الأخوة لماذا؟ - أولاً: لإقامة كيان الأمة الإسلامية.

منذ 2019-09-25

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة "

… إننا في عصر استذل فيه المسلمون، وبلغوا من العجز والوهن على نحو لم يسبق له مثيل، عَصرٌ سقطت فيه خلافتهم التي استمرت من عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ليسجل التاريخ وصمة عار على جبين كل المسلمين في هذا العصر، عَصرٌ سقطت فيه أراضى المسلمين تباعًا ومازال المسجد الأقصى الأسير يئن تحت أيدي أعداء الله، عَصرُ الفوضى والغُثائية، عصر الغزو الفكري والثقافي ومحو الهوية الإسلامية، ثمَّ هو عَصْرُ الشتات والفُرقة والعداوات.


…كل هذا ونحن في سبات عميق، فبعضنا قصارى جهده الأحلام والأوهام، وبعضنا لا يعرف سوى الخطب والكلام، وبعضنا والى أعداءه وترك شرعة الإسلام، وبعضنا راح ضحية القهر فقصف الأقلام، وغالبنا صار يهوى الغفلة كيفما اتفقت له وعلى الدين السَّلام.
…فالمسلمون مقهورون نفسيًّا، أُريد لهم ذلك وللأسف انصاعوا لتيار أعدائهم، حتى انسحب البساط من تحت أرجلهم وهم في غفلة معرضون، لم تنفع معهم النذر الإلهية وراحوا في خوضهم يعمهون.

إخوتاه ..
…وسط كل هذا أنتم ـ يا صفوة الخَلْق ـ معاشر الملتزمين ـ مطالبون بتغيير وجه الأرض، وإقامة دولة الإسلام، ولا يتأتى لكم ذلك حتى تقيموا في نفوسكم للإسلام دولة، حتى تكونوا فيما بينكم نموذجاً مصغرًا لهذه الدولة، فيرى العالم بأسره من سمتكم ما يدعوه للحوق بركابكم، فوالله الذي نفسي بيده لئن أقمتم الإسلام فيما بينكم حقًا ليستخلفنكم الله في الأرض، لكن ذلك مرهون بإصلاح أنفسكم، وهذا موعود الله لأهل الإيمان في كل زمان.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [النور/55 - 57].
إنَّ شروط الاستخلاف والتمكين وحصول الأمن والطمأنينة واضحة جلية، إنَّه تحقيق الإسلام بسلامة المعتقد وعبودية الله وحده، وتزكية النفوس بالعبادة والطاعة ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم من وراء ذلك استشعار العزة واليقين بعلو دين الله، فإنَّما الخطب فينا، إذ لو تعاون أهل الإيمان على تحقيق الإسلام أولاً فيما بينهم، وأصلحوا ذوات أنفسهم فليكن الجميع على يقين بأنَّ نصر الله قادم، وأنَّ المستقبل لهذا الدين، والعزة للمسلمين ولو كره الكافرون.
إخوتاه ..
…إنَّ بناء الأمة من جديد يحتاج إلى تضافر الجهود، ولا ينتج هذا إلا عن صفاء السرائر والاجتماع على قلب رجل واحد، فإننا ـ معاشر الملتزمين ـ نحمل العبء الثقيل أمام الله تعالى تجاه هذه الأمة وهذا دورنا الذي لا ينبغي أن نتخلف عنه.


…وهنا لابدَّ من وحدة الهدف ووحدة المنهج لتجتمع هذه القلوب المؤمنة برباط إيماني متين، وهذا هو ما صنعه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حين أرسى دعائم الأمة، فجعل الصحابة يجتمعون على هدف واحد هو التوحيد، فصارت " لا إله إلا الله " هي العروة الوثقى، حدث هذا في حلقة صغيرة كانت تعقد في بيت الأرقم بن أبى الأرقم لتلاوة القرآن، فأقبل الصحابة على تلكم الوجهة، وارتضوا آنئذٍ التضحية بكل شيء في سبيل الله جل وعلا، ورسخ في صدورهم معنى "الولاء والبراء"، فكانوا بالأمس تقوم بينهم العلاقات على قرابة الدم أو المصلحة المشتركة أو لقاءات الشهوة، ومثل هذه العلاقات كانت تصنع فيهم روابط من نوع ما، كانت لا تصل أبدًا لحد الالتحام والتلاصق، أما وقد غُيرت وجهتهم ونفضوا عنهم جاهلياتهم فحينئذٍ ذابت ذاتياتهم في بوتقة الإيمان، لم يعد هناك هذا السياج المنصوب من كل فرد حول نفسه بحيث لا يمكن أن يتسع لغيره، فالحب في الله نسيج وحده؛ لأنك حينئذٍ ستجتمع معي في المرجعية وهي كتاب الله وسنة رسوله، فلا يحدث شقاق ولا تنافر، أمَّا إذا دخلت الأهواء فالنُّفرة والضغائن والشّجار والتشاحن.


إخوتاه ..
…حين نقول: إن بناء كيان الأمة يبدأ من لبنة " الأخوة " التي هي ثمرة " التَّوحيد " نعنى أنَّ الرباط العقدي الإيماني هو الرباط الوحيد الذي يمكنُه أن تتسع له جميع القلوب المؤمنة، وانظر إلى احتكاك الناس على مستوى المعاملات المادية كيف يفسد العلاقات بينهم.
انظر مثلاً: كيف أنَّ كل إنسان ينصب حوله حدًا لا يسمح لأحدٍ أن يتجازوه، وحين يقترب منه الآخرون تبدأ المشاكل وتظهر العورات وتنكشف الحقائق، أمَّا المتحابون في الله فعلى شاكلة أخرى إذ هذه الهموم السفلية لا تشغل أذهانهم، ثمَّ إنهم لا يتعلقون بالذوات، فأنت لا تحبني لذاتى لكونى فلانًا، بل لارتباطي بك برباط أسمى وأوثق من المصالح الذاتية إنه عبادة الله وحده، إنَّه الحب في الله الذي لا تُحَلّ وشائجه بسيوف الدنيا، فصار الهَمّ الأول والأوسط والأخير هو رضا الله جل وعلا فانعدم الخلاف، ولذلك علينا أن نتهم نياتنا ونجرد إخلاصنا إذا ما وجدنا الخلاف يحتدم بيننا، ونعى جيدًا أننا أصحاب دين لا دنيا، فلا تشغلنا تلك السفاسف التي لا يتناولها إلا الرعاع.
قالوا: إذا رأيت الرجل ينافُسك في الدنيا فألقها في نحره.


إخوتاه ..
…بهذا الآن أدعوكم لكى تبنوا أمتكم، فتجتمع قلوبكم على الحب في الله، ويحدث بينكم هذا الإخاء العجيب الذي يغير من شكل ومنظومة المجتمع بأسره، فنرى الأخ يسارع في الحفاوة بأخيه، يسعى في قضاء حوائجه، يعينه على الطاعات، يحوطه من روائه، يقدم له يد العون في أى لحظة، تتلاقى قلوبهم حتى يكون الأخ أحب إلى أخيه من ملء الأرض ذهبًا.
إخوتاه ..
…أذيبوا جبل الجليد التي ترسب على قلوبكم تجاه إخوانكم، فوالله إنَّ القلب ليحترق كمدًا على واقع الإخوة الآن، ولا أدرى ماذا أصنع حتى تعودوا إلى الجادة من جديد؟ ماذا تريدون بعد هذا العمل المكثف الدعوى من أجل إيصال نداء الحق لكل مكان، ما هو المطلوب مِنَّا حتى تفيق، إننى أشعر بمرارة وحرقة حين ألمس واقعنا المعاصر، كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسير الاثنان في الطريق فتفرق بينهم شجرة فيعودان ليسلم أحدهما على الآخر، وهي من السنن التي باتت مهجورة بيننا في جملة السنن الموات، فكيف صارت أحوالنا الآن؟ ولماذا؟

إخوتاه ..
…سبيلنا لإقامة كيان الأمة يبدأ من قلوب المؤمنين المتحابة في الله جل وعلا، فلابدَّ من تجريد المحبة الفينة بعد الفينة، فإنكم لا تؤمنون حتى تحابوا.
…كان عُمر ـ رضى الله عنه ـ يقول: إنَّه ليمر بخاطري الرجل من إخواني وأنا في الليل فأقوم لأدعوَ الله وأقول: يا طولها من ليلة، فإذا أصبحت بادرته فالتزمته.
فأين بالله عليكم هذه الروح بيننا الآن؟!!


إخوتاه ..
…الله سائلكم وَسَائِلُ كل أحد عن هذه الأمة المُضَيّعة، فأعدوا لهذا السؤال جوابًا من واقع المسئولية الملقاة على عاتقكم، لا أطالبكم بالشيء العسير، أقول لكم: تصافوا فكونوا صفًا واحدًا:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف/4] تصافوا، فأذهبوا عن أنفسكم الدَّخن والدَّخل حتى تصفو سرائركم فتلتئم بوشائج الإيمان، ابدأ من الآن فاتصل بمن هجرته، بمن ضاع وتاه في خضم البلاء، اتصل بمن لزمته الأيام على طاعة الله ثم حالت بينكم الدنيا وتشاغلتم بها عن مقصودكم الأسمى وهو رضا الله تبارك وتعالى، نعم حاول أن يتسع صدرك للجميع، وثق أنك ملاقٍ حسابك وجزاءك في العاجل قبل الآجل، ضع همَّ الأمة نصب عينيك ولا تكن أنت على الأمة همّا.


إخوتاه ..
…الله الله في أمتكم قبل فوات الوقت، وحينها ستوفي كل نفس ما كسبت وحينها لن يجدي الصراخ {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌوَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [الأنعام/31 - 32] أنذرتكم مغبة واقعنا الأليم فاللَّهم فاشهد.
الأخوة لماذا؟

محمد حسين يعقوب

داعية إسلامي مصري، حاصل على إجازتين في الكتب الستة وله العديد من المؤلفات

 
المقال التالي
ثانيا: لتمحيص عيوبنا في مرآتها