طاقات في عرفات...!
وفي شهوده تجديد للعهد وتأكيد للميثاق، بحيث يخلص العبد توحيده، ويجدد إيمانه، ويعمل على كبح جماح نفسه، وترويضها على الحق المستقيم
أجَلُّ أعمال المناسك، وأعظم أركان الحج، وأساس الصحة والقبول، ومن فاته فلا حج ولا ظفر، يدفع الحجيج فيه اليوم (التاسع من ذي الحجة)، تحفهم مشاعر البهجة والخوف والرجاء وابتغاء ما عند الله ،،،!
إلى عرفات الله يا خيرَ زائرٍ// عليك سلامُ الله من عرفاتِ
على كل أفْقٍ بالحجاز ملائكٌ// تزف تحايا الله والبركاتِ
وقد تحلّوا (بإزار ورداء)، وتواضع وخشوع، وذكر وتلبية، في مشهد إيماني، وحشر عظيم، وحشد مرحوم، وحرم آمن، ومرعي من الباري الكريم (( { وما بكم من نعمة فمن الله} )) [سورة النحل] .
وقد تجلّت لهم طاقات، وتيسرت لهم هبات، ما ينبغي لهم تضييعها أو التغافل عنها، وخليق بمن شهد المشاعر، أن يوقظ روحه، وينبه عقله، إلى تلكم الميرة الروحية، والزاد الإيماني العلي ،فيتزود بلا تعداد، ويجمع بلا حسبان، ومن ذاك :
١/ الدعاء المستجاب : فهو من مواطن الإجابة، ومحل القصد والإنابة ، قال صلى الله عليه وسلم -: (( «خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» )) [رواه الترمذي ] .
٢/ النزول الإلهي: فقد صح نزول الباري تعالى إلى السماء الدنيا عشية عرفة ومباهاته الملائكة ، ويقول : انظروا إلى عبادي أتوني شُعثا غُبرا، ويقول: ما أراد هؤلاء،،؟!
وهذا نزول لائق بجلال الله وعظمته(( { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } )) [سورة النحل] .
٣/ المدامع المحتشدة: تتغازر الأعداد، وتتضاعف الآلاف حتى تمتليء بهم الأرض، وتغص بهم البقاع، فتحمل المناظر الحاضرين على الجد والعمل، فترق قلوب، وتنكسر ارواح، وتتواضع نفوس، وتطلب ما عند الله، وتهون عندها الدنيا وزهراتها (( { ما عندكم ينفد وما عند الله باق} )) [سورة النحل] .
٤/ التصاغر الشيطاني: ألماً من هيبة المشهد، وتعاسة من الرحمات النازلة، وضيقة من الذكر الوهاج، والتلبية الصداحة، فقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: (( «مَا رُئِيَ الشَّيْطَان يَومًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَومِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لمَا رَأَىمن تَنَزلِ الرحمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَمَا إِنهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزعُ الْمَلَائِكَةَ» )) [رواه مالك والبيهقي في السنن] .
واستشعار ذاك واستيقانه موجب لتقوية القلب، وحفز النفس، وشحذ العزم، حتى تتوب وتحدث ما ينفعها عند الكريم المنان تبارك وتعالى .
٥/ الألسن المتصاعدة: ذكرا ودعاء وتمجيدا وثناء على الحي الْقَيُّوم ، فقد مكث صلى الله عليه وسلم ساعات طويلات بعد أن خطب الناس وجمع بين الصلاتين، واقفا على دابته منقطعا إلى ربه، لم ينقطع إلا شيئا يسيرا، وفي ذاك طاقة معنوية للحاج، أن يتذكر هدي رسوله وطريقته في الذكر والانقطاع والمحافظة على اللحظات العظيمات .
٦/ الافتقار العام: جاء في الحديث الصحيح : (( «إن الله يباهي بأهل عرفات أَهْلَ السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي ، جاؤوني شُعثًا غبرًا))؛رواه أحمد . كمظاهر الفقراء المستكينين، رغبةً ورهبةً، يرجون ما عند الله تعالى، وفي القرآن (( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد» )) [سورة فاطر ] .
فمن لم يستطعم وصفي الحج شعثا واغبرارا، لا كبرا واغترارا، فما عرف الحج، ولا ذاق طعومة العبودية .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبياته المشهورة والتي كتبها لتلميذه البار الفذ ابن قيم الجوزية رحمه الله :
والفقر لي وصفُ ذات لازمٌ أبدا// كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حالُ الخلق أجمعهم// والخيرُ إن جاءنا من عنده يأتي
٧/ العشية الملتهبة: حيث الدنو واللهج والمسارعة، وارتفاع الأصوات، وسيلان الدموع، ومسابقة الساعات، لئلا تفوت الرحمه، وتذهب الحجة. يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- ( فَللَّه كم به من ذنب مغْفور، وعثرة مُقالة، وزلة معفو عنها، وحاجة مقضية،وكربة مفروجة، وبلية مرفوعة،ونعمة متجددة، وسعادة مكتسبة، وشقاوة ممحوة،كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الأعظم والوفد الأكرم، الذين جاؤوا من كل فج عميق، وقوفا لربهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته، شُعْثًا غبرا حاسرين عن رؤوسهم، يستقيلونه عثراتهم، ويسألونه حاجاتهم، فيدنو منهم، ثم يباهي بهم الملائكة فلله ذاك الجبل وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام ). (مفتاح دار السعادة (1/220). وتطالع أناسا غرباء وفقراء بعداء، قد اظهروا من عجائب الإيمان، وفتوحات الانكسار، ودلائل الخضوع ما يدهش ويبهر، فنسأل الله الكريم من رحماته وهباته .
٨/ رق وعتق : قال عليه الصلاة والسلام: (( «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء ؟!» )) [ رواه مسلم ] .
يقول الملا على القاري رحمه الله (ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ ) :أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم، وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم، أي ما أرادوا إلا المغفرة والرضا والقرب واللقاء، ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد، أو التقدير ما أراد هؤلاء فهو حاصل لهم، ودرجاتهم على قدر مراداتهم ونياتهم...) انظر مرقاة المفاتيح .
فهو فرصة تاريخية ولحظة ذهبية للنجاة من النار، والسلامة من نكبات الجحيم، وسؤال الله العتق والتجاوز ، لا سيما والمشهد المهيب يُذكركم بعرصات القيامة وما فيها من أهوال ، عافانا الله وإياكم .
٩/ تمام النعمة: ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال: { {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} } سورة المائدة. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. فتمت بالحجة شرائع الإسلام، واستكمل الناس ركنهم الخامس ، وشملتهم منة الله بالتوفيق وحسن العمل، وسلوك الصراط المستقيم .
١٠/ عيد وتجديد: ولذلك كره صومه لأهل الموقف، ومن العلل أنه عيد لأهل الحج العظيم، وفي السنة ما يشهد لذلك ،
قال صلى الله عليه وسلم: (( «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» ))؛ [رواه الترمذي] . وفي العيد من معاني البهجة والنشاط والخيرية والفاعلية ما يجعلهم مسارعين فيه، مدركين لنفائسه، والله الموفق .
١١/ مشهود محفود: قال تعالى(( { واليوم الموعود وشاهد ومشهود} )) [سورة البروج] . وجاء عند الإمام الترمذي في جامعه ،وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( «الْيوْم الْمَوْعودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْم الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» ))
وقال الإمام الشوكاني-رحمه الله في فتح القدير: ( ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، والمشهود يوم عرفة، لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج، وتحضره الملائكة، قال الواحدي وهذا قول الأكثر ).ويشهد لذلك الحديث السابق الذكر .
١٢/ كفارة وتمحيص : قال تعالى (( {ثم أفيضوا من حيثِ أفاض الناس واستغفروا الله } )) [سورة البقرة] . والمقصود عرفات فهو موضع الاستغفار، ولما يحصل فيه من القبول ونزول الرحمات، وتوالي الصفح (( {وإني لغفار لمن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى } )) [سورة طه] .
١٣/ رحمات ورجاء: قال في سياق الحج :(( { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} )) [سورة البقرة] .
وقال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تذرِفان فقلت له: مَن أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.!!
١٤/ عهد وميثاق: وهوأن الله أخذ فيه الميثاق؛ فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنُعمان - يعني يوم عرفة -، وأخرج من صُلبه كلّ ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبلاً قال: (( أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْيوْمَ الْقِيَامَةِ إلى يقوله: بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ))» [سورة الأعراف] .
وفي شهوده تجديد للعهد وتأكيد للميثاق، بحيث يخلص العبد توحيده، ويجدد إيمانه، ويعمل على كبح جماح نفسه، وترويضها على الحق المستقيم، والله ولي التوفيق ... والسلام.....
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: