شرح صحيح البخاري - (25) نماذج من أدب السلف مع مشايخهم وأقرانهم

منذ 2019-09-29

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عندما ذهب إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن جلس عند قدميه، فأمره عبد الرزاق أن يرتفع فيجلس بجانبه، قال: لا، لا أجلس إلا عند قدميك، هكذا أمرنا أن نصنع مع علمائنا.

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عندما ذهب إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن جلس عند قدميه، فأمره عبد الرزاق أن يرتفع فيجلس بجانبه، قال: لا، لا أجلس إلا عند قدميك، هكذا أمرنا أن نصنع مع علمائنا.


وما وضع هذا من قدر الإمام أحمد رحمه الله، وفعلها الإمام أحمد تأدباً، فتأسينا به بعد آلاف السنين، وكذلك فعل الإمام أحمد مع خلف الأحمر لما ذهب ليقرأ عليه، فقد جلس عند قدميه.
هناك حكاية لطيفة عن الأدب مع الأقران -وهي صحيحة- رواها ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب: (الجرح والتعديل) وهي مختصرة، ولكنها مذكورة بكاملها في كتاب: علوم الحديث للحاكم، وشعب الإيمان للبيهقي، وكتاب: الإرشاد للخليلي، وكتاب: فضل التهليل لـ ابن البناء، وتاريخ دمشق لـ ابن عساكر، وتاريخ بغداد، هذه القصة -وهي قصة عجيبة وصحيحة- يحكيها محمد بن مسلم بن وارة الرازي.


قال: قلت لـ أبي حاتم الرازي: هلم بنا ندخل على أبي زرعة - عبيد الله بن عبد الكريم الرازي - نلقنه، وكان أبو زرعة في سياق الموت يعني: في النزع الأخير- قال: قلت له: إن من حقوق الصحبة، أن نكون معه إلى آخر يوم في الدنيا، إلى آخر لحظة، ونكون أوفياء بأن نلقنه الشهادة.


فقال أبو حاتم: إني لأستحيي أن ألقن أبا زرعة -يعني مثل: أبي زرعة الرازي الذي أفنى حياته في جمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان رجلاً عاملاً بعلمه- مثل هذا أنا أستحيي أن ألقنه.


قال له: إذاً تعال نحاول معه بأي طريقة، كأن ندعي أننا نتذاكر حديثاً مثل حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، كما كنا نتذاكر من قبل، أنت تقول إسناداً، وأنا أقول إسناداً، حينها عندما يسمع أبو زرعة هذا الحديث سيذكر إن كان ناسياً وينطق بالشهادة، قال له:حسن! فذهبا فدخلا عليه، فقال محمد بن مسلم بن وارة: حدثنا أبو عاصم النبيل - الضحاك بن مخلد - قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، وسكت، نسي الإسناد من هيبة أبي زرعة! فهابه الرجلان، وهؤلاء أقران، هل تعرف أن أبا حاتم وأبا زرعة كانا أولاد خال، ومحمد بن مسلم الرازي أعلى منهما في الطبقة والإسناد، كما سيظهر حتى من هذا الحديث.


فـ محمد بن مسلم قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، وسكت، فقال أبو حاتم: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر.
ولم يستطع أن يكمل، ووقف هو أيضاً، لم يستطع أن يكمل أبو حاتم الحديث.
فـ أبو زرعة قال: أقعداني فأقعداه فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريش، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ... » وخرجت روحه مع الهاء.
لم يقل: (دخل الجنة) وفي رواية أخرى أنه قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ومات.


فانظر إلى هذا الأدب العجيب! حتى مع الأقران، مع أنه عادة أن تحصل الخلافات بين الأقران وهي مسألة واردة؛ فالحسد والغبطة عادة ما تكون بين الأقران، لكن هؤلاء لما طلبوا العلم دخلوه من باب الأدب، يكفي أن تشتغل بعيبك.


وأنا أرى أن هذه الدروس مهمة؛ لأن الطلبة في زمننا هذا اشتغل بعضهم بالكلام على بعض، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار كلام المبتدعة، وغير ذلك من الدعاوي، وهذه مزلة أقدام.
وكما قيل: لا تحملن كلمة لأخيك على الشر وأنت تجد لها في الخير محملاً.

أبو إسحاق الحويني

أحد الدعاة المتميزين ومن علماء الحديث وقد طلب العلم على الشيخ الألباني رحمه الله

المقال السابق
(24) وجوب محافظة العالم على هيبته ليصل علمه للناس
المقال التالي
(26) أهمية الرفق والصفح في الدعوة إلى الله تعالى