تِيْجَانُ الرَّحْمَنِ وتاجُ الشَيطانِ : (1-2)

منذ 2019-07-09

فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : ( «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» )

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يلبس الناس التيجان عادة للزينة، فقد كان الملوك قديما يلبسونه رمزا للملك، وتلبسه النساء حاليا في المناسبات والأفراح، وقد يُمنح الواحد تاجا لأنه حقق فوزا ونجاحا، فمن أُلبس تاجا فقد حقق إنجازا عظيما في أمر ما.

والتَّاجُ مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وهو علامة للعز والشرف.

والرحمن جل جلاله سيُلبس بعض أوليائه الصالحين أنواعا من التيجان يوم القيامة؛ نظير أعمال صالحة قاموا بها، كما أن الشيطان الذي أمرنا الرب جل وعلا أن نتخذه عدوا، يحاول جاهدا إضلالنا عن الصراط المستقيم ويدفع أتباعه من الشياطين إلى بذل قصارى جهدهم؛ لإيقاعنا في شتى المعاصي والذنوب، بل إنه يخص بعض أولئك الأتباع بمزيد من القرب والحفاوة والتكريم الشيطاني، بمنحهم تيجانا شيطانية نظير جهودهم في إضلالنا، ولن يَمنح هذه التيجان لكل من أغوى مسلما، وإنما لكل من أوقع مسلما في بعض كبائر الذنوب والتي أهمها: الزنى والشرك والقتل.

دعونا في هذه المقالة الموجزة نتعرف على تيجان الرحمن التي ستُمنح يوم القيامة، وعلى تيجان الشيطان التي ستُمنح كل يوم في هذا الدنيا.

لمن ستكون تيجان الرحمن يا ترى؟ فهل تعرفت عليها؟ وهل حرصت على الفوز بأحدها أو بها كلها؟ ولماذا لا تشرئِبُّ نفسك وتتوق إلى لبسها؟ وما تلك الموانع التي تحول بينك وبين ذلك؟

إن التيجان التي سيمنحها الرحمن لعباده المؤمنين عديدة ومتنوعة، تيجان لم تر مثلها عين، ولم تخطر على قلب بشر، من أشهرها أربعة تيجان: تاج الكرامة، وتاج الوقار، وتاج الملك، وتاج النور.

ولمن تلك التيجان؟ إنها لثلاثة أصناف: لحافظ القرآن ولوالدي حافظ القرآن وللشهيد.

هكذا صحت الأحاديث عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، كان ذلكم هو الموجز وإليكم التفصيل والبيان من أحاديث سيد الأنام  صلى الله عليه وسلم .

(أولا) تاج الكرامة وتاج الوقار وتاج الملك:

فهذه التيجان الثلاثة كلها ستمنح لصاحب القرآن الملازم له، فعن أبي هريرة  رضي الله عنه  أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: ( «يَجِيءُ صاحب الْقُرْآن يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ القرآن: يَا رَبِّ حَلِّهِ – أي ألبسه الحلية -  فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثم يقول: ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً» ) ([1]). ‌

وفي رواية لأبي هريرة  أنه قال: " «اقرؤوا الْقُرْآنَ، فإنه نِعْمَ الشَّفِيعُ يوم الْقِيَامَةِ، انه يقول يوم الْقِيَامَةِ: يا رَبِّ حَلِّهِ حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُحَلَّى حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ اكْسُهُ كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ البسه تَاجَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ ارض عنه، فَلَيْسَ بَعْدَ رِضَاكَ شَيْءٌ» " ([2]).

فالذي يكثر من قراءة القرآن آناء الليل ويقوم به، سيُلبس تاج الكرامة، وذلك لما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ لِكُلِّ عَامِلٍ عُمَالَةٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَمْنَعُهُ اللَّذَّةَ وَالنَّوْمَ، فَأَكْرِمْ. فَيُقَالُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ، فَيُمْلَأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَالُ: ابْسُطْ شِمَالَكَ، فَيمْلَأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، وَيُحَلَّى حِلْيَةِ الْكَرَامَةِ، وَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ " ([3]).

وأما من يزيد على ذلك ويكثر من قراءته في النهار أيضا، فسيُلبس تاج الوقار، وذلك لما رواه أبو هريرة t أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: « «يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَكَ، وَأُظْمِئُ هَوَاجِرَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ. فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا تَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَيَقُولَانِ: يَا رَبِّ، أَنَّى لَنَا هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ» » ([4]). والوقار هو الرزانة والحلم.

فهل أنت من أصحاب القرآن الملازمين له بالليل والنهار؟ أم من أصحاب الغناء والعيدان والأوتار؟

روى بريدة الأسلمي  أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: ( «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ، أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ وَرَاءَ كُل تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكَسَا وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ تَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَا كُسِينَا هذا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: اقْرَأُ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هذّاً كَانَ أَوْ تَرْتِيلاً» ) ([5]).

كما أن تاج الوقار سيمنح أيضا للشهداء، والجهاد ذروة سنام الإسلام، مما يؤكد على شرف الحصول على مثل هذا التاج العظيم القدر، فعن عبادة بن الصامت t أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: ( «إن لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سبع خِصَالٍ: أن يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ من دمه، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ويحلى حلة الإيمان، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْه خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» ) ([6]).

تأمل في فخامة هذا التاج الذي يحتوي على ياقوت، والياقوتة الواحدة منه خير من الدنيا وما فيها. فما بالك بالتاج برمته، فهل يمكن مفاضلته بالدنيا؟ كلا والله وألف كلا.

فإذا لم تستطع أن تجاهد لتلبس هذا التاج، فيمكنك أن تنال منزلة الشهداء بأن تسأل الله تعالى بصدق هذه المنزلة الرفيعة لعلك أن تحظى بهذا التاج الذي لا يقدر بثمن.

فقد روى سهل بن حنيف  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: ( «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» ) ([7]).

فالأمر يسير جدا، ويحتاج إلى صدق في النية، لتنال تاج الوقار، وما أدراك ما تاج الوقار، نسأل الله العظيم أن يمن علينا بكرمه بالشهادة في سبيله وأن يلبسنا هذا التاج بفضله.

وأما من عمل بالقرآن فيلبس تاج المُلك، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده  أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: ( «يتمثل القرآن يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل قد كان حمله [فخالف أمره]، فيتمثل خصما دونه، قال: فيقول: يا رب، حملته إياي، فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به، فيأخذ بيده ما يرسله حتى يكبه على صخرة في النار، ويؤتى بالعبد الصالح قد كان حمله فحفظ أمره، فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب، حملته إياي فكان خير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، وعمل بطاعتي، وما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال [له]: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر» ) ([8]).

فحملة القرآن هم الذين يحفظونه ويعملون به، وقال القاري رحمه الله تعالى في معنى حامل القرآن: أي إكرام قارئه وحافظه ومفسره اهـ ([9])، ولذلك كان من حق حملة القرآن إكرامهم وتوقيرهم.

فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : ( «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» ) ([10]).

 

([1]) رواه الترمذي (2915)، والدارمي (3311)، والحاكم واللفظ له (2029)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (8030).

([2]) رواه الدارمي موقوفا (3311)، وقال الوادعي في كتاب الشفاعة: رجاله رجال الصحيح إلا عاصماً، وهو ابن أبي النجود، فقد رويا له مقروناً وهو حسن الحديث اهـ (صفحة 249).

([3]) رواه الدارمي موقوفا (3312)، وحسنه الوادعي في كتاب الشفاعة (صفحة 214).

([4]) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2829).

([5]) رواه الدارمي (3391)، وابن أبي شيبة (30045)، وحسنه ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3478).

([6]) رواه الترمذي (1663)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1374).

([7]) رواه الإمام مسلم (1909)، وأبو داود (1520)، والترمذي (1653)، والنسائي (3162)، وابن ماجه (2797)، والحاكم (2412)، وابن حبان (3192)، والبيهقي (18339)، والدارمي (2407)، والطبراني في الكبير (5550).

([8]) أخرجه ابن أبي شيبه بإسناده، وحسنه ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3491).

([9]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري (8/706 ح4972).

([10]) رواه أبو داود (4843)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (98).