لماذا تعويم الغارقين في جمعة آخر يوليو؟!
صحيح أن "الإسلاميين" قد تصدروا هذه المليونية لأول مرة في تاريخ مليونيات الثورة، وهذا ربما جيد لديهم، ونقلة للأمام في نضالهم السياسي، ورسالة قوية لكل المعنيين، إلا أنه مما يقلل من مكسبهم هذا، ويمنح غيرهم فرصة لصبغ المليونية بألوان مختلفة..
أتمنى كثيراً تجسير الطرق بين القوى السياسية المصرية من اليمين إلى
اليسار حفاظاً على مكتسبات الثورة، وحرصاً على استكمال بنى الدولة
الرشيدة، وقد ركزت على ذلك في مقال سابق ـ هذا لكي أبرئ نفسي هنا من
تهمة "التفرقة" ـ ولكي لا تعزل القوى الإصلاحية والوطنية ذاتها عن
بقية القوى، ولكي يبدو الميدان متنوعاً تحت قيادة واضحة لفئة تراجعت
كثيراً عن صدارة المشهد، وهي جديرة به، لكن مع ذلك، لا أرتاح كثيراً
للهرولة باتجاه منح بعض المجموعات أكبر من حجمها الحقيقي للحد الذي
أحال الجمعة في وسائل إعلام كثيرة من "الإرادة والهوية" إلى "وحدة
الصف"؛ فالذين خرجوا وأعلنوا عن الجمعة لم يريدوها كرنفالاً احتفالياً
للوحدة ـ وهو أمر قد يكون مطلوباً في مرحلة ما ـ ولكنه الآن خلاف
الأولى، وأحسب أن من "السياسة" ألا تترك خصماً يريد إقصاءك وتهميشك
ومحوك من الصورة تماماً يعيد إنتاج ذاته المتردية عن طريقك أنت، وأن
تمد له طوق النجاة كلما أشرف على الغرق..
بمقدوري ـ وغيري ـ أن ندبج مقالاتٍ عن الوحدة، أو نخطب عن اللحمة،
ونملؤها بما يتوجب فعله من مد يد العون للآخرين، ومنحهم فرصة لتصحيح
أفكارهم، وترطيب الأجواء، وتلطيف المناخ المشحون والمتوتر، وهذا كله
مطلوب، غير أنه الوقت الملائم له ليس الآن، وفي أعقاب فضيحة العباسية
ومجرى قناة السويس و"منصتي بفلوسي"، وشبهات التمويل وغيرها من
"انتكاسات" المجموعات الشبابية خلال الأسابيع الماضية، والاعتصام
الباهت الذي نتجت عنه "مكتسبات صورية" يصبح تعويم الغارقين نوعاً من
الكرم المبذول في غير محله، وقد سبق مثله في "جمعة الإصرار 8 يوليو"،
واستتبعه اعتصام غير مفهوم منح بعض المحتضرين قبلة الحياة، وتغذى على
زخم المليونية قبله والتي شهد ليلها سباباً للإصلاحيين وكثير من
الشرفاء، وسمعنا حينها تهكماً من بعضهم "ثورة ثورة حتى العصر" بدلاً
من "النصر" نكاية عن "تخلف الإسلاميين" عن ركب الثورة، واقتصارهم على
المظاهرة دون الاعتصام، في الوقت عينه الذي أفاد البعض من الطيف
الشعبي المصاحب لـ"الإسلاميين"..
نعم، صحيح أن "الإسلاميين" قد تصدروا هذه المليونية لأول مرة في
تاريخ مليونيات الثورة، وهذا ربما جيد لديهم، ونقلة للأمام في نضالهم
السياسي، ورسالة قوية لكل المعنيين، إلا أنه مما يقلل من مكسبهم هذا،
ويمنح غيرهم فرصة لصبغ المليونية بألوان مختلفة ليست في صلب المطالب
الجوهرية للقادمين من كل مدن مصر إلى الميدان غداً.
إنه هنا في قلب أهداف المليونية يكمن التشديد على جدولة الانتخابات
وضمان نزاهتها وإقامتها في موعدها، وعدم مصادرة آراء الشعب، وفرض
الوصاية عليه، سواء بمنح بعض الأطراف تفويضاً لتقييد إرادة الجماهير
والحديث باسمها بحجة "المبادئ الحاكمة" أو "فوق الدستورية"، وتحديد
مدة زمنية لتحول الحكم من العسكري إلى المدني المنتخب بإرادة شعبية
حرة وتفويض جماهيري واضح، وهذه كلها ليست في أجندة المعتصمين، وبعضهما
معاكس تماماً لتصوراتهم عن المرحلة القادمة، والتي تنحصر إما في
امتداد الحكم العسكري تحت ذريعة الجهوزية المنقوصة للتنافس الانتخابي،
أو فرض مجلس رئاسي معين من جهة ما، ولا يعبر عن إرادة وطنية خالصة،
وتمرير بعض البنود حمالة الأوجه في "البنود الحاكمة للدستور الجديد"،
وهذان نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكونا متحدين إلا إذا تم محو
تلك التناقضات تماماً، وارتفعت في مقابلها أهداف تالية أخرى تتعلق
بكيفية التعامل مع "الماضي" وليس "المستقبل"، وهذا ما لا أعتقد أنه في
صالح تلك المليونية، لاسيما إذا كانت حدثاً فريداً قد لا يتوفر له
المناخ ذاته مرات أخرى بسهولة.
وقد يقال إن هذا التوافق الظرفي مفضٍ إلى تذويب المطامح الأخرى،
مثلما نجح "الإسلاميون" في إضعاف فكرة "الدستور أولاً" من قبل،
وتراجعها قبل نحو شهر، لكن الأمر هنا مختلف، خصوصاً أن المطامح هذه
تصادمت مع إرادة بدت قوية ـ فيما هو معلن حتى الآن ـ من المجلس
العسكري في إمضاء الاستحقاقات الانتخابية في مواعيدها التقريبية، هي
مصادمة أخذت مناحٍ مختلفة، وتصعيدات واضحة، كانت تتطلب نأياً من
"الإسلاميين" عن هذه المعركة الظرفية بين المجلس والمجموعات والحركات
والائتلافات الشبابية دونما تورطاً أو انحيازاً فيها لاسيما إلى صف
تلك المجموعات.
لا بأس من مشاركة أيا من كان في المليونية، وهو مطلوب، بل مطلوب
أيضاً حماية المعتصمين في الميدان من أي بلطجية قد يحاولون الصيد في
الماء العكر، وجميل أن تتراص الصفوف من أجل مطالب عادلة، ولكن أن يكون
ذلك لفتح ثغرة سيملؤها الإعلام المغرض بما يتراءى له أن يحرف
المليونية باتجاهه، وأن يستخدم لتعويم غارقين وضعوا ذواتهم في كفة
والإرادة الشعبية في أخرى؛ فلا..
27/8/1432 هـ
amirsaid@gawab.com
- التصنيف: