أسباب تُعينُ العبد على الصبر عن المعصية (2-2)

منذ 2019-08-15

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : أشدُّ العقوبات : العقوبة بسلب الإيمان, ودونها العقوبة بموت القلب.


يقين العبد أن لذة التوبة من المعصية تزيد على لذة المعصية أضعاف مضاعفة

قال ابن القيم رحمه الله: لو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافاً مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.لكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات ومضض ومِحَن لا تثبت لها الجبال فإن صبر لها ظفِر بلذة الفرح وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء

وها هنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله, إذا أرسل إليه ملائكته فبشروه بلقائه وقال له ملك الموت : اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, أبشري بروح وريحان وربًّ غير غضبان, اخرجي راضية مرضياً عنك, قال الله عز وجل :  {يا أيتها النفس المطمئنة ~ ارجعي إلى ربك راضية مرضية ~ فادخُلي في عبادي ~ وادخُلي جنتي}  [الفجر/27-30] فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها, فكيف ومِن بعدها أنواع من الفرح منها صلاةُ الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه, ومنها فتح أبواب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها..فكيف يقدَّر فرحُها وقد استؤذن لها على ربها ووليِّها وحبيبها فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت, ثم سمعته سبحانه يقول: اكتبوا كتابه في عليين ثم يُذهب به, فيري الجنة ومقعده فيها وما أعدَّ الله له ويلقي أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله.هذا قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقلِ ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعِه جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أُزلفت له في الموقف, وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة, وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه.

وقال رحمه الله : فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون, ومن استوفاها هاهنا حُرمها هناك, أو نقص كمالها, فلا يجعل الله لذة من أوضع في معاصيه ومحارمه, كلذة من ترك شهوته لله أبداً.

وقال رحمه الله : فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة..على لذة هي من أعظم اللذات, وفرحة ومسرة من أعظم المسرات, دائمة لا تزول ولا تفني ولا تنقطع, فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام, وإنما حصلت بالآلام, وعاقبتها الآلام ؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها, لاستحيا من نفسه وعقله, كيف يسعى في طلبها ويُضيع زمانه في اشتغاله بها, فضلاً عن إيثارها على (ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر)

وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته, وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه, فسلعة ربُّ السموات والأرض مشتريها, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في داره ثمنها, ومن جرى على يده العقد رسوله, كيف يليق بالعاقل أن يُضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس, في دار زائلة مضمحلة فانية, وهل هذا إلا من أعظم الغبن؟ وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن, إذا ثقلت موازين المتقين وخفت موازين المُبطلين...فاللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم, إنما هو في معرفة الله, وتوحيده, والأُنس به, والشوق إلى لقائه, واجتماع القلب والهمِّ عليه.

يقين العبد أن المعاصي تستوجب العذاب المتنوع المتعدد على الأفراد والمجتمعات

قال الله سبحانه وتعالى : {فكُلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت:40] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم, وتنوع في عذابهم, وأخذهم بالانتقام منهم....وفعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم.

وقال الله عز وجل :  {وما أصابك من سيئة فمن نفسك }  [النساء/79] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : قال قتادة :  {فمن نفسك}   عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك.

والعذاب يتنوع فقد يكون حسياً, وقد يكون معنوياً, وقد يكون بهما معاً,قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : العقوبة...أشدها العقوبة بسلب الإيمان ودون ذلك موت القلب, ومحو لذة المناجاة منه, وقوة الحرص على الذنب, ونسيان القرآن, وإهمال الاستغفار...وربما دبَّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة, إلى أن يمتلئ أفق القلب فتعمى البصيرة, وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا, وقال العلامة ابن القيم رحمه الله : أشدُّ العقوبات : العقوبة بسلب الإيمان, ودونها العقوبة بموت القلب.

قال شيخ الإسلام رحمه الله : العمل السيء  مثل الكذب يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلمه وانسداد باب علم كان يطلبه ونقص في يقينه وعقله واسوداد وجهه وبغضة في قلوب الخلق واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه وهلم جرا إلا أن يتداركه الله برحمته

وقال سبحانه وتعالى:  {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}   [الشورى/3]

قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله : يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة,في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون, ويكون عزيزاً عليهم إلا بسبب ما قدمتهم أيديهم من السيئات وأن ما يعفو الله عنه أكثر.

 يقين العبد أن المعاصي تسلب النعم

 قال العلامة ابن القيم رحمه الله : إن الله سبحانه وتعالى قضى فيما قضى به أنَّ ما عنده لا يُنال إلا بطاعته, وأنه ما استجلبت نعمُ الله بغير طاعته, ولا استُديمت بغير شكره, ولا عُوِّقت وامتنعت بغير معصيته, وكذلك إذا أنعم عليك ثمَّ سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك, وإنما أنت السبب في سلبها عنك, فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم. {ذلك بأن الله لم يكُ مُغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم }  [الأنفال/53] فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته :    

   إذا كنت في نعمةٍ فارعها      فإن الذنوب تُزيلُ النعـم  

فآفتك..وبلاؤك منك ولو علمت من أين دُهيت ومن أين أُصبت لأمكنك تدارك ذلك

وقال رحمه الله : ومن نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب.

فما حفظت نعمة الله جل جله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس, ولو تفطن العاقلُ اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب.

يقين العبد أن كلّ ما يحدث في العالم من فساد فبسبب المعاصي:

قال ابن القيم رحمه الله : لم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحطوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها وسلب منافعها أو نقصانها أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضاً فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى} ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس {[ الروم/41] وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم سبحانه وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ومياههم وأبدانهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم

ومن تاب فليكن على خوف ووجلٍ من ذنوبه, قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكي عليها, وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك, وهذا أمر غائب.

ثم لو غفرت بقي الخجل منها, ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح : أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون : اشفع لنا فيقول : ذنبي, وإلى نوح عليه السلام فيقول : ذنبي, وإلى إبراهيم, وإلى موسى, وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم, فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة, ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا, وهم بعدُ على خوف منها, ثم أن الخجل بعد التوبة لا يرتفع...وهذا أمر قلَّ أن ينظر فيه تائب أو زاهد, لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة, وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك.             

                                      كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ