تحرير حديث: "إن الله حييٌّ كريمٌ"

منذ 2019-09-17

تحرير حديث: "إن الله حييٌّ كريمٌ يستحْيي إذا رفعَ الرجلُ إليه يديه أن يرُدَّهما صِفْرًا خائبتين"

تحرير حديث: " «إن الله حييٌّ كريمٌ يستحْيي إذا رفعَ الرجلُ إليه يديه أن يرُدَّهما صِفْرًا خائبتين» "

اختلف في رفعه ووقفه، والوقف أصح عندي:

مدار هذا الحديث على أبي عثمان النهدي، عن سلمان، وقد رواه عن أبي عثمان جماعةٌ من الرواة:

الراوي الأول: جعفر بن ميمون، به مرفوعًا:

أخرجه الترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وابن حبان (876)، عن ابن أبي عدي، وأبو داود (1488)، عن عيسى بن يونس، وأحمد (5/ 438)، وسعيد بن مسعود [كما عند الحاكم (1/ 497)]، كلاهما أحمد وسعيد، عن يزيد بن هارون، والبزار (2511)، عن يحيى، والطبراني في "الكبير" [6/ 256 (6148)]، عن حماد بن أسامة، وغيرهم، كلهم عن جعفر، عن أبي عثمان النهْدي، عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: "إن الله حييٌّ كريمٌ يستحْيي إذا رفعَ الرجلُ إليه يديه أن يرُدَّهما صِفْرًا خائبتين".

لفظ أبي داود: "إن ربَّكم تباركَ وتعالى حييٌّ كريمٌ، يستحْيي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه، أن يردَّهما صِفْرًا".

ولفظ أحمد: "إنَّ الله ليستحِي أن يبسُطَ العبدُ إليه يديه يسألُه فيهما خيرًا فيردَّهما خائبتَين".

قال يزيد: أخبرنا رجلٌ في مجلس عمرو بن عبيد، أنه سمع أبا عثمان، يُحدِّث بهذا عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم  بمثله، قال يزيد: سمَّوه لي قالوا: هو جعفر بن ميمون. قال عبد الله: قال أبي: يعني جعفر صاحبَ الأنماط.

ترجمة جعفر بن ميمون ([1]):

اختلفوا في جعفر بن ميمون صاحبِ الأنماط، وهذه ترجمته مفصلة:

أولا: من وثقه، أو تكلم فيه بخير:

1- عن يحيى بن معين رحمه الله في روايةٍ: صالح الحديث. 2- قال أبو حاتم رحمه الله: قال صالح. وقال الدارقطني رحمه الله: يُعتَبر به. 3- قال ابن عدي رحمه الله: ليس بكثير الرواية، وقد حدث عنه الثقاتُ مثل سعيد بن أبي عَروبة وجماعة من الثقات، ولم أرَ أحاديثه منكرة، وأرجو أنه لا بأس به، ويُكتَب حديثُه في الضعفاء. قلت: ويظهر لي والله أعلم أنه أراد أن لا بأس به في الشواهد والمتابعات، فيُكتَب حديثُه في الشواهد، أما احتجاجًا فلا. 4- قال الحاكم رحمه الله في "المستدرك": من ثقات البصريين، حدث عنه يحيى بن سعيد، ولا يحدث يحيى إلا عن الثقات. 5، 7- ذكره ابن خَلفون وابن حبان وابن شاهين رحمهم الله في "الثقات".

ثانيا: من ضعفه وغمز فيه:

1- أحمد بن حنبل؛ فقد قال رحمه الله: ليس بقويٍّ في الحديث. وقال مرة: أخشى أن يكون ضعيفَ الحديث. 2- يحيى بن معين؛ فقد قال رحمه الله: ليس بذاك. ومرة: ليس بثقةٍ. وفي سؤالات الآجُرِّي لأبي داود: قال: سمعت يحيى يضعِّفُه. 3- البخاري؛ فقد قال رحمه الله: ليس بشيء. 4- النسائي؛ فقد قال رحمه الله: ليس بالقوي.

5- يعقوب بن سفيان؛ فقد ذكره رحمه الله في "باب من يُرغَّبُ عن الرواية عنهم" من كتاب "المعرفة". 6- أبو محمد بن الجارود؛ فقد قال رحمه الله: ليس بثقةٍ. 7- العُقَيلي؛ فقد ذكره رحمه الله في الضعفاء. 8- أبو العرب القَيرواني؛ فقد ذكره رحمه الله في الضعفاء. 9- ابن الجوزي ؛ فقد ذكره رحمه الله في "الضعفاء والمتروكون".

وقال ابن حجر: صدوق يخطئ.

قلت: والذي يظهر لي في أمر جعفر أنه حسن الحديث إذا لم يتفرَّد بما لم يُستَغرَبُ منه، أو يُستَنكَرُ عليه، أو لم يخالفْ من هو أوثق منه وأثبت، وأنه حسن في الشواهد والمتابعات، والله أعلم.

الراوي الثاني: سليمان التَّيْمي، رواه سليمان، عن أبي عثمان، عن سلمان. وقد اختُلِف في رفعه ووقفه عليه:

الوجه الأول: الموقوف: وقد رواه موقوفًا جماعةٌ:

أولهم: يزيد بن هارون، أخرجه أحمد (5/ 438)، والحاكم (1/ 497)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1013). قلت: يزيد بن هارون ثقة متقن.

ثانيهم: معاذ بن معاذ، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 340، 13/ 339). قلت: معاذ بن معاذ العَنبري ثقة متقن.

ثالثهم: يحيى القطان، أخرجه أحمد في "الزهد " (821). قلت: والقطان ثقة إمام.

ولفظ أحمد في المسند: "إن الله ليستحِي أن يبسُطَ العبدُ إليه يديه يسألُه فيهما خيرًا فيردُّهما خائبتَين".

ولفظ أحمد في "الزهد": عن سلمان قال: لو يعلَمُ الناسُ عونَ الله للضعيف ما غالَوا بالظَّهْرِ، قال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ يستحْيي من العبدِ يبسطُ إليه يديه يسألُه فيهما خيرًا؛ فيردُّهما خائبَين، قال له: لو باتَ رجلٌ يُطاعِنُ الأفرانَ وباتَ آخرُ يذكرُ الله عزَّ وجلَّ رأيتُ أنَّ ذاكرَ الله وذاكرَ القرآن أفضلُ، قال: ما من رجلٍ يتوضأُ، فيُحسِنُ الوُضوءَ، ثم يأتي المسجدَ فلا يأتيه إلا لعبادةٍ، إلا كان زائرًا لله عزَّ وجلَّ، وحَقٌّ على الله كرامَةُ الزائرِ".

الوجه الثاني: المرفوع: وقد رواه مرفوعاً محمد بن الزِّبْرِقان.

أخرجه ابن حبان (880)، والحاكم (1/ 535)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1110). قلت: ابن الزِّبْرِقان صدوق، وقد خالفه ثلاثةٌ من الأئمة الثقات فوقفوه، وروايتُهم أولى، فروايتُه المرفوعة شاذة، والله أعلم.

الراوي الثالث عن أبي عثمان: حميد الطويل، به موقوفًا:

أخرجه علي بن حُجْر السَّعدي في "أحاديث إسماعيل بن جعفر المدني" (127)، عن حُميد، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان موقوفًا. قلت: حُميد هو الطويل ثقة حافظ.

الراوي الرابع والخامس عن أبي عثمان: ثابت وسعيد:

أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (156)، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, ثنا محمد بن إسحاق الصَّاغاني, ثنا عفان, ثنا حماد بن سلمة , عن ثابت, وحميد, وسعيد الجُرَيري, عن أبي عثمان النهدي , عن سلمان , أنه قال: "أجد في التوراةِ: أنّ الله حيِي ٌّكريمٌ يستحِيي أن يَرُدَّ يدين خائبتين سُئِلَ بهما خيرًا".

الراوي السادس عن أبي عثمان: أبو حبيب السُّلَمي موقوفًا:

أخرجه البرجلاني في "الكرم والجود" (32) قال: ثنا أبو عامر العَقَدي، قال: ثنا أبو حبيب سِنان السُّلَمي، به. قلت: أبو حبيب صدوقٌ، وأبو عامر ثقةٌ.

الراوي السادس عن أبي عثمان: يزيد بن أبي صالح موقوفًا.

أخرجه هنَّاد في "الزهد" (2/ 629)، عن وكيع، عن يزيد، به. قلت: يزيد هو أبو حبيب الدبَّاغ صدوق، وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ليس به بأس ([2]).

كلام العلماء في الحديث:

أولًا: مَن صححه:

قال الترمذي رحمه الله : حديثٌ حسنٌ غريبٌ، ورواه بعضُهم ولمْ يرفَعْه.

وقال البغوي رحمه الله ([3]): حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

وقال ابن حجر رحمه الله ([4]): سنده جيدٌ.

وقال الحاكم رحمه الله بعدما رواه موقوفًا: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد وصله جعفر بن ميمون. ورواه الحاكم عن ابن الزَّبْرِقان مرفوعًا، ثم قال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه.

وقال الألباني رحمه الله ([5]): حديثٌ صحيحٌ.

ثانيًا: مَن أعلَّه:

حاولت استقصاء البحث في أحدٍ من أهل العلم أعلَّ هذا الحديث، فرجعتُ صِفر اليدين، ونسأل الله أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا. وقد جنحَ شيخنا حفظه الله إلى ترجيح الموقوف.

ومِمَّن أشارَ إلى الخلافِ دونَ ترجيحٍ البيهقي والترمذي وابن تيمية رحمهم الله.

قال البيهقي رحمه الله ([6]): رفعَه جعفرُ بن ميمونٍ هكَذا، ووقَفَه سليمانُ التَّيمِىُّ عن أبى عثمانَ فى إحدَى الروايتين عنه.

وقال الترمذي رحمه الله: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، ورواه بعضُهم ولمْ يرفَعْه.

وقال ابن تيمية رحمه الله ([7]): وعن سلمان الفارسي موقوفًا ومرفوعًا، فذكره.

وظهر مما سبق أن سبب اختلافهم: اختلافهم في الترجيح بين المرفوع والموقوف، فبعضُهم رجح الروايةَ الموقوفة لكثرة من رواها، وبعضُهم صحح الروايةَ المرفوعة؛ لكونها زيادةَ ثقة، وزيادةُ الثقة مقبولةٌ.

الترجيح:

الصناعة الحديثية تقتضي أن يكون الموقوفُ أصحَّ من المرفوع، وذلك للأسباب الآتية:

أولا: الذين رووه موقوفًا أكثرُ وأثبتُ، فقد رواه مرفوعًا: جعفر بن ميمون، وسليمان التيمي في وجه، فهذان اثنان، ورواه موقوفًا: حميد الطويل، وثابت، والجُرَيري، وأبو حبيب السُّلَمي، ويزيد بن أبي صالح، وسليمان التيمي في وجه هو الأصحُّ عنه، فهؤلاء ستة، ورواية هؤلاء الجمع تُقدَّم على رواية الاثنين.

ثانيا: أنَّ الأصح في رواية التيمي الرفع؛ فقد رواها ثلاثةٌ من الأثبات (القطان، ويزيد بن هارون، وابن أبي صالح)، وخالفهم  محمد بن الزِّبْرقان.

ثالثا: إذا قلنا أنَّ الأصح في رواية التيمي الوجه المرفوع فلم يبقَ إلا رواية جعفر بن ميمون، وجعفر قد تكلَّم فيه غيرُ واحد من أهل العلم، ففي الاحتجاج به حتى لو لم يُخَالف نظرٌ، فكيف لو خالف من هم أوثقُ منه وأثبتُ وأكثرُ؟

رابعا: أن زيادة الثقة عندنا لا تقبل ولا تُردُّ بإطلاق، وإنما يُنظَرُ في القرائن والأحوال، والله أعلم

{{{

 

([1]) "تهذيب الكمال" (5/ 114)، "إكمال تهذيب الكمال" (3/ 234).

([2]) "الجرح والتعديل" (9/ 272).

([3]) "شرح السنة" (1385).

([4]) "فتح الباري" (11/ 143).

([5]) "صحيح أبي داود" (1337).

([6]) "السنن الكبرى" (2/ 211).

([7]) "درء تعارض العقل والنقل (2/ 131).

أبو حاتم سعيد القاضي

طالب علم وباحث ماجستير في الشريعة الإسلامية دار العلوم - جامعة القاهرة