فوائد من كتاب روضة المحبين لابن القيم (3-4)
قال المعتمر بن سليمان: إن الرجل ليصيب الذنب في السرِّ, فيصبح وعليه مذلَّته.
ارتكاب الحرام يفضي إلى مفاسد وأضرار والآم
فأما سبيل الزنى, فأسوأُ سبيل, ومقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل, ومستقر أرواحهم في البرزح في تنور من نار يأتيهم لهيبها من تحتهم, فإذا أتاهم اللهب, ضجوا, وارتفعوا, ثم يعودون إلى موضعهم, فهم هكذا إلى يوم القيامة, كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه, ورؤيا الأنبياء وحي لا شكَّ فيه.
والزنى يجمع خلال الشر كلها, من: قلة الدين, وذهاب الورع, وفساد المروءة, وقلة الغيرة, فلا تجد زانياً معه ورع, ولا وفاء بعهدٍ, ولا صدق في الحديث, ولا محافظة على صديق, ولا غيرة تامة على أهله, فالغدر, والكذب, والخيانة, وقلة الحياء, وعدم المراقبة, وعدم الأنفة للحرم, وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة, ولا يأمنه أحد على حرمته, ولا على ولده.
ومنها: سواد الوجه, وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين
ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني, وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه, فالعفيف على وجهه حلاوة, وفي قلبه أنس, ومن جالسه استنأنس به, والزاني تعلو وجهه الوحشة, ومن جالسه استوحش به.
ومنها: ظلمة القلب, وطمس نوره.
ومنها: الفقر اللازم.
ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف, ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة.
ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه, وغيرهم له, وهو أحقر شيء في نفوسهم, وعيونهم, بخلاف العفيف, فإنه يرزق المهابة, والحلاوة.
ومنها: الرائحة التي تفوح عليه, يشمها كل ذي قلب سليم, تفوح من فيه وجسده
ومنها: ضيق الصدر وحرجه, فإن الزناة يُقابلون بضد مقصودهم, فإن من طلب لذة العيش وطِيبه بما حرمه الله عليه, عاقبه الله بنقيض قصده, فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور, وانشراح الصدر, وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له, دع ربح العاقبة, والفوز بثواب الله وكرامته.
ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.
ومنها: أن الزنى يجُرِّئه على قطيعة الرحم, وعقوق الوالدين, وكسب الحرام, وظلم الخلق, وإضاعة أهله وعياله...فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها, ويتولد عنها أنواع أخرُ من المعاصي بعدها...وهي أجلب لشرِّ الدنيا والآخرة, وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.
فهذا بعض ما في هذه السبيل من الضرر, وأما سبيل الأمة اللُّوطية, فتلك سبيل الهالكين, المفضية بسالكها إلى منازل المعذبين, الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم, لا من تأخر عنهم ولا من تقدم, وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمعُتبرين, وموعظة للمتقين.
والصحابة اتفقوا على قتل اللوطي, وإنما اختلفوا في كيفية قتله,...وعقوبته أغلظ من عقوبة الزاني, لإجماع الصحابة على ذلك, ولغلظ حرمته, وانتشار فساده, ولأن الله سبحانه لم يعاقب أُمّةً ما عاقب اللوطية.
تذهب اللذات, وتعقب الحسرات, وتفنى الشهوة, وتبقى الشقوة.
من علامات معرفة العبد بربه:
من علامات المعرفة: الهيبة, فكلما ازدادت معرفة العبد بربه, ازدادت هيبته له, وخشيته إياه, كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر:28] أي: العلماء به, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( «أنا أعرفكم بالله, وأشدكم له خشية » ) ومن عرف الله, صفا له العيش, وطابت له الحياة, وهابه كلُّ شيءٍ, وذهب عنه خوف المخلوقين, وأنِسَ بالله, واستوحش من الناس, وأورثته المعرفة الحياء من الله, والتعظيم له, والإجلال, والمراقبة, والمحبة, والتوكل عليه, والإنابة إليه, والرضا به, والتسليم لأمره.
محبة الله جل جلاله:
المحبة شجرة في القلب, عروقها الذل للمحبوب, وساقها معرفته, وأغصانها خشيته, وورقها الحياء منه, وثمرها طاعته, ومادتها التي تسقيها ذكره, فمتى خلا القلب عن شيءٍ من ذلك كان ناقصاً.
ولو لم يكن في محبة الله إلا أنها تنجي مُحبَّهُ من عذابه, لكان ينبغي للعبد ألا يتعوَّض عنها بشيءٍ أبداً.
وسئل بعض العلماء: أين تجد في القرآن: أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فقال في قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فلم يُعذبكم بذُنُوبكم} [المائدة:18]
وإذا كانت القلوب مجبولة على حُبِّ من أحسن إليها, وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله عز وجل, كما قال تعالى: {وما بِكُم من نعمةٍ فمن الله } [النحل:53] فلا ألأمَ ممَّن شغل قلبه بحب غيره دونه.
ومن أفضل ما سئل الله عز وجل: حبُّه, وحبُّ من يحبُّه, وحبُّ عمل يقرب إلى حبِّه
والله سبحانه تعرف إلى عباده من أسمائه, وصفاته, وأفعاله بما يوجب محبتهم له, فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ومن قام به,والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق من كل وجهٍ, والذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه, وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه,...ومن أحق بالجمال ممن كل جمالٍ في الوجود فهو من آثار صنعته, فله جمال الذات, وجمال الأوصاف, وجمال الأفعال, وجمال الأسماء,...لا يستطيع بشر النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار, فإذا رأوه سبحانه في جنات عدن أنستهُم رؤيته ما هم فيه من النعيم, فلا يلتفتون إلى شيءٍ غيره, ولولا حجاب النور على وجهه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه تبارك وتعالى ما انتهى إليه بصرُه من خلقه.
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( «أسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك» )
الخوف يبعدك عن معصيته, والرجاء يحركك إلى طاعته, والحبُّ يشوقك إليه شوقاً.
المحبُّ الصادق كلما قرب من محبوبه, زاد شوقاً إليه.
الشوق يحمل المحبَّ على العجلة في رضا محبوبه, والمبادرة إليها على الفور, ولو كان فيها تلفُه.{ وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أًولاء على أثري وعجلتُ إليك رب لترضى } [طه:83-84] قال بعضهم: أراد شوقاً إليك, فستره بلفظ الرضا.
كن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر:
كن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر, واعلم أن العقوبات تختلف, فتارةً تُعجَّل, وتارةً تؤخَّر, وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما.
وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان, ودونها العقوبة بموت القلب, ومحو لذة الذكر, والقراءة, والدعاء, والمناجاة منه, وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بها, فتعمى البصيرة, وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا, وأهون منها ما وقع بالمال.
قال الحسن: ما عصى الله عبد إلا أذله. وقال المعتمر بن سليمان: إن الرجل ليصيب الذنب في السرِّ, فيصبح وعليه مذلَّته.
قال أبو سليمان الدارني: من ترك لله شهوةً من قلبه, فالله أكرمُ أن يُعذِّب بها قلبه.
وكتبت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد, فإن العامل إذا عمل بمعصية الله, عاد حامده من الناس ذاماً.
واعلم أن الجزاء من جنس العمل, والقلب المعلق بالحرام كلما همَّ أن يفارقه, ويخرج منه, عاد إليه, ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا,...فالكفر والمعاصي, والفسوق كله غموم,وكلما عزم العبد أن يخرج منه, أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفُه, فلا يزالُ في غمٍّ ذلك حتى يموت, فإن لم يخرج من غمِّ ذلك في الدنيا, بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة, وإن خرج من غمه هاهنا خرج منه هناك
- التصنيف: