اليقظة من رقدة الغفلة (2-2)

منذ 2019-09-07

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: فأفقت من مرض غفلتي! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ وبأي لسان أنطق بمدحك؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي, ونبهتني من رقدتي.


ثالثها: العزم الجاد على بداية حياة الجديدة:

بعد أن يحاسب العبد نفسه ويعرف تقصيره في حق ربه وظلمه لنفسه, ويرى أهل البلاء, وما هم فيه من غفلة عن الله, فتعظم نعمةُ الله عليه في هدايته, فيشكره الله عليها, ويعزم عزماً جاداً على ترك حياته السابق والبداية  في حياة جديدة, مستعيناً بالله متوكلاً عليه, قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله }  [آل عمران:159] فيصدق في عزمه, ويحذر من التسويف والتهاون, ويتجنب السين وسوف, وهي شجر ثمرها الحسرات والندامات.

رابعها: التوبة والندم على ما مضي من تقصير وتهاون:

بعد عزم العبد على بداية حياة جديدة, فإن خير بداية لها: التوبة والندم على ما مضى من تقصير وتهاون, والتوبه لها علامات, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات:

منها: أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة.

ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحباً له, لا يأمن طرفة عين, فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كُنتم تُوعدون} [فصلت:30] فهناك يزول الخوف.

ومنها: انخلاع قلبه, وتقطعه ندماً وخوفاً, وهذا على قدر عِظَمِ الجناية وصغرها..ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يُوجب انصداع القلب وانخلاعه..وهذا حقيقة التوبة, لأنه يتقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه, وخوفاً من سوء عاقبته, فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفاً, تقطع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق, وعاين ثواب المطيعين, وعقاب العاصين, فلا بدَّ من تقطُّع القلب إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة.

ومنها: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء..تكسر القلب...كسرةً تامةً قد أحاطت به من جميع جهاته, وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً..فلله ما أحلى قوله في هذا الحال: أسألك بعزك وذلي لك إلا رحمتني, أسألك بقوتك وضعفي وبغناك وفقري إليك, هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك, لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه, وفاضت لك عيناه, وذلَّ لك قلبه.

فهذا من آثار التوبة المقبولة فمن لم يجد ذلك..فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها.

خامسها: دوام المراقبة:

بعد التوبة الصادقة إلى الله, والندم على الذنوب والمعاصي يديم العبد مراقبة نفسه, لأنه لا يأمن على نفسه من العودة للذنب, فينظر بعين البصيرة إلى مصدر المعصية ومحله, فيجد أن مصدره نفسه الأمارة بالسوء فيرغب إلى خالقه أن يقيه شرها, قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: (قل: اللهم ألهمني رُشدي, وقني شرَّ نفسي) [أخرجه الترمذي] كما يسأله أن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( «اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها» ) [أخرجه مسلم]

وينظر فيجد أن الآمر له بالمعصية, المزين له فعلها, الحاضِّ له عليها وهو شيطانه الموكل به, فيفيده ذلك اتخاذه عدواً, قال الله عز وجل: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:6] وإذا اتخذه عدواً أخذ كمال الاحتراز منه والتحفظ واليقظة والانتباه لما يريده منه وهو لا يشعر

وهذه المراقبة للنفس المستمرة ستكون بعون الله مانعة لله من العودة والانتكاس لحياته السابقة.

فمن وفق لهذه الأمور الخمسة فقد استيقظ من رقدته, فليبشر بالحياة الطيبة الخالية من ضيق الصدر والهموم والأحزان, والبعيدة عن المخاوف التي كانت تعتريه في دنياه في نفسه وماله وبدنه وأهله, حيث سيهرب من ذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله, وصدق التوكل عليه, وحسن الرجاء لجميل صنعه به, وتوقع المرجو من لطفه وبرِّه, نسأل الله الكريم من فضله وجوده وإحسانه.

ومن وفق لليقظة من رقتده فعليه أن يشكر الله عز وجل على ذلك, قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: فأفقت من مرض غفلتي! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ وبأي لسان أنطق بمدحك؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي, ونبهتني من رقدتي.

أسأل الله عز وجل يقظة تامة تصرف عنا رقاد الغفلات, فقد حذرت من الداء وأنا من أهله, ووصفت دواء قصرت عن أخذه.

                                      كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ