فوائد من كتاب روضة المحبين لابن القيم (1-4)

منذ 2019-09-13

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس العاقلُ الذي يعرفُ الخيرَ من الشر, ولكنه الذي يعرف خيرَ الشرَّين

 

  المقدمة :    

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد:

فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه المسمى " روضة المحبين ونزهة المشتاقين " وهو من أفضل الكتب التي ألفت في موضوعه, وقد زخر الكتاب بنفائس من الفوائد المتنوعة, وقد انتقيتُ ما يسّر الله الكريم من هذه الفوائد التي جاءت في مواضيع متعددة, منها: فضيلة العقل, فوائد غضَّ البصر, أقسام اللذات, الجمال الظاهر والباطن, أقسام النفوس ومحابها, محبة الله جل جلاله, علامات المحبة التي يستدل بها عليها, علامات معرفة العبد ربه, أضرار ومفاسد ارتكاب الحرام, العقوبات العاجلة والآجلة, أمثلة لمن ترك شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه, ذم الهوى والأسباب المعينة على تركه, وفوائد أخرى متفرقة.

أسأل الله الكريم أن ينفع بتلك الفوائد, ويبارك فيها.

فضيلة العقل:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس العاقلُ الذي يعرفُ الخيرَ من الشر, ولكنه الذي يعرف خيرَ الشرَّين, وقالت عائشة رضي الله عنها: قد أفلحَ من جعل اللهُ له عقلاً, وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: لو أن العاقل أصبح وأمسى وله ذنوب بعدد الرمل كان وشيكاً بالنجاة والتخلص منها, ولو أن الجاهل أصبح وأمسى وله من الحسنات وأعمال البرَ عددُ الرمل لكان وشيكاً أن لا يسلم له منها مثقالُ ذرَّةٍ. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: لأن العاقل إذا زلّ تدارك ذلك بالتوبة والعقل الذي رُزِقَه, والجاهل بمنزِلة الذي يبنى ويهدِم, فيأتيه من جهله ما يُفسد صالح عمله, وقال وهب بن منبِّه: قرأتُ في بعض ما أنزل الله تعالى: إن الشيطان لم يكابد شيئاً أشدَّ عليه من مُؤمنٍ عاقل, وإنه ليسوقُ مئة جاهلٍ, فيستجرهم حتى يركب رقابهم, فينقادون له حيث شاء, ويُكابد المؤمن العاقل, فيصعُب عليه حتى ينال منه شيئاً من حاجته. قال: وإزالة الجبل صخرةً صخرةً أهون على الشيطان من مكابدة المؤمن العاقل, وقال الحسن: لا يتمُّ دينُ الرجل حتى يتمَّ عقلهُ, وما أودع الله امرأً عقلاً إلا استنقذه به يوماً, وقال بعض الحكماء: من لم يكن عقلُه أغلبَ الأشياء عليه كان حتفُه في أحبَّ الأشياء إليه.

أُمِرَ النساء بستر وجوههن عن الرجال الأجانب دراً للفتنة بهن:

أُمِرَ النساءُ بستر وجوههن عن الرجال, فإن ظهور الوجه يُسفرُ عن كمال المحاسن, فيقع الافتتنان, ولهذا شُرِع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة, فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها, كان ذلك أدعى حصول المحبة والأُلفة بينهما, كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( «إذا أراد أحدُكم خطبة امرأةٍ فلينظُر إلى ما يدعوه إلى نكاحها, فإنَّه أحرى أن يؤدم بينهما»

النفوسُ الشريفة الزكَّيةُ العلوية تعشقُ صفات الكمال: 

النفوسُ الشريفة الزكَّيةُ العلوية تعشقُ صفات الكمال بالذَّات, فأحبُّ شيء إليها العلمُ, والشَّجاعةُ, والعفَّةُ, والجودُ, والإحسانُ, والصبر, والثبات, لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها, بخلاف النفوس اللئيمة الدنيَّة فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات وأما عشّاق العلم فأعظمُ شغفاً به وعشقاً له من كل عاشقٍ بمعشوقه, وكثير منهم لا يشغلُهُ عنه أجمل صورة من البشر.

فعشقُ صفاتِ الكمال من أنفع العشق وأعلاه وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات.

الهموم لا تزول بالسكر ولكنها تتوارى ثم تعود أعظم مما كانت:

السُّكر...صاحبها يحصل له لذة وسرور بها, يحمله على تناولها, لأنها تغيب عنه عقله, فتغيب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة, ولكن يغلطُ في ذلك, فإنها لا تزولُ, ولكن تتوارى, فإذا صحا عادت أعظم ما كانت, فيدعوه عودُها إلى العود, كما قال الشاعر:

وكأسٍ شربتُ على  لذةٍ         وأُخرى تداويتُ منها بها

واللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة عاجلاً وآجلاً أعظمُ, وأبقى, وأدفع للهموم والغموم والأحزان.

وتلك اللذة أجلبُ شيءٍ للهموم والغموم عاجلاً وآجلاً, ففي لذة ذكر الله, والإقبال عليه, والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشريفة العظيمة, السالمة عن المفاسد الدافعة للمضار غنىّ وعِوض للإنسان – الذي هو إنسان – عن تلك اللذة الناقصة القاصرة المانعة لما هو أكمل منها, الجالبة لألم أعظم منها.

فوائد غضّ البصر:

قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب, فإذا غضَّ العبدُ بصره غضَّ القلبُ شهوته وإرادته, وإذا أطلق بصره أطلق القلبُ شهوته.

وفي غض البصر عدَّة فوائد:

أحدُها: تخليص القلب من ألم الحسرة, فإن من أطلق نظره دامت حسرته, فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر, فإنه يُريه ما يشتدُّ طلبُه, ولا صبر له عنه, ولا وصول له إليه, وذلك غاية ألمه وعذابه.

الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نوراً, وإشراقاً في العين, وفي الوجه والجوارح.

الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحة الفراسة, فإنها من النور وثمراته, وإذا استنار القلب صحت الفراسة, لأنه يصيرُ بمنزلة المرآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي.

الفائدة الرابعة: أن يفتح له طرق العلم وأبوابه, ويسهل عليه أسبابه, وذلك بسبب نور القلب.

الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب, وثباته, وشجاعته.

الفائدة السادسة: أنه يُورث القلب سروراً, وفرحةً, وانشراحاً أعظم من اللذَّة والسرور الحاصل بالنظر, وذلك لقهره عدوه بمخالفته, ومخالفة نفسه وهواه.

الفائدة السابعة: أنه يخُلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة, فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.

الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه باباً من أبواب جهنم, فإن النظر بابُ الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل. 

الفائدة التاسعة: أنه يقوِّي عقله, ويزيده, ويثبته.

الفائدة العاشرة: أنه يخُلِّص القلب من سُكر الشّهوة, ورقدة الغفلة.

أقسام اللذات:

أقسام اللذات ثلاثة: لذة جثمانية, ولذة خيالية وهمية, ولذة عقلية روحانية.

فاللذة الجثمانيةُ: لذة الأكل, والشُّرب, والجماع, وهذه اللذة يشترك فيها مع الإنسان الحيوانُ البهيمُ, فليس كمالُ الإنسان بهذه اللذة, لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها, ولأنها لو كانت كمالاً لكان أفضل الإنسان, وأشرفهم, وأكملهم أكثرهم أكلاً, وشرباً, وجماعاً, وأيضاً: لو كانت كمالاً, لكان نصيب رُسُل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكمل من نصيب أعدائه. فلمَّا كان الأمرُ بالضد, تبين أنها ليست في نفسها كمالاً.

وأمَّا اللذة الوهميَّةُ الخيالية: فلَّذة الرئاسة, والتعاظم على الخلق, والفخر, والاستطالة عليهم, وهذه وإن كان طُلابها أشرف نفوساً من طلاب اللذة الأولى, فإن آلامها وما توجبه من المفاسد والمضار أعظم من التذاذ النفس بها, فإن صاحبها منتصب لمعاداة كلِّ من تعاظم وترأس عليه.

وأما اللذة العقلية الروحانية: فهي كلذة المعرفة, والعلم, والاتصاف بصفات الكمال, من: الكرم, والجود, والعفة, والشجاعة, والصبر, والحلم, والمروءة وغيرها فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذات, وهو لذة النفس الفاضلة العلوية الشريفة, فإذا انضمت اللذة بذلك إلى لذة معرفة الله تعالى, ومحبته, وعبادته وحده لا شريك له, والرضا به, عوضاً من كلِّ شيءٍ, - ولا يُتعوض بغيره عنه – فصاحبُ هذه اللذة في جنةٍ عاجلةٍ نسبتها إلى لذات الدنيا, كنسبة لذة الجنة إلى لذة الدنيا, فإنه ليس للقلب والرُّوح ألذ, ولا أطيبً, ولا أحلى, ولا أنعم من محبة الله, والإقبال عليه, وعبادته وحده, وقرة العين به, والأنس بقربه, والشوق إلى لقائه ورؤيته, وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يُعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا.