تدبَّر تغنَم
نقرؤها ونقرأ غيرها، ويحفظها الكثيرون، وقد نمر عليها مرور الكرام، تلك السور التي نقرأ ما فيها من الوعيد الهائل والهول الطائل الذي تتفطر له الأكباد، وتذوب الأجساد، فلا نحرِّك ساكنًا، ولا تدمع عين، ولا يرجف قلبٌ.
هل قرأت وِردَك من القرآن اليوم؟ هل كان فيما قرأت سورة هود أو الواقعة، أو المرسلات، وعم يتساءلون، والتكوير؟
نقرؤها ونقرأ غيرها، ويحفظها الكثيرون، وقد نمر عليها مرور الكرام، تلك السور التي نقرأ ما فيها من الوعيد الهائل والهول الطائل الذي تتفطر له الأكباد، وتذوب الأجساد، فلا نحرِّك ساكنًا، ولا تدمع عين، ولا يرجف قلبٌ.
ماذا كان شعورك وأنت تتلو سورة المرسلات وهي تصف النار وعذابها الذي لا ظل فيها يُلجأ إليه ويَحمي من اللهب؟
يقول تعالى في سورة المرسلات: ﴿ {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } ﴾ [المرسلات: 29 - 36].
هذا هو خير الخلق الذي غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وأول مَن تُفتح له أبواب الجنة، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فما بالنا يُلهينا الأمل ويغرنا العمل؟
ويسمع عمر بن الخطاب آية فتُخيفه، فيبكي حتى يسقط، ويلزم بيته اليوم واليومين حتى يُعاد ويَحسبونه مريضًا!
نتتبَّع حال السلف مع القرآن فنرى عجبًا، فقد عرَفوا منزلته وأدركوا مقصده، فأكبوا عليه ينهلون من مَعينه ويرتوون من سلسبيله؛ قال تعالى: ﴿ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ﴾ [ص: 29].
كان هذا حالهم مع القرآن، أما نحن فيشاركنا خلوتنا معه هواتفنا، نشرع في القراءة فنسمع نغمة الهاتف المحمول أو تنبيهًا لرسالة، فنُسرع متلهفين لمعرفة ما فيها، ونغفل عن رسائل القرآن لنا.
نفتح مصاحفنا، فتقرؤه عيوننا وتتبَّع حروفه، وقد نتلوه بأعذب الأصوات فلا يتجاوز إلا حناجرنا، أما القلوب فبغيره متعلِّقة، ولمعانيه غير مُدركة، وبأوامره غير عابئة، ومن وعيده غير خائفة، لذلك هم ملَكوا الدنيا ونالوا الرفعة في الآخرة، أما نحن فنتخبط في الحياة تائهين، وعن ركب الحضارة بعيدين.
لن يصلح حال الأمة إلا بما صلح به أوَّلُها، مع إدراكها أن القرآن دستورها وفيه منهجُها، وفي تدبُّر معانيه نجاتها، وليس هذا فقط، فهو واحة القلوب، تقرؤه عشرات المرات فيقع في قلبك في كل مرة وقْعًا مختلفًا، تقرأ الآيات وأنت حزين، فتشعر أنها ترَبِّت على قلبك، ثم تقرؤها وأنت مظلوم، فتراها تشد من أزْرك، ﴿ { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } ﴾ [إبراهيم: 42]، وتبشِّرك بنصر قريب وانتقام من الظالمين يُقر عينيك: ﴿ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد} ﴾ [إبراهيم: 13، 14].
إذا كانت لك حاجة، فستشعر بأنها تطرق بابك حين تتلو، فانظر كيف استجاب الله الدعوات كما في سورة الأنبياء: ﴿ { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} ﴾ [الأنبياء: 76]؟!
تتقرب إلى الله بطاعة، فتقرأ ما أعد الله للطائعين المتقين، فيهفو قلبك لنسيم الجنة ونعيمها: ﴿ {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا } ﴾ [الفرقان: 16]، وتغرف مِن مَعينه فلا ينضب، وهو الذي سيشفع لأصحابه الذين كانوا يتلونه ويعملون به يوم القيامة.
فأَمَا آن للقلب أن يعي ويتدبَّرَ، وللعقل أن يتأمَّل ويتفكر، وللنفوس أن تُقدِم وتُقبل، وللجوارح أن تطبِّق وتعمل؟
هبة حلمي الجابري
خريجة معهد إعداد الدعاة التابع لوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية
- التصنيف: