سِيرٌ مُختَصرة، لعِبَرٍ مُزدهِرة...! جزء(١)
انكسر قلمه في الدرس، فعزَّ عليه تضييع الوقت، وذهاب الفائدة ، وضحى بالمال، فصدَح بقوله:( قلمٌ بدينار ). فطارت إليه الأقلام.. إنه محمد بن سلَام البِيكَندي رحمه الله .
• مع روعة السير وجاذبيتها للمتلقين، إلا أنه قد يُشتكى أحيانا من طول القصة، وكثرة الصفحات ، والسرد التاريخي الذي ينفّر ولا يقرب، فناسب لنا ولغيرنا الاختصار والابتكار، والتهذيب والترتيب،-لا سيما ونحن في أزمنة الاختصار والسرعة- بحيث يُلتمس الجوهر، ويُعثر على الدر المجوف الأزهر، في لحظات سريعات، وملافظ بديعات .
• فقررنا وسمها بعناوين مصغرة، تكشف ما وراءها من جودة وعلو وإتقان، أو حكمة وبديعة وأسرار...! تحوي الشخصية وأثرها والذي ارتبط بها...!
• لذلك سنسرد هنا سيراً مزدهرة بدروس وعبر مختلفة، نحاول من خلالها لمّ الشمل القصصي، واللُّمَع التراجمية من خلال لفظة أو عبرة، أو همسَة، تذكي الروح، وتلهم العقول...!
• وأولهم وخيرُهم: نبينا وسيدنا (رسول الله وعلاقته بالدعوة)، النبي الأعظم والرسول الأكرم، عليه أفضلُ الصلاة وأتم التسليم، وسيرته تزخر بالدرس والحكمة والعجب، من أولها لآخرها ، والمقصد الإشارة هنا: إلى جهاده الدعوي، وجلاده الإصلاحي والتربوي ، فلم تُرهقه المشاق، ولا أرهبته الشدائد كما قال الله: ( فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ).سورة الكهف . فكانت الدعوة روحه وسلوته وسعادته .
• ثانيا: ( الصِّديق والمسابقة ): اجتمع له في يوم واحد صيام وصدقة وجنازة وعيادة، وفيه الحديث الصحيح: ( أيما امرئٍ اجتمعن فيه دخل الجنة ).
• ثالثا: ( عثمان وجيش العسرة ): جادَ فيه بلا بخل، وأندى بلا تردد، وتساخى بلا مهابة ولا مخافة، أعطى عطاء من لا يخشى الفقر، ويرجو العاقبة والأجر ..! وللناس أخلاقٌ تدلُّ على الفتى/ أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا ..!
• رابعا :( عليٌ والفداء ): برُغم صباه تعرض للفداء، وقدم روحه لأجل الإسلام، وحبا لرسول الله، ومشاركة فدائية عملية ، حيث نام على فراشه ليلة الهجرة، غير خائف ولا هيّاب...!
• خامسا (ربيعة والمرافقة) : اشتاق شوقا، وعلا همةً، ولَم يرد الجنة دون مرافقة رسول الله، ومصاحبة المختار، فقال: أسالك مرافقتَك في الجنة فقال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ..!
• سادسا: ( جابر وحديث واحد ) : لم يستطِل الرحلة في العلم، وجمع السنن ولو لسنة واحدة، أو حديث فرد، بل تأهب واحتزم، وانطلق واشتد "للشام"، غير مبال بالساخرين، أو الناقدين ، إنه الشغَف العلمي، والحب النبوي . ونظيره صنع أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في رحلته إلى "مصر"، عند عبدالله بن أُنيس، ولأجل حديث واحد..!
• سابعا:( بلال والوضوء ): متطهر على الدوام، ونقي من أثر الطهارة والوضاءة ، ما من ساعة ليلية أو نهارية إلا وصلى ركعتين لله، حتى سمع المختار عليه الصلاة والسلام دَفّ نعليه-صوتهما- في الجنة، والباعث صلاة مع كل وضوء ...!
• ثامنا:( عائشة والتفقه ): كانت مرجع الصحابة، وأمّهم فقها وعلما ومكانة، فهي أفقه نساء الأمة على الإطلاق، لا سيما في الشؤون الخاصة، ودواخل البيت النبوي . قال الزُّهريُّ رحمه الله: " لو جُمِع عِلمُ عائشة إلى عِلمِ جميعِ النساء، لكان علمُ عائشةَ أفْضلَ ".
• تاسعا: ( أسامة والقيادة ): انتخبه رسول الله رغم صغر سنه، وفضله على قيادات الصحابة، ودافع عنه لما طعن في قيادته وقال( وأيمُ الله إن كان لخليقاً للإمرة ). وفِي ذاك تنبيه وتوجيه، وتربية وصقل، وبناء وإعداد .
• عاشرا: (ابن عباس والظهيرة ): أحس بحاجته للعلم بعد وفاة رسول الله، فاستدعى جاره الأنصاري" هلم نطلب العلم" فسخرَ منه، فذهب بعده لبيوتات الصحابة، محتملا الظهيرة والريح والغبار، حتى جمع العلم، وأحرز الفوائد ، وقال له جاره بعد مدة، وقد جلسَ للعلم" هذا الفتى كان أعقلَ مني ".
• الحادي عشر(ابن مسعود والسبعون): اشتهر بعلو الهمة، وأعلن في الصحابة تلقيه القرآن وجمعه من فم رسول الله ،يقول:( أخذتُ سبعين سورة من فم رسول الله... ) وقال:( والذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله، إلا أعلم فيما نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني ، تناله المطايا لأتيته) .
• الثاني عشر:( سعيد والسير الطويل ) أي همة حملها، وأي عبادة تقمصها، وهو العالم العابد ، واشتهر بمقولة " كنّا نسير الأيام والليالي لأجل الحديث الواحد "
• الثالث عشر: (ابن حنبل والمحبرة ): التصق بها التصاقاً، والتحفها التحافا، حتى عُرف بها، وطار بها في كل مكان أول الطلب، وبعد الطلب والإمامة، وبلوغ الغابة.. فانتُقد فقال" مع المحبرة إلى المقبرة ". فهي آلة الحفظ والكتابة، والانتباه والنشاط .
• الرابع عشر:( البخاري والعشرون مرة ): ينام فلا يطيب له النوم، ولا يحلو له الارتياح، فيهب مسرعا إلى السراج والقلم والقرطاس، ليقيد الفائدة الحديثية نحو عشرين مرة، حتى أخرج لنا مصنفات، وأهدانا مجلدات، أجلُّها الصحيح المذهب، وجامعه المكلّل...!
• الخامس عشر:( ابن حبان وألفا شيخ ) طار رحالةً جوالا، طوافا المشرف والمغرب، حتى قال" لعلنا كتبنا عن ألفي شيخ" ويأتيك جويهلٌ حدَثٌ، لم يجمع العلم ، ولا ثنى ركبتيه عند الشيوخ منتقدا ومؤلفا ومتعقبا،.. يظن أن وثيقة هشة طالها الجميع، كافية في الإبداع والإتقان...!
• السادس عشر:( الرازي وألف فرسخ ): بدون سيارات ولا طائرات، ذرع بقدميه الأرض، وسار على الصعاب، وداس على الشدائد حتى قطع الفيافي، وبلغ الألف فرسخ، وهو بتقديرنا ( ٥٠٠٠ آلاف كم) تقريبا .
• السابع عشر( النووي والإثنا عشر ): درسا يحضرها ويراحعها على شيوخه بلا تكاسل، أو تشاغل، أو تباعد، أو اعتذار، قد وطّن نفسه على الصبر، وحملها على الإصرار، وساقها إلى المكرمات ، حتى ظفر بالمَلَكات، وأثمر التصنيفات الباهرات .
• الثامن عشر: ( الخليل والمأكولات ): حينما تلذ بها، وتستمتع بروائحها ومناظرها، يسخط الخليل رحمه الله ويقول:( أثقلُ ساعةٍ علي ساعة آكل فيها )...!
• التاسع عشر(مالك والسقف): يحتاج للكتب، وتدعوه السعادة العلمية للتضحية والسخاء، فيبيع سقف بيته حبا للعلم، وإيثارا للمعرفة .
• العشرون( الطبري والهمم الميتة): تشتعل همته الكتابة فيعرض على طلابه المساعدة، فيذكر للتفسير والتاريخ قرابة الثلاثين ورقة.. فيعتذرون.. هذا مما تفنَى الأعمار دون تمامه، فيصدع قائلا " إنا لله ماتت الهمم ".
• الواحد والعشرون :(يَحي والبيت الخالي ) لو سئل بعضنا عن ألذ انقطاع، وأطيب الشهوات، لعدّد صنوفا دنيوية، بينما يحي بن معين رحمه الله، يُسأل فيجيب" بيت خالي وإسناد عالي ".
• الثاني والعشرون(السُّلَمي والأربعون ): قعد في جامع الكوفة الأعظم يقرئ أبناء المسلمين بلا ثمن ولا مقابل... وحينما يسأل: ما هذا التعب وتلك المشقة والكلفة؟!.. فيقول : حديث رسول الله( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
• الثالث والعشرون ( الطبراني والبواري ):مصنف المعاجم الثلاثة، ويعاني فيها الأمرين، حيث يمكث ثلاثين سنة ينام على البواري أي الحصير، فيشتكي جسمُه ولا تشتكي همته..! فأيكم يطيق ذاك، أو يساوِم على فراشه وسيارته...؟!
• الرابع والعشرون: (ابن تيمية والمرض): كان مولعا بالقراءة، حتى إنه لم يدعه وقت المرض، واختصم مع طبيبه، وحجّه بالسرور، وقال: أحاكمك إلى طبك، أليست النفس إذا فرحت وانشرحت قويت الطبيعة، ودفعت المرض، قال: بلى... قال وكذلك أنا بالمطالعة، فقال: هذا خارج عن علاجنا..!
• الخامس والعشرون(ابن عقيل والثمانون): بلغ من العمر عتيا، واعترته الشيخوخة، فما جفت همته، ولا انحطت عزيمته، يقول:( إني لأجد من حِرْصي على العلم، وأنا في عَشْرِ الثمانين أشدّ مما كنت أجده، وأنا ابنُ عشرين سنة) . بوركت الأعضاء، وطابت الأركان، فأنتجت إنتاج الصغر...!
• السادس والعشرون( ابن القيم والزاد): خرج إلى البلد الحرام حاجا مهاجرا إلى الله، فكتب زاد المعاد) فجاء فيه بالمعارف والنفائس والعجائب، حتى لكأنك تقرأ في مكتبة متفننة، أو تسرح في حدائق ذات بهجة، أو تجول في نسائم الانشراح ...!
• السابع والعشرون(الخطيب والمشي ): كان إذا مشى، وخطا خطوات حمل كتابه اللصيق، ورفيقه الأنيس المتمثل في كتابه، الذي لا يسلو عنه، ولا تطيب حياته دون فحواه وهمسه ولذته. ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله ..!
• الثامن والعشرون(حماد بن أسامة واليد العاملة ) : جدَّ وتحاملَ بيده كتابةً، وعزفت كفه تقييدا وإفادة، حتى قال:" كتبت بيدي هذه مائةَ ألف حديث"
• التاسع والعشرون:(البِيكَندي والقلم): انكسر قلمه في الدرس، فعزَّ عليه تضييع الوقت، وذهاب الفائدة ، وضحى بالمال، فصدَح بقوله:( قلمٌ بدينار ). فطارت إليه الأقلام.. إنه محمد بن سلَام البِيكَندي رحمه الله .
• الثلاثون( الشعبي وقنطرة المنال): يُسأل رحمه الله: كيف نلتَ هذا العلم..؟! وكيف بلغت ونبغت، حتى جاورت المعالي ...؟ فيقول:( بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب ). وهي وصفة نبوغية، من حققها بلغ ما تمنّى، وأدرك ما تشهّى..!
وللسير بقية......
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ...
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: