الشرائع والطبائع
الفطرةُ تُفسِّرُ نَفْسَها، ويصعُبُ تفسيرُها مِن جميعِ الوجوهِ بنصٍّ، وخلَقَها اللهُ صحيحةً سليمةً، فإذا نزلَتْ عليها شرائِعُه، فَهِمَتْ هذه الفطرةُ تلك الشرائعَ بلا تفسيرٍ، وتطابقَتْ معها كتطابُقِ أغطيةِ الأقلامِ على الأقلامِ..
الشرائعُ والطبائعُ .. وتغييرُها:
الفطرةُ تُفسِّرُ نَفْسَها، ويصعُبُ تفسيرُها مِن جميعِ الوجوهِ بنصٍّ، وخلَقَها اللهُ صحيحةً سليمةً، فإذا نزلَتْ عليها شرائِعُه، فَهِمَتْ هذه الفطرةُ تلك الشرائعَ بلا تفسيرٍ، وتطابقَتْ معها كتطابُقِ أغطيةِ الأقلامِ على الأقلامِ؛ فمثلاً:
اللهُ يأمُرُ بأنْ يأخُذَ الإنسانُ زينَتَهُ عند كلِّ مسجدٍ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، لكنَّه لا يفسِّرُ له تلك الزينةَ؛ لأنه مطبوعٌ على معرفتِها بنَظَرِه.
ويأمرُهُ بتحسينِ الصوتِ بالقرآنِ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» لكنَّه لا يُفسِّرُ له ما الصوتُ الحسَنُ مِن القبيحِ؛ لأنَّه مطبوعٌ على معرفتِه بسمعِه وحِسِّه.
ويأمرُهُ بالتطيُّبِ بالرائحةِ الحسنةِ، ولكنْ لا يُفسِّرُ اللهُ له ما الرائحةُ الطيبةُ مِن الخبيثةِ؛ فلن تُعرَفَ بدليلٍ أكثرَ مما هو مطبوعٌ عليه بشَمِّه.
وإذا تغيَّرتِ الفطرةُ التي طُبعَ عليها الإنسانُ، فلن يفهَمَ الأوامِرَ الشرعيةَ التي أمرَهُ اللهُ بها، حتى تُعدَّلَ الفطرةُ عنِ انتكاستِها؛ لتستوعِبَ؛ كالإناءِ المقلوبِ لا بُدَّ مِنْ تعديلِه حتَّى يستوعِبَ ما يوضعُ فيه؛ لهذا شدَّد اللهُ في أمرِ الفطرةِ، وحذَّر مِن تغييرِها؛ لأنَّها تؤثِّرُ على استيعابِ أوامرِه ونواهِيه، والإيمانِ بعلَلِها ومقاصدِها، وكُلَّما كانتِ الفطرةُ أشدَّ تغييراً، كانَتْ أشدَّ ردّاً للجزئياتِ؛ لأنَّها لم تَفْهَمِ القواعدَ والكُلِّيَّاتِ، فالأُمَمُ التي تُحِلُّ الزِّنَى وتُبِيحُهُ وتُشَرِّعُه لن تفهَمَ الحجابَ، وتحريمَ الخلوةِ والاختلاطِ؛ لأنَّها مقدِّماتٌ وحواجزُ بعيدةٌ لشيءٍ لا يؤمِنُون بتحريمِه.
والإنسانُ مفطورٌ على فِطَرٍ عديدةٍ، وهذه الفِطَرُ منها ما يُمكِنُ تغييرُه، ومنها ما لا يمكِنُ تغييرُه؛ لتجذُّرِه وامتزاجِهِ بالخِلْقةِ البشريةِ، وتكوُّنِ الإنسانِ منها كتكوُّنِ الماءِ مِن عناصرِه.
وما يمكِنُ تغييرُه، يختلِفُ في مقدارِ الزمانِ والقوةِ التي يَحْتاجُ إليها للتغييرِ، بحسبِ ثباتِه في الفطرةِ ورسوخِه فيها، والشيطانُ يحرِصُ على تغييرِ الفطرةِ أشَدَّ مِن حرصِهِ على تغييرِ الشريعةِ؛ لأنَّها أشدُّ في الانحرافِ والإعراضِ، ثم إنَّ العودةَ إلى الفطرةِ الصحيحةِ تحتاجُ إلى عقودٍ طويلةٍ، ورُبَّما قرون، وأما تغييرُ الشريعةِ فيحتاجُ إلى مجدِّدٍ يعيدُ الأدلَّةَ إلى حقيقتِها، فتتلقَّاها الفطرةُ الصحيحةُ بسهولةٍ، وإن كابَرَتْ فلا يطولُ عنادُها، حتى تستَسْلِمَ وتُذْعِنَ لها.
ثم إنَّ تغييرَ الفطرةِ الواحدةِ يُلْغِي معه شرائعَ كثيرةً متعدِّدةً؛ كقَطْعِ أغصانِ الشجرةِ الكبيرةِ يسقُطُ معها ما لا يُحصى مِن عيدانِها وأوراقِها، لو تتبَّعَها وحدَها، أتعَبَتْه جهداً، وطالَتْ معه زمناً؛ ولهذا فمِن وسائلِ الشيطانِ وأعوانِه: تغييرُ أصولِ الفطرةِ؛ ليسهُلَ سقوطُ توابِعِها من مقرَّراتِ الشريعة.
فطرةُ العفافِ وتغييرُها:
ومِن أعظمِ أصولِ الفطرةِ: فطرةُ العفافِ، وإنْ غُيِّرَتْ فإنها يتغَيَّرُ معها -تبعاً- شرائعُ كثيرةٌ؛ كغَضِّ البَصَرِ، وخَفْضِ صوتِ المرأةِ، وعدمِ خضوعِها به، والحجابِ، وإخفاءِ المفاتِنِ منعاً للإثارةِ، وعدمِ الاستهانةِ بالخلوةِ، والفصلِ بين الجنسَيْنِ، وتركِ الغَزَلِ، وعدمِ اتخاذِ الأصدقاءِ بين الجنسَيْنِ، وغيرِ ذلك، فهذه وغيرُها تسقُطُ، إن سقطَتْ فطرةُ العفافِ، تبعاً.
لهذا نَجِدُ أنَّ جميعَ الأنبياءِ يَدْعُونَ إلى حفظِ أصول الفطرةِ مع التوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ أصلُ العباداتِ، والفطرةَ أصلُ المُرُوءاتِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بمَكَّةَ إلى هذا، فقد قال أبو سفيانَ لهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ لَمَّا سأله عما يدعو إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يأمُرُنا بالصلاةِ والصدقِ والعفافِ.
- التصنيف:
- المصدر: