العمر عاجزة عن منع دموعها من أن تسيل عندما خرجنا.
اندفع طبيب إلى الخارج وسألني: "هل بإمكانك إحضار سيدة؟ إنها حامل وتضع طفلها قبل التمام".
كان عزام يقود العربة، وأحمد في المنتصف يوجهه، وأجلس أنا إلى جوار النافذة: الأجنبي الظاهر، جواز السفر. سقط شيء في يدي في نفس الوقت الذي سمعت فيه صوت رصاصة تصيب عربة الإسعاف، وانفصل جزء بلاستيكي منها وسقط من النافذة.
توقفنا وأطفأنا السرينة، وأبقينا الضوء الأزرق. انتظرنا مراقبين سيلويت الرجال الذين يرتدون ملابس المارينز فوق أسطح المباني. أتت طلقات أخرى، فانخفضنا إلى أقصى قدر ممكن، واستطعت أن أرى أضواءً حمراء صغيرة تنطلق بالقرب من النافذة قريبة من رأسي. البعض منها ربما أصاب العربة. شرعت في الغناء. ما الذي يمكنك أن تفعله سوى أن تغني عندما يطلق شخص ما النار عليك؟!
انفجر إطار في صوت مدوٍّ، وارتجت العربة.
شعرت بالغضب. نحن نحاول أن نصل إلى امرأة في حالة وضع دون أي رعاية طبية ودون كهرباء في مدينة تحت الحصار، في عربة من الواضح أنها عربة إسعاف، وأنتم تطلقون النار علينا.. كيف تجرؤون؟ كيف تجرؤون؟
أمسك عزام بالقيادة وجعل العربة تسير إلى الخلف. انفجر إطار آخر عندما كنا نعبر الحاجز في منتصف الشارع، واستمر الرصاص في الانهمار ونحن نهرب عبر التقاطع. واصلت الغناء. تمزقت الإطارات نتيجة الاحتكاك واحترق المطاط الممزق.
أسرع الرجال بإحضار نقالة عندما وصلنا. شاهدوا ثقوب الرصاص الجديدة، فأسرعوا ليروا إن كنا على ما يرام. سألتهم: هل هناك طريق آخر للوصول إلى المرأة الحامل؟ أجابوا: "لا، ماكو طريج". قالوا إننا فعلنا الصواب، وإنهم قد أصلحوا عربة الإسعاف أربع مرات حتى الآن وسيصلحونها مرة أخرى، ولكن الرادياتير تم تدميره، الإطارات ملتوية.. لكنها ما زالت في منزلها وحيدة تضع طفلها في الظلام.. لقد خذلتها.
لم نستطع الذهاب مرة أخرى؛ فلا توجد عربة إسعاف، بالإضافة إلى أن حلول الظلام يعني أن وجوهنا الأجنبية لن تكون قادرة على حماية من سيذهبون معنا أو من سنلتقطهم. قال مكي مدير المكان: إنه كره "صدَّام"، ولكنه الآن يكره الأمريكيين أكثر.
خلعنا الأردية الطبية الزرقاء، ودوت انفجارات في السماء خلف المبنى المواجه لنا. بعد دقائق معدودة ظهرت عربة مسرعة. استطعت أن أسمعه يصرخ قبل أن أرى أنه مسلوخ بلا جلد على جسده. بالتأكيد لا يوجد ما يستطيعون فعله، سيموت من الجفاف في غضون أيام.
حملوا رجلاً آخر من العربة إلى النقالة، وقالوا: السبب قنابل عنقودية، ولكنني لست متأكدة إذا ما كانوا يعنون شخصاً واحداً أم الشخصين معا. شرعنا في المشي باتجاه منزل السيد ياسر، منتظرين عند كل تقاطع أن يفحص أحدنا الشارع قبل أن نعبر. سقطت كرة من اللهب من طائرة، ثم انفصلت إلى كرات أصغر من الأضواء البيضاء اللامعة. خطر ببالي أنها قنابل عنقودية؛ لأنني كنت أفكر فيها، ولكنها سرعان ما اختفت. لم تكن سوى شعلات مغنسيوم لامعة جدًّا، ولكنها تدوم لوقت قصير، معطية صورة مضيئة للمدينة من الأعلى.
طلب منا ياسر أن نقدم أنفسنا، أخبرته أنني أتدرب لأكون محامية. سألني رجل آخر إذا ما كنت أعرف شيئاً عن القانون الدولي، فقد كانوا يريدون أن يعرفوا قوانين جرائم الحرب وما الذي يشكل جريمة حرب. أخبرته أنني أعرف عدداً من بنود اتفاقية جنيف، وأنني سأحضر المزيد من المعلومات في المرة القادمة، ويمكننا أن نجد من يشرحها لهم بالعربية.
طرحنا مسألة الرهينة اليابانية "نايوكو" عليهم، ولكن لم تكن لمجموعة المقاتلين هذه أي علاقة بمن اختطفوا اليابانيين، ولكن خلال شكرهم لنا على ما فعلناه هذا المساء حدثناهم عن الأشياء التي قامت بها "نايوكو" لأطفال الشوارع ومقدار حبهم لها. لم يستطيعوا أن يعدونا بشيء، ولكنهم قالوا إنهم سيحاولون أن يعرفوا أين هي ليقنعوا الخاطفين بإطلاق سراحها. لم أعتقد أن هذا سيؤدي إلى أي نتيجة؛ فهم مشغولون بخوضهم حرباً في الفلوجة، ولا علاقة تربطهم بالمجموعة الأخرى، ولكن لن تضير المحاولة شيئاً.
كانت الطائرات تحلق فوقنا طوال الليل، ولذلك في لحظات غفوي القليلة اعتقدت أنني مسافرة على طائرة في رحلة عابرة للقارات. كان هناك صوت عميق مستمر لطائرات استطلاع دون طيار، تغطيه الأصوات العنيفة للطائرات المقاتلة والخفقات المميزة لطائرات الهليكوبتر. ويقطع كل ذلك بين حين وآخر أصوات الانفجارات.
في الصباح صنعت بالونات على شكل كلاب وفيلة وزراف للطفل عبد الله الذي ينادونه عبودي، والذي كان بادي الضيق من ضجيج الطائرات والانفجارات. وأخيراً أخيراً، نجحت في رسم ابتسامة على شفتيه، كما ضحك التوءمان أيضاً. كانا في الثالثة عشرة من عمرهما، وكان أحدهما سائق عربة إسعاف، وكلاهما -كما قيل لي- يجيد استخدام الكلاشينكوف.
أحدهم قد نام 8 ساعات فقط في الأسبوع الماضي كله، مفوتاً حضور جنازة أخيه وعمته؛ لأنهم كانوا يحتاجونه في المستشفى
كان الإرهاق بادياً على وجوه الأطباء في ذلك الصباح؛ فلم ينم أي منهم أكثر من ساعتين في اليوم لمدة أسبوع، بل إن أحدهم قد نام 8 ساعات فقط في الأسبوع الماضي كله، مفوتاً حضور جنازة أخيه وعمته؛ لأنهم كانوا يحتاجونه في المستشفى.
قال جاسم: "لا نستطيع مساعدة الموتى، لا بد من أن أقلق على الجرحى".
ذهبنا من جديد: رنا وديف وأنا.. هذه المرة في عربة نصف نقل. كان هناك مرضى بالقرب من خطوط المارينز يجب إجلاؤهم. لا يجرؤ أحد على الخروج من منزله هناك؛ لأن المارينز متمركزون فوق أسطح البيوت ويطلقون النار على أي شيء يتحرك. جلب لنا سعد علماً أبيض وأخبرنا بأن لا نقلق؛ لأنه قد رتب الأمور مع المجاهدين الذين لن يطلقوا النار علينا، ودعا لنا سعد بالسلامة، هذا الطفل ذو العينين البنيتين اللامعتين الذي يبلغ أحد عشر عاماً من العمر ويغطي وجهه بكوفية، ويحمل كلاشينكوف يكاد يماثله في الطول، دعا لنا بالسلامة.
هتفنا للجنود مرة أخرى عندما وصلنا حاملين العلم الأبيض الذي رسمنا عليه هلالا أحمر. ظهر اثنان منهم من المبنى لتغطية ذلك الجانب. غمغمت رنا: "الله أكبر، من فضلكم لا تطلقوا النار عليهما". هبطنا من العربة وأخبرناهم أننا نريد إجلاء مرضى من هذه البيوت، فطلبوا من رنا أن تحضر العائلة الموجودة في المنزل الذي يتمركزون على سطحه. 13 امرأة وطفلا محتجزين في غرفة واحدة من دون طعام ولا ماء ليوم كامل!!
قال أعلاهم رتبة "سنقوم بالدخول لإخلاء هذه البيوت سريعاً".
- "ما الذي يعنيه الدخول لإخلاء البيوت؟".
-"سندخل كل بيت منها لنبحث عن أسلحة". نظر لساعته دون أن يقدر -بالتأكيد- على إخباري بموعد عمليتهم، ولكن سيكون هناك غارات جوية لدعمهم، ثم قال: "إذا كان عليكم أن تقوموا بهذا فعليكم أن تسرعوا".
ذهبنا في البداية إلى الشارع الجانبي الذي جئنا من أجله. كان هناك رجل يرتدي دشداشة بيضاء، وجهه إلى أسفل، وكانت هناك بقعة حمراء صغيرة على ظهره. ركضنا باتجاهه ومرة أخرى وصل الذباب إليه قبلنا. حمله ديف من كتفه وحملته من ركبتيه، وبينما كنا ننقله إلى المحفة دخلت يد ديف في ثقب في صدره، ثقب رصاصة اخترقت ظهره بإتقان مفجرة قلبه خارج صدره.
لم يكن يحمل سلاحاً. وبمجرد وصولنا خرج ولداه باكيين صارخين: "لقد كان غير مسلح، كل ما فعله هو أن خرج من البوابة فأطلقوا النار عليه". لم يجرؤ أحدهما على الخروج من ساعتها. لم يجرؤا على الاقتراب من جسد والدهما. ظلا خائفين مرعوبين مضطرين أن يخرقوا التقاليد الإسلامية التي تحث على سرعة دفن الموتى. لم يعرفا أننا قادمون. كان غير مسلح وفي الخامسة والخمسين من عمره وأطلقوا عليه النار في ظهره.
غطينا وجهه وحملناه إلى العربة نصف النقل، فلم نجد ما نغطي به جسده. ساعدنا بعدها المرأة المريضة في الخروج من منزلها، وأحاطت بها بناتها الصغيرات اللاتي كن يضمن إليهن حقائب قماشية وهمسن: "بابا، بابا". مرتجفات، تركننا نتقدمهن، فرفعنا أيدينا وقدناهن إلى العربة مغطين وجوههن حتى لا يرونه، حتى لا يرون الرجل السمين الميت متصلب الظهر.
بدا ساعتها أن البيوت تفيض بالناس فتلفظهم خارجها، هناك رجال ونساء وأطفال خرجوا على أمل أن نتمكن من اصطحابهم بعيداً عن خط النار، ثم سألونا في قلق إذا كان باستطاعتهم جميعاً المجيء، أم أن النساء والأطفال فقط هم الذين يمكنهم القيام بذلك. ذهبنا لنسأل فأخبرنا جندي المارينز الشاب أن الرجال في سن القتال لا يُسمح لهم بالمغادرة. "ما هي سن القتال؟"، أي شخص عمره أقل من خمسة وأربعين عاماً، ودون حد أدنى.
روعتني فكرة أن يبقى هؤلاء الرجال محاصرين في مدينة على وشك أن تدمر. ليسوا جميعاً مقاتلين وليسوا جميعاً مسلحين. سيحدث لهم ما يحدث بعيداً عن أنظار العالم، وبعيداً عن عيون أجهزة الإعلام؛ لأن معظم أجهزة الإعلام في الفلوجة إما مرافقة للمارينز أو لم يتم السماح لها بدخول المدينة فظلت عند أطرافها، وقبل أن نعود لنخبر الأهالي برد جنود المارينز دوى انفجاران فتفرقت حشود الأهالي هاربة من الشارع الجانبي إلى بيوتها.
كانت رنا لا تزال تساعد الجنود في إجلاء العائلة التي تقطن المنزل الذي يحتله المارينز. لم تعد العربة نصف النقل بعد، وظلت العائلات مختبئة خلف جدران بيوتها، وانتظرنا لأنه لا يوجد شيء آخر يمكننا أن نفعله. انتظرنا في أرض اللاأحد، وكان المارينز يراقبوننا عبر المناظير المعظمة، وربما كان المجاهدون يراقبوننا أيضا.
كان لدي منديل سحري في جيبي؛ ولذا وبينما كنت جالسة منكمشة مثل ليمونة، دون أن أكون قادرة على الحركة وأصوات الرصاص والانفجارات في كل مكان، أخذت في جعل المنديل يظهر ويختفي، يظهر ويختفي. من الأفضل على ما أعتقد أن تبدو غير مبالٍ ولا تشكل أي نوع من أنواع التهديد، فتتجنب أن تبعث القلق في نفس شخص ما لدرجة أن يطلق النار عليك. تأخرت رنا جدًّا، لا بد أن نذهب لنطلب منها أن تسرع، وعندما عادت كان في مجموعتها رجل شاب نجحت في إقناع الجنود بتركه يغادر هو الآخر.
أراد الرجل أن نستخدم سيارة الشرطة الخاصة به لنقل المزيد من الأشخاص: عدد من النسوة العجائز اللاتي لا يقدرن على المشي وأصغر الأطفال. كان هناك باب ناقص في عربة الشرطة، ومن الصعب التأكد مما إذا كانت هذه عربة شرطة حقًّا، أم أنه تم الاستيلاء عليها، وانتهى بها المطاف هنا؟ لا تهم الحقيقة ما دامت ستساعدنا في إخراج المزيد من الأشخاص بصورة أسرع. أخيراً خرجوا جميعاً من بيوتهم في حذر محتشدين بجوار الجدار، وتبعونا رافعين أيديهم مثلنا، ومشوا عبر الشارع محتضنين أطفالهم الرضع وحقائبهم، وبعضهم البعض.
عادت العربة، فملأناها بأكبر عدد ممكن من الناس، وهنا ظهرت عربة الإسعاف من مكان ما. لوح لي شاب من مدخل ما تبقى مما كان منزلا. كان نصفه الأعلى عارياً، وتحيط بذراعه اليمنى ضمادة مشبعة بالدماء، وكان على الأرجح مقاتلا، ولكن هذا لا يشكل أي فارق ما دام شخصاً مصاباً وغير مسلح.
إحضار الموتى ليس ضرورياً؛ فكما قال جاسم: الموتى لا يحتاجون مساعدة، ولكن إذا كان من السهل إحضارهم فسنقوم به
إحضار الموتى ليس ضرورياً؛ فكما قال جاسم: الموتى لا يحتاجون مساعدة، ولكن إذا كان من السهل إحضارهم فسنقوم به.
كنا على اتفاق مع الجنود، وكانت عربة الإسعاف موجودة هنا، ولذلك أسرعنا لنحضر الجثث؛ فمن المهم في الإسلام أن تدفن الجثث في أسرع وقت ممكن.
تبعتنا عربة الإسعاف؛ فبدأ الجنود في الصياح بالإنجليزية طالبين منها التوقف ومصوبين أسلحتهم نحوها؛ لأنها كانت تتحرك بسرعة. صرخنا جميعاً، وأشرنا لها أن تتوقف، ومر وقت بدا لي أبديًّا حتى رآنا السائق وسمعنا.. لقد توقف. توقف قبل أن يشرعوا في إطلاق النار. وضعنا الجثث على المحفات، وعدوْنا لنكدسهم في مؤخرة عربة الإسعاف، واندست رنا مع الشاب المصاب في المقعد الأمامي، وجلست القرفصاء أنا وديف في الخلف بجوار الجثث. قال ديف إنه أصيب بالحساسية في طفولته، وفقد تقريباً حاسة الشم. تمنيت بأثر رجعي أن أكون قد أصبت بحساسية في طفولتي وأخرجت رأسي خارج النافذة.
كان على العربة أن تغادر، حاملة المصابين إلى بغداد، ومنهم رجل محترق وامرأة مصابة في فكها وكتفها برصاص قناص.. وآخرون غيرهما. قالت رنا إنها ستبقى للمساعدة. وقلت لها أنا وديف: سنبقى نحن أيضا، "إذا لم نقم بذلك فمن سيقوم به؟" أصبحت هذه العبارة شعارا لي. كما أنني عرفت الآن بعد الحادث الأخير عدد الأشخاص والنساء والأطفال الذين ما زالوا في منازلهم؛ إما لأنهم لا يملكون مكاناً آخر ليذهبوا إليه، أو لأنهم خائفون من أن يخطوا خارج منازلهم، أو لأن البقاء في المدينة كان خيارهم.
قال عزام: إن علينا أن نغادر؛ لأنه لا يملك اتصالات مع كل المجموعات المسلحة، ولأن هناك العديد من الأشياء التي يتعين القيام بها؛ فلا بد من نقل هؤلاء الأشخاص إلى بغداد في أسرع وقت ممكن. أما إذا تعرضنا للقتل أو الاختطاف فإن هذا لن يتسبب إلا في المزيد من المشاكل؛ ولذلك فإن أفضل خيار هو أن نركب الحافلة ونغادر ونعود معه إلى الفلوجة في مرة أخرى.
كان مؤلما للغاية أن تركب الحافلة في نفس اللحظة التي يطلب فيها منك طبيب أن تذهب لإجلاء المزيد من الأشخاص. كرهت فكرة أن مسعفاً يمكنه أن ينتقل بواسطة عربة الإسعاف في حين أعجز أنا عن ذلك؛ لمجرد أنني أبدو أختا للقناص أو واحدة من رفيقاته. لكن هذه هي الحال دائماً، بالأمس واليوم والغد. شعرت بأنني خائنة لمغادرتي ولكنني لا أملك خياراً آخر. هناك حرب جارية الآن، وكغريبة لا بد لي أن أنفذ ما يطلب مني، لمرة واحدة أضطر إلى ذلك.
كان جاسم خائفاً، وظل ينبه محمدا، ويحاول جذبه بعيداً عن مقعد السائق حتى والحافلة تسير. رقدت المرأة المصابة بطلق ناري على المقعد الخلفي، والرجل صاحب الحروق أمامها؛ حيث كنا نقوم بتهويته بقطع من الورق المقوى فيما تتأرجح أنابيبه الوريدية التي علقت في سقف الحافلة. كان الجو حارًّا؛ فلا شك في أن الظروف كانت غير محتملة بالنسبة له.
دخل سعد الحافلة ليتمنى لنا رحلة موفقة، وصافح ديف ثم صافحني، فاحتفظت بيده بين يدي وقلت له: "ماذا يدور في بالك؟"، وحقيقة لم يكن هناك شيء آخر أكثر غباءً أقوله لأحد أفراد المجاهدين لم يدخل سنوات مراهقته بعد، فيما يحمل في يده الأخرى مدفع كلاشينكوف. التقت نظراتنا، فثبتت عينيّ في عينيه. كانت عيناه مليئتين باللهب والخوف.
ألا أستطيع أن آخذه بعيداً؟ ألا أستطيع أن آخذه إلى مكان يمكنه فيه أن يكون طفلا؟ ألا أستطيع أن أصنع له بالونة على شكل زرافة، وأعطيه أقلاما ملونة، وأخبره ألا ينسى أن يغسل أسنانه؟ ألا أستطيع أن أجد ذلك الذي وضع بندقية بين يدي هذا الصبي الصغير؟ ألا أستطيع أن أخبر شخصاً ما أي تأثير يتركه مثل هذا الأمر على طفل؟ هل عليّ أن أتركه هنا محاطاً برجال مدججين بالسلاح، والعديد منهم ليس في جانبه؟ بالطبع عليّ فعل ذلك، عليّ أن أتركه هنا مثل كل الأطفال المجندين في كل مكان.
كانت رحلة العودة مرهقة؛ حيث كادت الحافلة أن تنغرس في حفرة من الرمال. كان الناس يهربون مستخدمين أي شيء -حتى تكدسوا على ظهر تراكتور- فكانت هناك صفوف من العربات والحافلات والعربات "نصف نقل" تعبر بركابها إلى الملجأ المبهم: بغداد، وكانت هناك صفوف من عربات تحمل رجالاً عائدين للمدينة -بعد أن اطمأنوا على وصول عائلاتهم لبر الأمان- إما للقتال أو لإجلاء المزيد من الأشخاص. تجاهل جاسم سائقنا عزام ابنه، وسلك طريقاً آخر، فوجدنا فجأة أننا لا نتبع سيارة الدليل، وأننا في طريق تسيطر عليه جماعة مسلحة أخرى غير الجماعة التي تعرفنا.
لوحت جماعة من الرجال بأسلحتها، وأمرتنا بالتوقف بصورة وكأنهم يؤمنون أن هناك جنوداً أمريكيين على متن الحافلة -وكأنهم سيكونون عوضاً عن الدبابات وطائرات الهليكوبتر- ومن عربات أخرى خرج الركاب هاتفين: "صحفي أمريكي". وهتف أحد ركابنا من النافذة: "أنا من الفلوجة"، فهرع الرجال المسلحون ليتأكدوا من صحة ذلك، فرأوا أن هناك مرضى ومصابين ومسنين عراقيين. استرخوا بعدها، وأشاروا لنا بالمرور.
توقفنا في أبو غريب، وبدلنا مقاعدنا لنجعل الأجانب في المقدمة والعراقيين في الخلف، وخلعنا أغطية الرأس لنبدو غربيين أكثر. كان الجنود الأمريكيون في غاية السعادة لرؤية غربيين؛ لدرجة أنهم لم يهتموا كثيراً بالعراقيين معنا، وفتشوا الحافلة والرجال، ولم يفتشوا النساء؛ لأنه لم يكن معهم مجندات. ظل محمد يسألني إن كانت الأمور ستكون على ما يرام، فقلت له: "الملايكة ويانا"، فضحك. وصلنا بغداد، فقمنا بتوصيلهم إلى المستشفيات. بكت نهى وهم يأخذون الرجل المحترق وهو يئن ويتأوه ويتشنج. أحاطتني بذراعيها، وطلبت مني أن أكون صديقتها، فأنا أشعرها بأنها أقل وِحدة.. أقل عزلة.
في القنوات الفضائية قالوا: إن الهدنة ما زالت مستمرة في الفلوجة، وقال جورج بوش لقواته في أحد الفصح: "أعرف أننا نقوم بالأمر الصحيح في العراق".
هل إطلاق النار على ظهور الرجال العزل أمام منزل عائلتهم أمر صحيح؟!
هل إطلاق النار على الجدات اللاتي يحملن أعلاماً بيضاء أمر صحيح؟!
هل إطلاق الرصاص على عربات الإسعاف أمر صحيح؟!
حسناً يا جورج، أنا أيضا أعرف. أعرف كيف يمكن أن تقمع أناسا لدرجة لا يتبقى فيها لديهم ما يخسرونه. أعرف كيف يبدو إجراء عملية جراحية دون تخدير؛ لأن المستشفيات مدمرة، أو معرضة لرصاص القناصة، والمدينة تحت الحصار، والمساعدات تفشل في الدخول. أعرف أيضا صوت الرصاص الذي يعبر بجوار رأسك على الرغم من أنك داخل عربة إسعاف. أعرف كيف يبدو رجل لم يعد صدره بداخله، وأعرف رائحة ذلك أيضا، وأعرف كيف يبدو الأمر عندما تخرج زوجته مع أطفاله من منزله.
إنها لجريمة وعار علينا جميعاً.
تبِعت الحافلة عربة يقودها نجل شقيق أحد الشيوخ المحليين، وبجواره دليل صاحب اتصالات مع المجاهدين، قام بترتيب مرورنا معهم. كنت موجودة على هذه الحافلة؛ لأن أحد الصحفيين الذين أعرفهم زارني في الحادية عشر مساء؛ ليخبرني بأن الأوضاع يائسة في الفلوجة، وأنه قام بإخراج أطفال بأطراف ممزقة منها، وأن الجنود الأمريكيين يجوبون البلدة مخبرين الجميع أن عليهم المغادرة قبل الغسق أو التعرض للقتل، ولكن حينها عندما فر الناس حاملين ما استطاعوا حمله أوقفهم الأمريكيون عند نقاط التفتيش على أطراف المدينة دون أن يسمحوا لهم بالخروج، وهكذا ظلوا محاصرين يشاهدون غروب الشمس.
قال الصحفي: إن العربات وأجهزة الإعلام رفضت السماح لهم بالدخول. وأضاف: هناك مساعدات طبية يجب أن تدخل، وهناك فرصة أفضل لعبور الحواجز الأمريكية إذا كان هناك أجانب غربيون على متن الحافلة.. بقية الطريق كان مؤمَّنا بواسطة المجموعات المسلحة التي تسيطر على المنطقة. سندخل المساعدات الطبية، ونرى ما الذي يمكننا أن نفعله لمساعدة الناس هناك، ثم نستخدم الحافلة لإخراج من يحتاجون الخروج.
سأوفر عليكم وصف كيف اتخذت القرار، وكل الأسئلة التي سألناها أنفسنا
سأوفر عليكم وصف كيف اتخذت القرار، وكل الأسئلة التي سألناها أنفسنا وبعضنا الآخر، ويمكنكم أن توفروا اتهاماتكم لي بالجنون. ولكن ما خطر ببالي في تلك اللحظة: إذا لم أقم بهذا.. فمن سيقوم به؟ أيًّا كان فإننا وصلنا إلى هناك سالمين.
حملنا الصناديق إلى الردهة فتم فتحها على الفور، ورحبوا جدًّا بالبطاطين. لم تكن مستشفى على الإطلاق، بل عيادة خاصة مملوكة لجراح يعالج الناس مجاناً منذ أن دمر القصف مستشفى المدينة الرئيسي. وتم استحداث عيادة أخرى في جراج للسيارات. كانت أكياس الدم مخزنة في برادات حفظ المشروبات، ويقوم الأطباء بتسخينها تحت صنبور للمياه الساخنة في حمام غير معقم.
دخلت نسوة يصرخن، ويلطمن وجوههن وصدورهن. وصرخت إحداهن: "أمي". احتضنتها حتى جذبني مدير العيادة "مكي" إلى جوار سرير يرقد عليه طفل في حوالي العاشرة من عمره، مصاب برصاصة في رأسه. وفي السرير المجاور يرقد طفل أصغر يعاني من نفس الإصابة. أصابهما قناص أمريكي هما وجدتهما عندما غادروا منزلهم هربا من الفلوجة.
انقطعت الكهرباء، فتوقفت المراوح عن الدوران، وخلال الهدوء الذي حل فجأة قرّب شخص ما شعلة قداحة سجائر من الجرّاح ليواصل إجراء العملية على ضوئها
انقطعت الكهرباء، فتوقفت المراوح عن الدوران، وخلال الهدوء الذي حل فجأة قرّب شخص ما شعلة قداحة سجائر من الجرّاح ليواصل إجراء العملية على ضوئها. تم قطع الكهرباء عن المدينة منذ أيام، وعندما ينفد البنزين من مولدات الكهرباء يجب عليهم في العيادة أن يدبروا أمورهم حتى تعود المولدات للعمل. أهداهم "ديف" مصباحه اليدوي.
"لن ينجو الطفلان" قال مكي لي "تعالي"، وقادني إلى غرفة تم فيها للتو خياطة جرح ناري في بطن الجدة العجوز. ساعتها كان يتم إجراء الغيار لجرح آخر في ساقها. كان الفراش تحتها غارقاً في الدماء، وكانت يدها لا تزال قابضة على علم أبيض، وحكت قصتها: "غادرت منزلي لأذهب إلى بغداد، في الطريق أصابني قناص أمريكي". بعض أجزاء المدينة يسيطر عليها المارينز، والبعض الآخر يسيطر عليه المقاتلون المحليون. يقع منزل الجرحى في المنطقة التي يسيطر عليها الأمريكيون، وهم مصممون على أن القناصة كانوا أمريكيين.
لا يقتصر الأمر على تسبب القناصة في مجازر، بل إنهم مسئولون أيضا عن إصابة خدمات الإسعاف والإجلاء بالشلل؛ فأكبر مستشفى متبق بعد قصف الأمريكيين للمستشفى الرئيسي يقع في المنطقة التي يسيطر عليها الأمريكيون، ولا يمكن الوصول إليه من العيادة بسبب القناصة. تم إصلاح عربة الإسعاف أربع مرات بعد تعرضها لإطلاق النار، والجثث ممددة في الشوارع، ومن يذهب لرفعها يتعرض لإطلاق النار.
قال بعض الأصدقاء: إننا مصابون بالجنون وأكثر لمجيئنا للعراق، قالوا: إننا مجنونون كلية لمجيئنا للفلوجة، والآن يقولون لي: إن الركوب في مؤخرة العربة نصف النقل والعبور أمام القناصة لإحضار المرضى والمصابين هو أكثر الأشياء التي رأوها في حياتهم جنوناً. أعرف ذلك ولكن إذا لم نفعل ذلك؛ فلا يوجد من سيقوم به.
كان يحمل علماً أبيض مرسوما عليه هلال أحمر، لم أعرف اسمه. لوح لنا الرجال الذين مررنا بهم عندما شرح لهم السائق مهمتنا. كان الصمت موحشاً في أرض اللاأحد الفاصلة بين منطقة المجاهدين، الواقعة خلف التقاطع؛ حيث توقفت عربتنا نصف النقل، وبين منطقة المارينز التي تبدأ من خلف الجدار المواجه لنا لا طيور، لا موسيقى، لا إشارة تدل على أن هناك أشخاصا على قيد الحياة، حتى انفتحت بوابة في مواجهتنا وخرجت منها امرأة وأشارت لنا.
تقدمنا ببطء وحذر تجاه الفتحة في الجدار؛ حيث رأينا عربة محاطة بقذائف هاون مستعملة، وقدمين ظاهرتين، متقاطعتين في حالة سيئة. كان القناصة ظاهرين أيضا؛ حيث رأينا اثنين منهم فوق أحد المباني. ولكنني أعتقد أنهم لم يرونا بعد؛ ولذلك كان من الضروري أن نعلمهم بوجودنا.
صرخت بأعلى صوتي: "هالو.. هل تستطيعون سماعي؟". لا بد أنهم سمعوني، فلم يكونوا يبعدون عنا سوى 30 مترا، وكان باستطاعتنا أن نسمع طنين الذباب الذي يبعد 50 خطوة. كررت ندائي عدة مرات دون أن أسمع أي إجابة. ولذلك قررت أن أوضح الأمر بصورة أكبر: "نحن فريق طبي.. نريد أن ننقل هذا الرجل المصاب. هل يمكننا أن نخرج ونحضره؟ هل يمكنك أن تعطينا إشارة أن بإمكاننا القيام بذلك؟".
كنت واثقة من أنهم سمعوني، ولكنهم لم يجيبوا. ربما لم يفهموا ما أقول، ولذلك كررت ما قلته مرة أخرى. ردده "ديف" أيضا بلهجته الأمريكية، ورددته مرة أخرى، وأخيراً بدا لي أنني سمعت ردًّا؛ ولأنني كنت غير واثقة سألت مجدداً:
"هالو؟"
"نعم"
"هل يمكننا أن نخرج ونحضره؟".
"نعم"
خرجنا ببطء وأيدينا مرفوعة في الهواء. حملت السحابة السوداء التي تصاعدت رائحة مرة وساخنة. كانت ساقاه ثقيلتين عندما حاولت حملهما معاً فتركتهما لرنا وديف، في حين رفعه دليلنا من وسطه. كان الكلاشينكوف ملتصقاً بدم متجلط بشعره ويده، ولم أرد أن نحمله معنا؛ ولذلك وضعت قدمي عليه ورفعته من كتفيه، عندها سال دمه من فتحة في ظهره. أسرعنا بحمله إلى العربة نصف النقل، محاولين أن نسبق الذباب.
أعتقد أنه كان يرتدي شبشباً؛ لأنه كان حافي القدمين
سحب المعاونون في العيادة المقاتل الشاب من العربة، فانسكب سائل أصفر من فمه
ساعتها. لم يبد عليه أنه يبلغ أكثر من عشرين عاماً، يرتدي "سروالا نايك" رياضيا مقلدا وفانلة كرة قدم بخطوط طولية زرقاء وسوداء، ورقم 28 مكتوب بخط كبير على الظهر. سحب المعاونون في العيادة المقاتل الشاب من العربة، فانسكب سائل أصفر من فمه، فقلبوه ليرقد على ظهره، واندفعوا به مباشرة باتجاه المقبرة المؤقتة في حين أفسح الجميع الطريق أمامهم إلى العيادة.
غسلنا أيدينا من آثار الدماء، وركبنا عربة الإسعاف. كان هناك أشخاص عالقون في المستشفى الآخر بحاجة للذهاب إلى بغداد. بسرينة صارخة وأنوار موقدة احتشدنا معاً على أرضية عربة الإسعاف مخرجين جوازات سفرنا وبطاقات هويتنا خارج النافذة.
هناك ملأنا العربة بالناس، أحدهم بأنبوب مركب في صدره، وآخر على نقالة وقدماه تنتفضان بعنف، فاضطررت للإمساك بهما بينما كنا ننقله إلى العربة ونرفعه عبر السلالم.
للمستشفى قدرة أفضل على معالجة الحالات من العيادة، ولكن هناك نقص كبير في الإمكانيات بالمستشفى، والطريقة الوحيدة لنقلهم إلى بغداد هي حافلتنا؛ مما يعني أن عليهم الذهاب إلى العيادة. تجمعنا سويا في أرضية العربة لاحتمال إطلاق النار علينا. كانت الطبيبة نسرين التي تماثلني في العمر عاجزة عن منع دموعها من أن تسيل عندما خرجنا.
اندفع طبيب إلى الخارج وسألني: "هل بإمكانك إحضار سيدة؟ إنها حامل وتضع طفلها قبل التمام".
كان عزام يقود العربة، وأحمد في المنتصف يوجهه، وأجلس أنا إلى جوار النافذة: الأجنبي الظاهر، جواز السفر. سقط شيء في يدي في نفس الوقت الذي سمعت فيه صوت رصاصة تصيب عربة الإسعاف، وانفصل جزء بلاستيكي منها وسقط من النافذة.
توقفنا وأطفأنا السرينة، وأبقينا الضوء الأزرق. انتظرنا مراقبين سيلويت الرجال الذين يرتدون ملابس المارينز فوق أسطح المباني. أتت طلقات أخرى، فانخفضنا إلى أقصى قدر ممكن، واستطعت أن أرى أضواءً حمراء صغيرة تنطلق بالقرب من النافذة قريبة من رأسي. البعض منها ربما أصاب العربة. شرعت في الغناء. ما الذي يمكنك أن تفعله سوى أن تغني عندما يطلق شخص ما النار عليك؟!
انفجر إطار في صوت مدوٍّ، وارتجت العربة.
شعرت بالغضب. نحن نحاول أن نصل إلى امرأة في حالة وضع دون أي رعاية طبية ودون كهرباء في مدينة تحت الحصار، في عربة من الواضح أنها عربة إسعاف، وأنتم تطلقون النار علينا.. كيف تجرؤون؟ كيف تجرؤون؟
أمسك عزام بالقيادة وجعل العربة تسير إلى الخلف. انفجر إطار آخر عندما كنا نعبر الحاجز في منتصف الشارع، واستمر الرصاص في الانهمار ونحن نهرب عبر التقاطع. واصلت الغناء. تمزقت الإطارات نتيجة الاحتكاك واحترق المطاط الممزق.
أسرع الرجال بإحضار نقالة عندما وصلنا. شاهدوا ثقوب الرصاص الجديدة، فأسرعوا ليروا إن كنا على ما يرام. سألتهم: هل هناك طريق آخر للوصول إلى المرأة الحامل؟ أجابوا: "لا، ماكو طريج". قالوا إننا فعلنا الصواب، وإنهم قد أصلحوا عربة الإسعاف أربع مرات حتى الآن وسيصلحونها مرة أخرى، ولكن الرادياتير تم تدميره، الإطارات ملتوية.. لكنها ما زالت في منزلها وحيدة تضع طفلها في الظلام.. لقد خذلتها.
لم نستطع الذهاب مرة أخرى؛ فلا توجد عربة إسعاف، بالإضافة إلى أن حلول الظلام يعني أن وجوهنا الأجنبية لن تكون قادرة على حماية من سيذهبون معنا أو من سنلتقطهم. قال مكي مدير المكان: إنه كره "صدَّام"، ولكنه الآن يكره الأمريكيين أكثر.
خلعنا الأردية الطبية الزرقاء، ودوت انفجارات في السماء خلف المبنى المواجه لنا. بعد دقائق معدودة ظهرت عربة مسرعة. استطعت أن أسمعه يصرخ قبل أن أرى أنه مسلوخ بلا جلد على جسده. بالتأكيد لا يوجد ما يستطيعون فعله، سيموت من الجفاف في غضون أيام.
حملوا رجلاً آخر من العربة إلى النقالة، وقالوا: السبب قنابل عنقودية، ولكنني لست متأكدة إذا ما كانوا يعنون شخصاً واحداً أم الشخصين معا. شرعنا في المشي باتجاه منزل السيد ياسر، منتظرين عند كل تقاطع أن يفحص أحدنا الشارع قبل أن نعبر. سقطت كرة من اللهب من طائرة، ثم انفصلت إلى كرات أصغر من الأضواء البيضاء اللامعة. خطر ببالي أنها قنابل عنقودية؛ لأنني كنت أفكر فيها، ولكنها سرعان ما اختفت. لم تكن سوى شعلات مغنسيوم لامعة جدًّا، ولكنها تدوم لوقت قصير، معطية صورة مضيئة للمدينة من الأعلى.
طلب منا ياسر أن نقدم أنفسنا، أخبرته أنني أتدرب لأكون محامية. سألني رجل آخر إذا ما كنت أعرف شيئاً عن القانون الدولي، فقد كانوا يريدون أن يعرفوا قوانين جرائم الحرب وما الذي يشكل جريمة حرب. أخبرته أنني أعرف عدداً من بنود اتفاقية جنيف، وأنني سأحضر المزيد من المعلومات في المرة القادمة، ويمكننا أن نجد من يشرحها لهم بالعربية.
طرحنا مسألة الرهينة اليابانية "نايوكو" عليهم، ولكن لم تكن لمجموعة المقاتلين هذه أي علاقة بمن اختطفوا اليابانيين، ولكن خلال شكرهم لنا على ما فعلناه هذا المساء حدثناهم عن الأشياء التي قامت بها "نايوكو" لأطفال الشوارع ومقدار حبهم لها. لم يستطيعوا أن يعدونا بشيء، ولكنهم قالوا إنهم سيحاولون أن يعرفوا أين هي ليقنعوا الخاطفين بإطلاق سراحها. لم أعتقد أن هذا سيؤدي إلى أي نتيجة؛ فهم مشغولون بخوضهم حرباً في الفلوجة، ولا علاقة تربطهم بالمجموعة الأخرى، ولكن لن تضير المحاولة شيئاً.
كانت الطائرات تحلق فوقنا طوال الليل، ولذلك في لحظات غفوي القليلة اعتقدت أنني مسافرة على طائرة في رحلة عابرة للقارات. كان هناك صوت عميق مستمر لطائرات استطلاع دون طيار، تغطيه الأصوات العنيفة للطائرات المقاتلة والخفقات المميزة لطائرات الهليكوبتر. ويقطع كل ذلك بين حين وآخر أصوات الانفجارات.
في الصباح صنعت بالونات على شكل كلاب وفيلة وزراف للطفل عبد الله الذي ينادونه عبودي، والذي كان بادي الضيق من ضجيج الطائرات والانفجارات. وأخيراً أخيراً، نجحت في رسم ابتسامة على شفتيه، كما ضحك التوءمان أيضاً. كانا في الثالثة عشرة من عمرهما، وكان أحدهما سائق عربة إسعاف، وكلاهما -كما قيل لي- يجيد استخدام الكلاشينكوف.
أحدهم قد نام 8 ساعات فقط في الأسبوع الماضي كله، مفوتاً حضور جنازة أخيه وعمته؛ لأنهم كانوا يحتاجونه في المستشفى
كان الإرهاق بادياً على وجوه الأطباء في ذلك الصباح؛ فلم ينم أي منهم أكثر من ساعتين في اليوم لمدة أسبوع، بل إن أحدهم قد نام 8 ساعات فقط في الأسبوع الماضي كله، مفوتاً حضور جنازة أخيه وعمته؛ لأنهم كانوا يحتاجونه في المستشفى.
قال جاسم: "لا نستطيع مساعدة الموتى، لا بد من أن أقلق على الجرحى".
ذهبنا من جديد: رنا وديف وأنا.. هذه المرة في عربة نصف نقل. كان هناك مرضى بالقرب من خطوط المارينز يجب إجلاؤهم. لا يجرؤ أحد على الخروج من منزله هناك؛ لأن المارينز متمركزون فوق أسطح البيوت ويطلقون النار على أي شيء يتحرك. جلب لنا سعد علماً أبيض وأخبرنا بأن لا نقلق؛ لأنه قد رتب الأمور مع المجاهدين الذين لن يطلقوا النار علينا، ودعا لنا سعد بالسلامة، هذا الطفل ذو العينين البنيتين اللامعتين الذي يبلغ أحد عشر عاماً من العمر ويغطي وجهه بكوفية، ويحمل كلاشينكوف يكاد يماثله في الطول، دعا لنا بالسلامة.
هتفنا للجنود مرة أخرى عندما وصلنا حاملين العلم الأبيض الذي رسمنا عليه هلالا أحمر. ظهر اثنان منهم من المبنى لتغطية ذلك الجانب. غمغمت رنا: "الله أكبر، من فضلكم لا تطلقوا النار عليهما". هبطنا من العربة وأخبرناهم أننا نريد إجلاء مرضى من هذه البيوت، فطلبوا من رنا أن تحضر العائلة الموجودة في المنزل الذي يتمركزون على سطحه. 13 امرأة وطفلا محتجزين في غرفة واحدة من دون طعام ولا ماء ليوم كامل!!
قال أعلاهم رتبة "سنقوم بالدخول لإخلاء هذه البيوت سريعاً".
- "ما الذي يعنيه الدخول لإخلاء البيوت؟".
-"سندخل كل بيت منها لنبحث عن أسلحة". نظر لساعته دون أن يقدر -بالتأكيد- على إخباري بموعد عمليتهم، ولكن سيكون هناك غارات جوية لدعمهم، ثم قال: "إذا كان عليكم أن تقوموا بهذا فعليكم أن تسرعوا".
ذهبنا في البداية إلى الشارع الجانبي الذي جئنا من أجله. كان هناك رجل يرتدي دشداشة بيضاء، وجهه إلى أسفل، وكانت هناك بقعة حمراء صغيرة على ظهره. ركضنا باتجاهه ومرة أخرى وصل الذباب إليه قبلنا. حمله ديف من كتفه وحملته من ركبتيه، وبينما كنا ننقله إلى المحفة دخلت يد ديف في ثقب في صدره، ثقب رصاصة اخترقت ظهره بإتقان مفجرة قلبه خارج صدره.
لم يكن يحمل سلاحاً. وبمجرد وصولنا خرج ولداه باكيين صارخين: "لقد كان غير مسلح، كل ما فعله هو أن خرج من البوابة فأطلقوا النار عليه". لم يجرؤ أحدهما على الخروج من ساعتها. لم يجرؤا على الاقتراب من جسد والدهما. ظلا خائفين مرعوبين مضطرين أن يخرقوا التقاليد الإسلامية التي تحث على سرعة دفن الموتى. لم يعرفا أننا قادمون. كان غير مسلح وفي الخامسة والخمسين من عمره وأطلقوا عليه النار في ظهره.
غطينا وجهه وحملناه إلى العربة نصف النقل، فلم نجد ما نغطي به جسده. ساعدنا بعدها المرأة المريضة في الخروج من منزلها، وأحاطت بها بناتها الصغيرات اللاتي كن يضمن إليهن حقائب قماشية وهمسن: "بابا، بابا". مرتجفات، تركننا نتقدمهن، فرفعنا أيدينا وقدناهن إلى العربة مغطين وجوههن حتى لا يرونه، حتى لا يرون الرجل السمين الميت متصلب الظهر.
بدا ساعتها أن البيوت تفيض بالناس فتلفظهم خارجها، هناك رجال ونساء وأطفال خرجوا على أمل أن نتمكن من اصطحابهم بعيداً عن خط النار، ثم سألونا في قلق إذا كان باستطاعتهم جميعاً المجيء، أم أن النساء والأطفال فقط هم الذين يمكنهم القيام بذلك. ذهبنا لنسأل فأخبرنا جندي المارينز الشاب أن الرجال في سن القتال لا يُسمح لهم بالمغادرة. "ما هي سن القتال؟"، أي شخص عمره أقل من خمسة وأربعين عاماً، ودون حد أدنى.
روعتني فكرة أن يبقى هؤلاء الرجال محاصرين في مدينة على وشك أن تدمر. ليسوا جميعاً مقاتلين وليسوا جميعاً مسلحين. سيحدث لهم ما يحدث بعيداً عن أنظار العالم، وبعيداً عن عيون أجهزة الإعلام؛ لأن معظم أجهزة الإعلام في الفلوجة إما مرافقة للمارينز أو لم يتم السماح لها بدخول المدينة فظلت عند أطرافها، وقبل أن نعود لنخبر الأهالي برد جنود المارينز دوى انفجاران فتفرقت حشود الأهالي هاربة من الشارع الجانبي إلى بيوتها.
كانت رنا لا تزال تساعد الجنود في إجلاء العائلة التي تقطن المنزل الذي يحتله المارينز. لم تعد العربة نصف النقل بعد، وظلت العائلات مختبئة خلف جدران بيوتها، وانتظرنا لأنه لا يوجد شيء آخر يمكننا أن نفعله. انتظرنا في أرض اللاأحد، وكان المارينز يراقبوننا عبر المناظير المعظمة، وربما كان المجاهدون يراقبوننا أيضا.
كان لدي منديل سحري في جيبي؛ ولذا وبينما كنت جالسة منكمشة مثل ليمونة، دون أن أكون قادرة على الحركة وأصوات الرصاص والانفجارات في كل مكان، أخذت في جعل المنديل يظهر ويختفي، يظهر ويختفي. من الأفضل على ما أعتقد أن تبدو غير مبالٍ ولا تشكل أي نوع من أنواع التهديد، فتتجنب أن تبعث القلق في نفس شخص ما لدرجة أن يطلق النار عليك. تأخرت رنا جدًّا، لا بد أن نذهب لنطلب منها أن تسرع، وعندما عادت كان في مجموعتها رجل شاب نجحت في إقناع الجنود بتركه يغادر هو الآخر.
أراد الرجل أن نستخدم سيارة الشرطة الخاصة به لنقل المزيد من الأشخاص: عدد من النسوة العجائز اللاتي لا يقدرن على المشي وأصغر الأطفال. كان هناك باب ناقص في عربة الشرطة، ومن الصعب التأكد مما إذا كانت هذه عربة شرطة حقًّا، أم أنه تم الاستيلاء عليها، وانتهى بها المطاف هنا؟ لا تهم الحقيقة ما دامت ستساعدنا في إخراج المزيد من الأشخاص بصورة أسرع. أخيراً خرجوا جميعاً من بيوتهم في حذر محتشدين بجوار الجدار، وتبعونا رافعين أيديهم مثلنا، ومشوا عبر الشارع محتضنين أطفالهم الرضع وحقائبهم، وبعضهم البعض.
عادت العربة، فملأناها بأكبر عدد ممكن من الناس، وهنا ظهرت عربة الإسعاف من مكان ما. لوح لي شاب من مدخل ما تبقى مما كان منزلا. كان نصفه الأعلى عارياً، وتحيط بذراعه اليمنى ضمادة مشبعة بالدماء، وكان على الأرجح مقاتلا، ولكن هذا لا يشكل أي فارق ما دام شخصاً مصاباً وغير مسلح.
إحضار الموتى ليس ضرورياً؛ فكما قال جاسم: الموتى لا يحتاجون مساعدة، ولكن إذا كان من السهل إحضارهم فسنقوم به
إحضار الموتى ليس ضرورياً؛ فكما قال جاسم: الموتى لا يحتاجون مساعدة، ولكن إذا كان من السهل إحضارهم فسنقوم به.
كنا على اتفاق مع الجنود، وكانت عربة الإسعاف موجودة هنا، ولذلك أسرعنا لنحضر الجثث؛ فمن المهم في الإسلام أن تدفن الجثث في أسرع وقت ممكن.
تبعتنا عربة الإسعاف؛ فبدأ الجنود في الصياح بالإنجليزية طالبين منها التوقف ومصوبين أسلحتهم نحوها؛ لأنها كانت تتحرك بسرعة. صرخنا جميعاً، وأشرنا لها أن تتوقف، ومر وقت بدا لي أبديًّا حتى رآنا السائق وسمعنا.. لقد توقف. توقف قبل أن يشرعوا في إطلاق النار. وضعنا الجثث على المحفات، وعدوْنا لنكدسهم في مؤخرة عربة الإسعاف، واندست رنا مع الشاب المصاب في المقعد الأمامي، وجلست القرفصاء أنا وديف في الخلف بجوار الجثث. قال ديف إنه أصيب بالحساسية في طفولته، وفقد تقريباً حاسة الشم. تمنيت بأثر رجعي أن أكون قد أصبت بحساسية في طفولتي وأخرجت رأسي خارج النافذة.
كان على العربة أن تغادر، حاملة المصابين إلى بغداد، ومنهم رجل محترق وامرأة مصابة في فكها وكتفها برصاص قناص.. وآخرون غيرهما. قالت رنا إنها ستبقى للمساعدة. وقلت لها أنا وديف: سنبقى نحن أيضا، "إذا لم نقم بذلك فمن سيقوم به؟" أصبحت هذه العبارة شعارا لي. كما أنني عرفت الآن بعد الحادث الأخير عدد الأشخاص والنساء والأطفال الذين ما زالوا في منازلهم؛ إما لأنهم لا يملكون مكاناً آخر ليذهبوا إليه، أو لأنهم خائفون من أن يخطوا خارج منازلهم، أو لأن البقاء في المدينة كان خيارهم.
قال عزام: إن علينا أن نغادر؛ لأنه لا يملك اتصالات مع كل المجموعات المسلحة، ولأن هناك العديد من الأشياء التي يتعين القيام بها؛ فلا بد من نقل هؤلاء الأشخاص إلى بغداد في أسرع وقت ممكن. أما إذا تعرضنا للقتل أو الاختطاف فإن هذا لن يتسبب إلا في المزيد من المشاكل؛ ولذلك فإن أفضل خيار هو أن نركب الحافلة ونغادر ونعود معه إلى الفلوجة في مرة أخرى.
كان مؤلما للغاية أن تركب الحافلة في نفس اللحظة التي يطلب فيها منك طبيب أن تذهب لإجلاء المزيد من الأشخاص. كرهت فكرة أن مسعفاً يمكنه أن ينتقل بواسطة عربة الإسعاف في حين أعجز أنا عن ذلك؛ لمجرد أنني أبدو أختا للقناص أو واحدة من رفيقاته. لكن هذه هي الحال دائماً، بالأمس واليوم والغد. شعرت بأنني خائنة لمغادرتي ولكنني لا أملك خياراً آخر. هناك حرب جارية الآن، وكغريبة لا بد لي أن أنفذ ما يطلب مني، لمرة واحدة أضطر إلى ذلك.
كان جاسم خائفاً، وظل ينبه محمدا، ويحاول جذبه بعيداً عن مقعد السائق حتى والحافلة تسير. رقدت المرأة المصابة بطلق ناري على المقعد الخلفي، والرجل صاحب الحروق أمامها؛ حيث كنا نقوم بتهويته بقطع من الورق المقوى فيما تتأرجح أنابيبه الوريدية التي علقت في سقف الحافلة. كان الجو حارًّا؛ فلا شك في أن الظروف كانت غير محتملة بالنسبة له.
دخل سعد الحافلة ليتمنى لنا رحلة موفقة، وصافح ديف ثم صافحني، فاحتفظت بيده بين يدي وقلت له: "ماذا يدور في بالك؟"، وحقيقة لم يكن هناك شيء آخر أكثر غباءً أقوله لأحد أفراد المجاهدين لم يدخل سنوات مراهقته بعد، فيما يحمل في يده الأخرى مدفع كلاشينكوف. التقت نظراتنا، فثبتت عينيّ في عينيه. كانت عيناه مليئتين باللهب والخوف.
ألا أستطيع أن آخذه بعيداً؟ ألا أستطيع أن آخذه إلى مكان يمكنه فيه أن يكون طفلا؟ ألا أستطيع أن أصنع له بالونة على شكل زرافة، وأعطيه أقلاما ملونة، وأخبره ألا ينسى أن يغسل أسنانه؟ ألا أستطيع أن أجد ذلك الذي وضع بندقية بين يدي هذا الصبي الصغير؟ ألا أستطيع أن أخبر شخصاً ما أي تأثير يتركه مثل هذا الأمر على طفل؟ هل عليّ أن أتركه هنا محاطاً برجال مدججين بالسلاح، والعديد منهم ليس في جانبه؟ بالطبع عليّ فعل ذلك، عليّ أن أتركه هنا مثل كل الأطفال المجندين في كل مكان.
كانت رحلة العودة مرهقة؛ حيث كادت الحافلة أن تنغرس في حفرة من الرمال. كان الناس يهربون مستخدمين أي شيء -حتى تكدسوا على ظهر تراكتور- فكانت هناك صفوف من العربات والحافلات والعربات "نصف نقل" تعبر بركابها إلى الملجأ المبهم: بغداد، وكانت هناك صفوف من عربات تحمل رجالاً عائدين للمدينة -بعد أن اطمأنوا على وصول عائلاتهم لبر الأمان- إما للقتال أو لإجلاء المزيد من الأشخاص. تجاهل جاسم سائقنا عزام ابنه، وسلك طريقاً آخر، فوجدنا فجأة أننا لا نتبع سيارة الدليل، وأننا في طريق تسيطر عليه جماعة مسلحة أخرى غير الجماعة التي تعرفنا.
لوحت جماعة من الرجال بأسلحتها، وأمرتنا بالتوقف بصورة وكأنهم يؤمنون أن هناك جنوداً أمريكيين على متن الحافلة -وكأنهم سيكونون عوضاً عن الدبابات وطائرات الهليكوبتر- ومن عربات أخرى خرج الركاب هاتفين: "صحفي أمريكي". وهتف أحد ركابنا من النافذة: "أنا من الفلوجة"، فهرع الرجال المسلحون ليتأكدوا من صحة ذلك، فرأوا أن هناك مرضى ومصابين ومسنين عراقيين. استرخوا بعدها، وأشاروا لنا بالمرور.
توقفنا في أبو غريب، وبدلنا مقاعدنا لنجعل الأجانب في المقدمة والعراقيين في الخلف، وخلعنا أغطية الرأس لنبدو غربيين أكثر. كان الجنود الأمريكيون في غاية السعادة لرؤية غربيين؛ لدرجة أنهم لم يهتموا كثيراً بالعراقيين معنا، وفتشوا الحافلة والرجال، ولم يفتشوا النساء؛ لأنه لم يكن معهم مجندات. ظل محمد يسألني إن كانت الأمور ستكون على ما يرام، فقلت له: "الملايكة ويانا"، فضحك. وصلنا بغداد، فقمنا بتوصيلهم إلى المستشفيات. بكت نهى وهم يأخذون الرجل المحترق وهو يئن ويتأوه ويتشنج. أحاطتني بذراعيها، وطلبت مني أن أكون صديقتها، فأنا أشعرها بأنها أقل وِحدة.. أقل عزلة.
في القنوات الفضائية قالوا: إن الهدنة ما زالت مستمرة في الفلوجة، وقال جورج بوش لقواته في أحد الفصح: "أعرف أننا نقوم بالأمر الصحيح في العراق".
هل إطلاق النار على ظهور الرجال العزل أمام منزل عائلتهم أمر صحيح؟!
هل إطلاق النار على الجدات اللاتي يحملن أعلاماً بيضاء أمر صحيح؟!
هل إطلاق الرصاص على عربات الإسعاف أمر صحيح؟!
حسناً يا جورج، أنا أيضا أعرف. أعرف كيف يمكن أن تقمع أناسا لدرجة لا يتبقى فيها لديهم ما يخسرونه. أعرف كيف يبدو إجراء عملية جراحية دون تخدير؛ لأن المستشفيات مدمرة، أو معرضة لرصاص القناصة، والمدينة تحت الحصار، والمساعدات تفشل في الدخول. أعرف أيضا صوت الرصاص الذي يعبر بجوار رأسك على الرغم من أنك داخل عربة إسعاف. أعرف كيف يبدو رجل لم يعد صدره بداخله، وأعرف رائحة ذلك أيضا، وأعرف كيف يبدو الأمر عندما تخرج زوجته مع أطفاله من منزله.
إنها لجريمة وعار علينا جميعاً.
المصدر: موقع الناشطة جو ويلدينج - www.wildfirejo.org.uk
- التصنيف: