التتار من البداية إلى عين جالوت - التحاق المتطوعين بالجيش وتعاون صارم الدين مع المسلمين
بينما قطز رحمه الله في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريباً.
بينما قطز رحمه الله في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريباً.
ولا بد أن نقف هنا وقفة ونحلل الموقف الغريب هذا؛ وهو أين كان هؤلاء المتطوعون يوم أن جاءت فرقة تترية بسيطة فاخترقت فلسطين بكاملها من شمالها إلى جنوبها، حتى احتلت آخر المدن في فلسطين وهي مدينة غزة؟ وكيف قعد هؤلاء قبل ذلك؟ وكيف قاموا الآن؟ ولماذا تحركوا الآن إلى سهل عين جالوت؟
والإجابة في منتهى البساطة، فهذا أمر رأيناه كثيراً جداً في التاريخ الإسلامي، فهؤلاء القاعدون كانوا يفتقدون إلى القدوة، والتربية بالقدوة كلمة نكررها كثيراً جداً في هذه المجموعة منذ أن ذكرنا قطز رحمه الله.
فالكثير من المؤمنين الصادقين الذين يريدون خدمة الدين ورفعة الإسلام لا يجدون قدوة صالحة يقلدونها، ولا يجدون قائداً مخلصاً يتّبعونه فيقعدون، فقد ألف هؤلاء البسطاء في فلسطين أن يروا قوّادهم في الشام يعقدون الأحلاف المهينة مع التتار، ويفتحون لهم الحصون والديار، ويمهدون لهم الجسور والطرق، فافتقد هؤلاء المسلمون البسطاء القدوة الصالحة، فلم يظهر الخير الكثير الذي بداخلهم، فلما جاء قطز رحمه الله ومن معه من المؤمنين الصادقين، وقطعوا الطريق كله إلى أرض الموقعة، وهم يتقدمون في ثبات، ولم يفعلوا مثل ما فعل الناصر يوسف الأيوبي عندما فر بمجرد سماعه أن جيش التتار قد اقترب، لما رأوا كل ذلك تحمست قلوبهم، وخرجت العواطف الكامنة في صدورهم، وتحركت فيهم الحمية لهذا الدين، وهانت عليهم التضحية، وهان عليهم الجهاد.
وهؤلاء لم يكونوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، ولكنهم متحمسون متشوقون إلى العمل في سبيل الله، وهذه الحماسة في ميدان القتال تنفع كثيراً، فـ قطز رحمه الله استخدمهم في سلاح الخدمات، ووفر الجنود الذين كانوا في سلاح الخدمات في أعمال أخرى قتالية، وبالإضافة إلى ذلك كان لهم أهمية أخرى كبيرة جداً في تكثير سواد المسلمين، ولا شك أن هذا يبث الرعب في قلوب الكافرين.
ثم اجتمع الكثير من الفلاحين من القرى المختلفة ممن لا يستطيع قتالاً ولا خدمة إما لكبر سن أو لعجز أو لمرض، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد كبيرة على طرفي سهل عين جالوت وقد علت أصواتهم بالتكبير والدعاء للمسلمين، وارتفعت صيحاتهم التأييدية للقوات الإسلامية، وتحركت ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم بالدعاء لرب العالمين أن ينصر الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله، كل هذه الأحداث كانت في يوم (24) رمضان من سنة (658هـ) وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة عين جالوت.
وكل هذا كان تأييداً للجيش المسلم، ورفعاً لمعنوياته إلى أقصى درجة.
وأيضاً قبل الموقعة بيوم حدث شيء غريب جداً أن يحدث في هذا التوقيت، وهذا فعل رب العالمين سبحانه وتعالى، فبينما هم في سهل عين جالوت جاء رجل من أهل الشام وهو يُسرع المسير يطلب أن يقابل أمير القوات الإسلامية قطز ومن معه من بقية الأمراء،
وقال: إنه رسول من قبل صارم الدين أيبك، وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو قبل ذلك عند غزوه بلاد الشام، ثم قبِل أن يعمل في الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبِل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قبل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين؟ لا ندري هذا، فهذا بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن ما نعلمه أنه قبيل موقعة عين جالوت، وفي هذا اليوم الذي سبق الموقعة مباشرة قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
فهذا الرجل صارم الدين أيبك لا يعرفه قطز ولا يعرفه أمراء الجيش الإسلامي، ولكن الله عز وجل وضعه في هذا المكان؛ ليقدم للمسلمين خدمات جليلة، وليأتي النصر من حيث لا يحتسب المسلمون، وسبحان الذي ساقه في ذلك التوقيت الفريد كما ساق نعيم بن مسعود قبل ذلك في غزوة الأحزاب؛ ليكون سبباً رئيسياً في انتصار المسلمين يوم الأحزاب! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
فقد أتى رسول صارم الدين أيبك بثلاث معلومات:
أولاً: جيش التتار ليس بقوته المعهودة؛ فـ هولاكو قد أخذ معه عدداً كبيراً من الجيش وهو راجع إلى تبريز بعد أن وصله نبأ موت منكو خان خاقان التتار، فالجيش الذي سيقابل المسلمين الآن ليس على نفس الهيئة التي دخل بها الشام، فلا تخافوهم.
وهذه معلومة في غاية الأهمية؛ فقد طمأنت الجيش المسلم على أنه سيقابل جيشاً أصبح إلى حد ما أضعف من السابق، فيستطيع الجيش المسلم تحقيق الانتصار.
ثانياً: ميمنة التتار أقوى من الميسرة، فعلى جيش المسلمين أن يقوي من الميسرة؛ لأن الميسرة الإسلامية ستقابل الميمنة التترية.
وهذه أيضاً معلومة عسكرية في غاية الأهمية.
ثالثاً: أن الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو من الأمراء الموالين للتتار سيكون في جيش التتار، ولكنه راجع نفسه وسيُظهر التعاون مع التتار، بينما في الواقع سينهزم بين يدي المسلمين.
فاجتمع الخبراء العسكريون الإسلاميون في موقعة عين جالوت، وخافوا أن تكون كل هذه الأمور مجرد حيل من التتار، وقالوا: قد يكون هذا شيئاً عمله التتار؛ ليخدعوا به المسلمين ويضلوهم به عن اختيار القرار الصواب، فيجب أن نأخذ الحذر، وبدءوا بالفعل يرتبون صفوفهم مع اعتبار أن هذه الأمور قد تكون من الأمور الحقيقية، ثم اتضح أن هذا الكلام صحيح كما قال صارم الدين أيبك تماماً.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: