الحكمة والموعظة الحسنة لا تعني المداهنة والتملّق

منذ 2019-08-16

أما مفهوم الموعظة الحسنة الوارد في الآية، فمن أهم الأسباب التي ساهمت في اضطرابه طغيان طريقة عمل المبشرين في عدد من البلدان الإسلامية، التي انتشرت فيها جمعيات التبشير النصرانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين

{بسم الله الرحمن الرحيم }

﴿ {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل آية ١٢٥)

بقلم: فادي عبد اللطيف

أ ـ مقدمة:

كثيراً ما يجري الاستشهاد بهذه الآية الكريمة في معرض الحديث عن دعوة الناس إلى الإسلام، مسلمين وغير مسلمين، فتؤوّل الحكمة على أنها تعني المداهنة والتنازل، وتُفسّر الموعظة الحسنة بمعنى المجاملة والمسايرة، كما يُستدلّ بها لقصر الدعوة الإسلامية على المسائل الروحية والخُلُقية؛ ويُفسّر الجدال بالتي هي أحسن بمعنى التملّق والمصانعة. ونحن في زمن تشعّبت فيه السبل واضطربت فيه الاجتهادات للوصول إلى الطريقة المثلى التي ينبغي اتباعها للأخذ بيد المسلمين وإرجاعهم إلى دينهم وإصلاح أمرهم، بعد أن أفسد الغرب ـ بثقافته وفلسفته ـ حياة المسلمين وطريقة تفكيرهم، وحال ـ ولا يزال ـ دون فهمهم لدينهم فهماً نقياً صافياً وامتثال شرعه امتثالاً مستقيماً وكاملاً. ولا يخفى على الناظر ما لهذه القضية من أهمية، كونها تتعلق بمنهاج الدعوة إلى الإسلام، بما تمثله قضية المنهاج بوصفه مجموعة من المفاهيم والقواعد والأحكام التي وضعها الشرع، وبيّنها الرسول عليه السلام للمسلمين من بعده، كي يسيروا بحسبها في دعوة الناس ـ أفراداً ومجتمعات ـ لاعتناق العقيدة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية. فالقضية إذن جدّ دقيقة، وعواقب الخلل فيها جدّ خطيرة!

ويساهم ضغط الواقع السيء في اللجوء إلى هذا النوع من التأويلات المضطربة، حيث غالباً ما يواجه الدعاة والعلماء نفور كثير من عامة المسلمين ومثقفيهم من الأحكام الشرعية لتناقضها مع طريقة تفكيرهم أو ميولهم، بعد أن أفسدت المذاهب الغربية ـ لا سيما العقلانية والنفعية ـ شخصية المسلمين، حتى يكاد يصعُب أحيانا أن تميّز بين المسلم وغير المسلم في موقفهما من مسلّمات الشرع في العقائد والأحكام! فضغط الواقع السيء لدى المسلمين اليوم يؤثر سلباً في تفسير النصوص الشرعية، كما يؤثر في إنزال معاني هذه النصوص على أوضاع وعلاقات بعيدة كل البعد عن الإسلام، بل مناقضة أو معادية له!

أما مفهوم الحكمة الوارد في الآية موضع البحث، فمن أهم الأسباب التي أدت إلى تأويله هو الخشية من أذى الحكام في البلدان الإسلامية من جهة، والخوف من إثارة الرأي العام الفاسد من جهة أخرى. فقول الحق في وجه الحكام الظلمة، يُواجَه بالأذى والسجن بل والتعذيب في العديد من بلاد المسلمين، سواء كان الرأي محاسبة لهم على مخالفة الشرع، أم هضم حقوق الرعية، أم ظلم العباد، أم التواطؤ مع أعداء الإسلام، أم التفريط بمصالح المسلمين. وكذلك الرأي العام تسيطر عليه مؤسسات ثقافية وإعلامية فاسدة، بل معادية للإسلام في العديد من مجتمعات المسلمين حيث تغلغلت الثقافة الغربية التي تشوّه مفاهيم الإسلام وتاريخه وحضارته وقيمه وتشريعاته، وتصفه بالجمود والتطرف، وظلم المرأة، وعدم التسامح مع غير المسلمين.. ومصدر كثير من هذه المفاهيم المشوّهة عن الإسلام وشريعته وتاريخه.. افتراءات المستشرقين وسمومهم التي ما فتئ الغرب ـ عبر خبرائه ووكلائه ـ يحشو مناهج التعليم في بلادنا بها، تحت ذريعة "البحث العلمي" و"المنهج النقدي" و"تنقية التراث".. ومن هنا يرى كثير من الدعاة والعلماء أنه ليس من الحكمة الصدع بالحق أمام الحكام الظلمة؛ كما أنه ليس من الحكمة مواجهة الرأي العام صراحة بموقف الشرع من المنكرات الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، أو مواجهة عامة الناس عند مخالفة عاداتهم وأعرافهم لأحكام الشرع.

أما مفهوم الموعظة الحسنة الوارد في الآية، فمن أهم الأسباب التي ساهمت في اضطرابه طغيان طريقة عمل المبشرين في عدد من البلدان الإسلامية، التي انتشرت فيها جمعيات التبشير النصرانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين، وذلك بفعل نفوذ الدول الغربية الاستعمارية في بلاد الشام ومصر على وجه الخصوص. فقد هال بعض علماء المسلمين ودعاتهم ما رأوه من انتشار لجمعيات التبشير هذه، "الخيرية" والوعظية، ونجاحها في جذب كثير من المسلمين، وخاصة البسطاء منهم، وقدرتها عل التأثير فيهم لفتنتهم عن دينهم أو تشكيكهم فيه. فالتبست طريقة الوعظ الروحي والأخلاقي المتبعة لدى المبشرين، بمفهوم الموعظة والوعظ الوارد في القرآن بمعنى النصح والتذكرة.

ومن هنا تأثر بعض الدعاة والعلماء بنشاط المبشرين وطريقتهم، فهبّوا لمواجهتها وأنشأوا الجمعيات الخيرية، والجمعيات الثقافية التي تتوسل بأسلوب الوعظ والإرشاد، محاكاة لأسلوب المبشرين النصارى وتقليدا لخطابهم القائم على طريقة الوعظ الروحي والأخلاقي، دون ملاحظة الفارق الهائل بين الإسلام والنصرانية، ودون التفات إلى الاختلاف البيّن بين طريقة الدعوة لدى المبشرين النصارى ومنهاج الدعوة الإسلامية التي حددته نصوص القرآن، لا سيّما في الفترة المكية، وبيّنه النبي عليه السلام في سيرته العملية، سواء في بناء شخصية الصحابة عقدياً وفكرياً ونفسياً وسلوكياً، أو في مخاطبته عليه السلام لمجتمع الشرك في مكة ويهود المدينة دعوياً وسياسياً. ومن هنا نشأت ظاهرة الوعظ والإرشاد بوصفها منهجاً في الدعوة ينحصر في الخطب والأقوال الروحية والأخلاقية، وطريقة معينة في دراسة الإسلام وتدريسه تقتصر على المسائل الروحية والأخلاقية في التربية الفردية، (انظر ملحق رقم ١)[i].

وبناء على ما تقدم، فقد كان لطغيان مفهوم الوعظ المستقى من طريقة المبشرين، والذي يعبّر عنه البعض بمفهوم "الوعظ والإرشاد"، أثراً سلبياً على عدد من الدعاة والجمعيات الإسلامية، لقصرهم الدعوة الإسلامية على المسائل الروحية والخلقية المتعلقة بالأفراد. فهو من ناحية أدى إلى طمس السمة الفكرية والتشريعية في الإسلام ودعوته بوصفه عقيدة ونظام للحياة والمجتمع؛ ومن ناحية أخرى صرف كثيراً من الدعاة والجمعيات عن تغيير المجتمعات والعناية بأنظمة المجتمع وشؤون الدولة وقضايا الأمة، إلى "إصلاح الأفراد" فقط! وحتى تلك التي تقوم بإصلاح الأفراد فإنها تركز على الناحية الفردية في شخصية الفرد، ولا تُعنى ببناء الجانب الجماعي والمجتمعي في شخصية الأفراد بوصفهم أجزاء في جماعة، وأفراداً في أمة ورعايا في دولة. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يعتمد عدد من الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين طريقة "الوعظ والإرشاد" سياسة رسمية في تأهيل الأئمة والوعاظ الرسميين، وإقراراها منهاجاً في الدراسات الشرعية، وكذلك ترخيص الجمعيات التي تقوم عليها لكي تتولى تقنين بل وتوجيه العواطف الدينية والحاجات الروحية لدى جمهور المسلمين!

أما مفهوم الجدال بالحسنى، فتعرض هو الآخر لتأويلات بعيدة عن مدلول النص، منشؤها الواقع المركب الناتج عن غياب الحياة الإسلامية وضمور الوعي الإسلامي واندراس النظام الإسلامي لفترة طويلة من الزمن. فمن جهة، هناك سلوكيات منفرة من بعض المشتغلين بالدعوة، سمتها الخصومة والتعنيف والتجريح سواء في جدال المسلمين أو غيرهم، بحيث تنقلب المناظرة أو الحوار إلى خصومة شخصية وعداء وتخاصم بمعزل عن الفكرة، فجاءت ردة الفعل بتأويل الآية بمعنى المصانعة ومراعاة مشاعر الخصم والتودد له والبعد عما يكره سماعه، وذلك كله على حساب الموضوعية والصدع بالحق وبيان عقائد الإسلام وشرائعه واضحة جلية كما نزل بها الوحي، وبيان موقف الإسلام من القضايا القائمة دون مواربة ، تماماًكما هو نهج النبي عليها السلام في دعوته للمشركين وأهل الكتاب في عصره.

ب ـ المعاني اللغوية والاصطلاحية:

وقبل الشروع في عرض أقوال المفسرين في بيانهم لمعنى الآية الكريمة، سنلقي الضوء على أقوال أهل اللغة في بيان معاني الحكمة والموعظة والجدل في لغة العرب، الذين نزل القرآن بلسانهم، ثم نعقب بمعانيها في الاصطلاح.

الحكمة لغة:

قال صاحب القاموس: "أحكم الأمر: أتقنه فاستحكم، ومنعه من الفساد"[1]. وجاء في اللسان: "الحكمة (بالفتح) عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم... والحكمة (بالكسر) العدل.. وأحكم الأمر: أتقنه.. والحكيم المتقن للأمور."[2]

الحكمة اصطلاحاً:

يعرّف الراغب الحكمة بأنها: "إصابة الحق بالعلم والعقل"[3]. أما الطبري فيعرفها بأنها: "الإصابة في القول والعمل"[4]. ويقول ابن القيم: "الحكمة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"[5]. ويعرّفها في موضع آخر فيقول: "الحكمة.. وضع الشيء في موضعه"[6]، وهو أدق وأوجز تعريف فيما نعلم.

الوعظ لغة:

جاء في اللسان: "الوعظ والعظة والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب"[7]. وقال صاحب القاموس: "وعظه يعظه وعظاً وعظة وموعظة: ذكّره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب، فاتعظ"[8]. وجاء في كتاب العين: "العظة: هو تذكيرك الرجل بالخير ونحوه مما يرقّ له قلبه"[9].

الوعظ اصطلاحاً:

يعرّف الراغب الوعظ فيقول: "الوعظ زجر مقترن بتخويف"[10]. أما صاحب التعريفات فيعرف الموعظة بأنها: "التذكير بالخير فيما يرق له القلب"[11]. أما في الاصطلاح الحديث فالموعظة هي: "خطبة دينية هدفها إثارة المشاعر لفعل الخير وتجنب الشر، وتوجيه النفوس نحو عبادة الله تعالى. والوعظ والإرشاد: مجموعة القواعد والأصول المنهجية التي يقوم عليها تكوين الخطب الدينية وإلقاؤها"[12].

الجدل لغة:

"الجدل: شدة الفتل. وجدلت الحبل جدلاً إذا شددت فتله وفتلته فتلاً محكماً.. وجادله: أي خاصمه، مجادلة وجدالاً. والجدل: مقابلة الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة[13].

الجدل اصطلاحا:

قال الراغب: "الجدل: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة"[14]. وعرّف الجرجاني الجدل فقال: "دفع المرء خصمه عن إفساد قوله: بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه؛ وهو الخصومة في الحقيقة"[15].

ج ـ أقوال المفسرين:

ورد ذكر الحكمة عشرون مرة في القرآن بمعانٍ مختلفة وفي سياقات متعددة: تارة مقرونة بما أنزله الله تعالى على الرسل من كتاب، وتارة أخرى على أنها مما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه، أو أنزله إليهم، أو آتاهم إياه، اصطفاء لهم دون غيرهم. وبمعنى أدق، فقد جاءت الحكمة بمعان متعددة، وفق السياقات المذكورة، أبرزها: النبوة، والقرآن، والسنة، والفقه، والعلم. إلا أنها جاءت أيضا في سياق مطلق، بمعنى أنها مما يؤتيه الله تعالى من يشاء من عباده. ولولا الإطالة وخشية الخروج عن الموضوع لعرضنا تلك السياقات المذكورة[16].

قال الطبري في تفسيره للآية: "(إلى سبيل ربك) يقول: إلى شريعة ربك.. (بالحكمة) يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي ينزله عليك (والموعظة الحسنة) يقول: والعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكرهم بها في تنزيله.. (وجادلهم بالتي هي أحسن) يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى."

وجاء في فتح القدير للشوكاني: "( {ادع إلى سبيل ربك} ).. وسبيل الله هو الإسلام. (بالحكمة) أي: بالمقالة المحكمة الصحيحة. قيل: وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين. (الموعظة الحسنة) وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. وقيل: وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة، ونحو ذلك من الجدل. ولهذا قال سبحانه: (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي: بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً، وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً".

 

أما ابن كثير فيقول في معنى الآية: "يقول تعالى آمراً رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة (والموعظة الحسنة)، أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكّرهم بها؛ ليحذروا بأس الله تعالى، وقوله ( {وجادلهم بالتي هي أحسن} ) أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب".

 

وجاء في الكشاف للزمخشري: "(إلى سبيل ربك) إلى الإسلام (بالحكمة) بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة (والموعظة الحسنة) وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم. ويجوز أن يريد القرآن، أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة. ( {وجادلهم بالتي هي أحسن} ) بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف".

 

أما البغوي فيقول في معالم التنزيل: "( {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} ) القرآن، ( {والموعظة الحسنة} )، يعني مواعظ القرآن.. وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب. وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف. (وجادلهم بالتي هي أحسن)، وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن، أي: أعرض عن أذاهم، ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق".

 

ويلخص ابن الجوزي مجمل أقوال المفسرين، فيقول: "وفي المراد (بالحكمة) ثلاثة أقوال: أحدها: أنها القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الفقه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: النبوءة، ذكره الزجاج. وفي (الموعظة الحسنة) قولان: أحدهما: مواعظ القرآن، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الأدب الجميل الذي يعرفونه، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى (وجادلهم) في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مكة، قاله أبو صالح. والثاني: أهل الكتاب، قاله مقاتل. وفي قوله: (بالتي هي أحسن) ثلاثة أقوال: أحدها: جادلهم بالقرآن. والثاني: بـ "لا إله إلا الله" روي القولان عن ابن عباس. والثالث: جادلهم غير فظ ولا غليظ، وألن لهم جانبك، قاله الزجاج".

ويجدر بنا في هذا المقام أن ننقل كلام ابن القيّم لدقته ووضوحه في بيان اختلاف الطرق الثلاث تبعاً لاختلاف واقع المدعو، واستعداداته ودوافعه وموانعه، العقلية منها والنفسية؛ يقول ابن القيم: "ذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه: إما أن يكون طالباً للحق، راغباً فيه، محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، ولكن لو عرفه آثره واتبعه؛ فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معانداً معارضاً؛ فهذا يجادل بالتي هي أحسن"[17].

والخلاصة هي أن مجمل أقوال المفسرين في معنى الحكمة الوارد في الآية الكريمة لا تتعدى المعاني التالية:

أولاً: الدليل، أو البرهان، أو الحجة القطعية.

ثانياً: القرآن، أو السنة، أو الوحي، أو النبوءة.

ثالثاً: الفقه.

أما الموعظة الحسنة، فخلاصة أقوال المفسرين فيها تدور حول المعاني التالية:

أولاً: التذكير والتحذير بزواجر القرآن.

ثانياً: المناصحة.

ثالثاً: الترغيب والترهيب.

رابعاً: العبر الجميلة، أو ما يعتبر به السامع.

خامساً: الأدب الجميل.

سادساً: القول اللين دون غلظة.

أما الجدال بالتي هي أحسن فأقوال المفسرين فيها تتلخص في الآتي:

أولاً: الخصومة مع الصفح عن الأذى.

ثانياً: المجادلة بالقرآن.

ثالثاً: المناظرة برفق ولين.

وبناء على ما تقدم، فيكون معنى الحكمة هي الحجة والدليل، وذلك يشمل القرآن والسنة والوحي؛ أما الموعظة الحسنة فهي التذكير والتحذير بأسلوب مؤثر، والجدال بالتي هي أحسن هو الخصومة الفكرية دون مقابلة الأذى بالمثل.

وعليه فيكون المعنى الإجمالي للآية: أدع يا محمد إلى رسالة ربك - أي دين الإسلام - بالحجة والبرهان، وذكرهم بآيات الله تذكيراً يشوقهم لنعيم الجنة ويخوفهم عذاب الآخرة، وجادلهم معرضاً عما ينالك من الأذى[ii].

ويتضح من استعراض أقوال المفسرين، وأهل العربية، أن لا دلالة في الآية الكريمة على جواز التملّق للرأي العام أو الحكام، وليس فيها ما يجيز المهادنة أو المجاملة في إثبات صحة العقيدة أو بيان موقف الإسلام من مسائل الكون والتشريع ونظام الحياة وقضايا المجتمع. كما أن الآية لا تحتمل معانيها في اللغة والشرع والاصطلاح ما يستدل به البعض، من علماء وعامة، من جواز التنازل عن بعض أحكام الإسلام بحجة الحكمة سواء كان ذلك بقصد استمالة غير المسلمين لدعوتهم إلى الإسلام، أو في جدال الملحدين والعلمانيين وغيرهم. ومن نافلة القول التنبيه إلى أن ما أورده بعض المفسرين في بيان معنى الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن على أنها تعني اللين والقول الرقيق من غير غلظة أو تعنيف، فلا دلالة فيها على جواز التملّق والمهادنة والتنازل، وهو لا يسوّغ الامتناع عن الصدع بالحق وبيان موقف الإسلام كما جاء به الوحي في الكتاب والسنة، دون زيادة أو نقصان، خوفاً من معارضة أعداء الإسلام، أو مقاومة الرأي العام أو بطش السلطة والحكام. بل هو في سياق الابتعاد عن التنفير والغلظة التي تعمي وتصم عن قبول الحق وتحول الدعوة والموعظة والجدال إلى خصومة شخصية.

وقد جاءت سنة النبي وسيرته في الدعوة الإسلامية لتؤكد على هذه المعاني في أفعاله وأقواله الثابتة في السنة الصحيحة، حيث بينت سيرته وسنته كيفية امتثاله لأمر ربه سبحانه، بالدعوة إلى سبيل الله واضحاً صادقاً، أميناً مستقيماً، لا يتملّق سادة قريش في مكة، ولا يساوم زعماء يهود في المدينة، بل يصدع بوحي ربه في نقض عقائدهم، وبيان كذبهم على الله ورسله، ويسفه أحلامهم لعبادتهم أصناماً لا تنفع ولا تضر، ولاتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، وينعى عليهم طريقة عيشهم الفاسدة لوأدهم البنات ومقارفتهم الزنا وعصبيتهم الجاهلية، ويقرعهم بقارص الكلام لأكلهم الربا وتطفيف الكيل وظلمهم للفقراء. والناظر في السور المكية خاصة، وكذلك السور المدنية، يجدها مليئة بمحاججة المشركين وجدال اليهود والنصارى، وفيها الكثير من البراهين العقلية والحجج النقلية التي أمر النبي عليه السلام بتبليغها والصدع بها لبيان صدق رسالته وإثبات صحة نبوته. بل إن الله سبحانه قد نهى نبيه عن مصانعة المشركين، فقال تعالى ﴿ {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (سورة ن، الآيتين ٨ـ٩). وقوله تعالى آمراً نبيه بالتزام نهج محدد في كفاح أهل الكفر والنفاق من مناهضي الدعوة الإسلامية ﴿ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (سورة التوبة، الآية ٧٣)

بقيت مسألة وهي دعوى النسخ لهذه الآية. يرى بعض المفسرين وفي مقدمهم القرطبي والبغوي وابن الجوزي أن الآية منسوخة بآية السيف، خلافاً لجمهور المفسرين. ولا يخفى أن للدعوة بالبيان واللسان موضعها، كما أن للجهاد بالسنان موضعه. والمقام هنا لا يتسع للاستفاضة، إلا أننا نقول: لا تعارض بين الآيات التي تأمر بجدال الكفار والمشركين وأهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام، وبين الآيات التي تدعو إلى قتالهم وجهادهم، وهذا ما سار عليه النبي عليه السلام بعد هجرته إلى المدينة وبدء تشريع الجهاد، فقد كان عليه السلام يدعو المشركين واليهود ويجادلهم، وفي نفس الوقت يسير السرايا لقتالهم، ومن الأمثلة الواضحة الدالة على ذلك حديث النبي الذي يُبيّن تمايز خصلة القتال عن خصلة الدعوة في ما رواه مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال «: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم... فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.» " وعليه فلا مكان للنسخ هنا، لا سيما أن تعارض الأدلة من أولى شروط النسخ، ولا تصح دعوى التعارض إلا إذا تعذر إعمال الدليلين، ومن القواعد المقررة في الأصول "إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما". يقول جمال الدين الآسنوي في التمهيد: "إذا تعارض دليلان، فالعمل بهما، ولو من وجه، أولى من إسقاط أحدهما بالكلية، لأن الأصل في كل واحد منهما هو الإعمال"[18].


انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي، فصل الحاء، ص ١٤١٥، ولسان العرب لابن منظور، فصل الحاء، ج ١٢/١٤٣. [1]

لسان العرب، مادة حكم. [2]

المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم، ص ١٢٧. [3]

تفسير الطبري، ابن جرير الطبري،١/٥٥٨. [4]

  مدارج السالكين، ابن القيم الجوزية، ٢/٤٤٩. [5]

مدارج السالكين، ٢/٤٧٨، وأبو حيان، البحر المحيط، ١/٣٩٣. [6]

لسان العرب، ابن منظور، مادة "وعظ" ٨/٤٨٧٣. [7]

القاموس المحيط، الفيروز ابادي، مادة وعظ ص ٩٠٣. [8]

كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، مادة "وعظ" ٢/٢٢٨. [9]

المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مادة "وعظ" ص ٥٢٧. [10]

التعريفات للجرجاني، مادة "وعظ" ص ٣٠٨. [11]

اللغة العربية المعاصرة. [12]

لسان العرب، ابن منظور، مادة جدل، ١١/١٠٥، والصحاح في اللغة، الجوهري، مادة جدل. [13]

المفردات في غريب القرآن، ص ٢٣٧. [14]

التعريفات، الجرجاني، ص ١٠١. [15]

نشير هنا إلى أن الحكمة وردت في أحاديث الرسول عليه السلام بمعان قريبة مما سبق، ولنا معها وقفة في مقال مستقل خاص بتأويل الأحاديث في سياق التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية. [16]

[17] الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن القيم الجوزية، ٤/١٢٦٧.

 

[18] التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، جمال الدين الآسنوي، ص ٥٠٦.

 

 

 [i]ولمزيد من التوضيح، نبرز بإيجاز أهم أوجه الاختلاف بين الإسلام والنصرانية، فنقول: إن النصرانية في واقعها هي دين وجداني فردي، يقوم على الوصايا العشر والمواعظ الروحية والأخلاقية. فمن المعلوم أن النصرانية تقوم على الإيمان عن طريق الوجدان والمشاعر والتسليم، وتناقض العقل بقولها بالتثليث، وتدعو إلى بعض الشعائر الروحية والوصايا الخلقية المتعلقة بالفرد. أما الإسلام فهو يقوم على عقيدة تخاطب العقل بالحجج والبراهين العقلية المستندة على الشواهد المحسوسة، ثم تدعوه للتسليم بالمغيبات التي لا يدركها العقل، بناء على ما ثبت أصله يقينا بالرهان العقلي، فهي عقيدة صحيحة وصالحة لجميع بني البشر، لكونها تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان، فتقنع العقل وتوافق الفطرة بما فيها من احتياج للخالق المدبر، قال تعالى ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (سورة النمل، آية ٦٢). أما تشريعياً فقد جاءت أحكام الإسلام بتشريعات كاملة لا تقتصر على عبادة الفردة وخلقه مع أسرته ومحيطه، بل نظمت جميع العلاقات الإنسانية في المجتمع بأحكام الاراضي والتجارة والاستصناع في الناحية الاقتصادية، كما فصلت أحكام الزواج والحضانة والنفقة في الناحية الاجتماعية، وكذلك بينت أحكام الحرب والمعاهدات والأسرى والعشور في السياسة الخارجية، وبينت كذلك أحكام البيعة والخلافة والإمارة في نظام الحكم السياسي، كما وضع الإسلام أيضا قواعد وأصولا تتعلق بأحكام البينات والشهادة في الناحية القضائية.. ولذا كانت شريعة الإسلام نظاماً كاملاً شاملاً لجميع نواحي الحياة، مصداقا لقوله تعالى ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (سورة المائدة، آية ٣)، وقوله تعالى ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (سورة النحل، آية ٨٩).

 

 

 

 

[ii] من النكت الخفية في هذه الآية الكريمة وصفه تعالى الموعظة بـ "الحسنة" وتقييده الجدال بـ "التي هي أحسن"، خلافا للحكمة حيث جاءت مطلقة. والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الحكمة، بمعنى البرهان أو القرآن أو الوحي، أو حتى بمعنى وضع الشيء في موضعه، لا توصف بالحسن لكونها لا تكون غير ذلك، فهي حسنة في ذاتها، فليس هناك حكمة حسنة وحكمة سيئة أو قبيحة. وذلك بخلاف الموعظة والجدال، حيث إن الموعظة بمعنى النصح والتذكير قد تؤدي إلى تنفير السامع إن وقعت باستعلاء أو بأسلوب التوبيخ أو التحقير ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (سورة آل عمران، آية 159)، فتكون موعظة قبيحة تؤدي إلى عكس المقصود منها وهو انتفاع المخاطب بها، ولذا كان مناسباً تقييدها بالحسنة ليُدرك المسلمون عامة والعلماء وحملة الدعوة خاصة، أن المطلوب ليس مجرد موعظة أي موعظة، بل المطلوب أداء الدعوة بأسلوب الموعظة الحسنة التي يتحقق فيها فتح القلوب وإثارة العقول، أو بعبارة أخرى إثارة الإيمان والتقوى في النفوس لحملها على القيام بالأوامر واجتناب النواهي. وكذلك الجدال فإن فيه معنى الغلبة والخصومة، فإن جرى بأسلوب ظهر فيه ـ ولو عن غير قصد! ـ تكبّر أو استعلاء على الخصم أدى إلى عناده وابتعاده عن الحق بدل خضوعه له. وإن لم يُراعَ في الجدال الخصومة الفكرية حصراً فسيتحول على الأغلب إلى خصومة شخصية، وهذا منزلق يحول دون طلب الحق والإذعان له، ولو أبصره الخصم رأي العين! ولذلك اقتضى السياق تقييد الجدال بالتي هي أحسن لتنبيه المسلمين والمشتغلين بدعوة الناس إلى دين الله سبحانه أن يتحروا غلبة الحق، لا غلبة الذات، وأن ينتصروا للعقيدة، لا لأشخاصهم؛ فتأمل!