فوائد من عدّة الصابرين (4-4)
فوائد من عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم
{بسم الله الرحمن الرحيم}
الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم في فضيلة الصبر:
عن عمر بن الخطاب قال: وجدنا خير عيشنا الصبر.
وقال على بن أبي طالب : الصبر مطية لا تكبو.
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة, لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده.
وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: سحابة ثم تنقشع.
وقيل للأحنف بن قيس: ما الحلم ؟ قال: أن تصبر على ما تكره قليلاً.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني الحس بن عبدلعزيز الجروي قال: مات ابن لي نفيس, فقلت لأمه: اتقي الله واحتسبيه, فقالت: مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر:
حكى أبو الفرج ابن الجوزي في ذلك ثلاثة أقوال:أحدها: أن الصبر أفضل. والثاني: أن الشكر أفضل.والثالث: أنهما سواء, كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت.
الحكم بين الفريقين, والفصل بين الطائفتين:
فنقول: كل أمرين طلبت الموازنة بينهما ومعرفة الراجح منهما على المرجوح, فإن ذلك لا يمكن إلا بعد معرفة كل واحد منهما, وقد ذكرنا حقيقية الصبر وأقسامه وأنواعه, فنذكر حقيقة الشكر وماهيته.
قال في الصحاح: الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف, يقال: شكرته, وشكرت له, واللام أفصح.
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان, لا يكون شكوراً إلا بمجموعها:
أحداها: اعترافه بنعمة الله عليه.والثاني: الثناء عليه بها.
والثالث: الاستعانة بها على مرضاته.
وأما قول الناس في الشكر:
قيل: الشكر استفراغ الطاقة في الطاعة.
وقيل: معرفة العجز عن الشكر.
وقيل: الشاكر الذي يشكر على العطاء, والشكور الذي يشكر على البلاء.
وإذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده يمتحن بها صبره وشكره, عُلم أن الصبر والشكر مطيتان للإيمان لا يُحمل إلا عليهما, ولا بد لكل مؤمن منهما, وكل منهما في موضعه أفضل, فالصبر في موطن الصبر أفضل, والشكر في مواطن الشكر أفضل.
أمثلة تبين حقيقة الدنيا:
مثلت الدنيا بمنام, والعيش فيها بالحلم, والموت باليقظة.
ومثلت بمزرعة, والعمل فيها البذر, والحصاد يوم المعاد.
ومُثلت: بحية ناعمة الملمس, حسنة اللون, وضربتها الموت.
ومُثلت: بطعام مسموم, لذيذ الطعم, طيب الرائحة, من تناول منه قدر حاجته كان فيه شفاؤه, ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه.
ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على عينين ففتنت بهما الناس وهي تدعو الناس إلى منزلها, فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها, وألقتهم في الحفر, وقد سلطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديماً وحديثاً, والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلت بهم الآفات, وهم يتنازعون في مصارعهم, {وَسَكَنتُم في مَساكِنِ الَّذينَ ظَلَموا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنا بِهِم وَضَرَبنا لَكُمُ الأَمثالَ} [إبراهيم:45]
ويكفى في تمثيلها ما مثلها الله في كتابه فهو المثل المطبق عليها.
فوائد الصدقة:
في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله, فمنها: تقي مصارع السوء, تدفع البلاء حتى أنها لتدفع عن الظالم, تطفئ الخطيئة, تحفظ المال, تجلب الرزق, تفرح القلب, توجب الثقة بالله, وحسن الظن به, ترغم الشيطان, تزكى النفس وتنميها, وتُحببُ العبد إلى الله وإلى خلقه, وتستُر عليه كل عيب, تزيد في العمر, تستجلب أدعية الناس ومحبتهم, تدفع عن صاحبها عذاب القبر, تكون عليه ظلاً يوم القيامة, تشفع له عند الله, تهون عليه شدائد الدنيا والآخرة, تدعوه إلى سائر أعمال البر فلا تستعصي عليه.
حقيقة الزهد:
الزهد فراغ القلب من الدنيا, لا فراغ اليد منها.
والزاهد أروح الناس بدناً وقلباً, فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له في إرادة الله والدار الآخرة, - بحيث فرغ قلبه لله, وجعل حرصه على التقرب إليه, وشحه على وقته أن يضيع منه شيء في غير ما هو أرضى لله وأحب إليه – كان من أنعم الناس عيشاً, وأقرهم عيناً, وأطيبهم نفساً, وأفرحهم قلباً, فإن الرغبة في الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل, وتطيل الهم والغم والحزن, فهي عذاب حاضر يؤدي إلى عذاب منتظر أشد منه, وتفوت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا.
وإنما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين:
أحدهما: الرغبة في الدنيا والحرص عليها.
الثاني: التقصير في أعمال البر والطاعة.
الله جل جلاله صبور شكور, ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به
أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيهاً له بصيغة المبالغة, ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل, يدعون له ولداً وهو يعافيهم ويرزقهم )
وأما تسميته سبحانه بالشكور..ففي القرآن تسميته شاكراً, قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء:147]
وتسميته أيضاً شكوراً, قال الله تعالى: { وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } [التغابن:17]
فهو الشكور على الحقيقة فإنه يعطى العبد ويوفقه لما يشكره عليه, ويشكر القليل من العمل والطاعة, ويشكر الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة, ويشكر عبده بأن يُثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى, ويلقى له الشكر بين عباده ويشكره بفعله.
ومن شكره سبحانه أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً, ولو أنه مثقال ذرة.
ومن شكره: أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا, ويخفف به عنه يوم القيامة, فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شكره أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى, وغفر لآخر بتنحية غصن شوك عن طريق المسلمين, فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه إلى نفسه, والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه.
وأبلغ من ذلك أنه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه وشكره عليه, بل شكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد إليها, فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر, فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه ؟
ومن شكره سبحانه أنه يُخرجُ العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير, فلا يضيع عليه هذا القدر.
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر, كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها واتصف بضدها, وهذا شأن أسمائه الحسنى: أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها, وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها, ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمُهين واللئيم.
وهو جميل يحب الجمال, عليم يحب العلماء, رحيم يحب الراحمين, محسن يحب المحسنين, شكور يحب الشاكرين, صبور يحب الصابرين, جواد يحب أهل الجود, ستير يحب أهل الستر, قادر يلوم على العجز. والمؤمن ألقوي أحب إليه من المؤمن الضعيف, عفو يحب العفو, وتر يحب الوتر, وكل ما يحبه فهو من آثار أسمائه وصفاته وموجبها, وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: